بعد طول انتظار، حدّد الرئيس التونسي قيس سعيد موعد الانتخابات الرئاسية التونسية، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. خطوة بددت القلق بشأن إجرائها، لكنها لم تلغِ مخاوف المعارضة ومنافسي الرئيس من مغبة إقصائهم مبكراً من سباق الرئاسة في ظل التتبعات القضائية والأحكام التي تطاول المرشحين بمجرد إعلانهم نية الترشح للانتخابات، فضلاً عن شرط السجل العدلي الذي أدرج في الظاهر للتثبت من تمتّع المترشح المحتمل بحقوقه المدنية والسياسية وعدم تورطه في إحدى الجرائم الانتخابية، فيما المعطيات على الأرض تؤكد أنه أدرج لتعطيل المرشحين أيضاً.
الرئاسة التونسية قالت في بيان لها: “أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد، الثلاثاء، أمراً يتعلق بدعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية يوم الأحد 6 أكتوبر 2024″، لكن من دون أن يعلن سعيد، الذي انتُخب عام 2019، عن ترشحه رسمياً، وإن كان من المتوقع على نطاق واسع أنه سيفعل ذلك لاحقاً. علماً أن ولاية سعيد تكون قد امتدت لخمس سنوات في تشرين الأول المقبل، بعدما فاز بغالبية كاسحة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في خريف 2019.
احتدم السجال داخل صفوف المعارضة في الفترة التي سبقت تاريخ الإعلان عن موعد الانتخابات، فهي رأت أن هناك تعمداً لتأخيرها وإثارة الغموض حول إجرائها حتى لا يتمكن منافسو الرئيس من الاستعداد الكافي لها.
لكن بمجرد إعلان موعد الانتخابات حتى بدأت تحديات أخرى أمام المرشحين لها، إذ بدأ السؤال حول مدى توافر الأجواء الملائمة والسانحة للترشح من دون مخاوف وبحظوظ متكافئة.
بدا إعلان سعيد عن موعد الانتخابات، بدلاً من هيئة الانتخابات الموكول لها القيام بهذه الخطوة، أمراً مثيراً للريبة جعل كثراً من المعارضة والمرشحين يتهمون الهيئة بعدم الاستقلالية وتبعيتها على مستوى القرارات لسعيد، وهو ما يعني برأيهم عثرة أولى أمام نزاهة الانتخابات.
من جهة أخرى، يواجه عدد كبير ممن اتخذوا قرار تقديم ترشّحهم للانتخابات، تحديات كثيرة، منها تواتر التتبعات القضائية ضد وجوه سياسية معارضة بمجرد إعلان نيّتها الترشّح للانتخابات. إذ أقدمت السلطات القضائية على إثارة ملفات عدة بحق عدد من المرشحين وإصدار أحكام سريعة فيها، هذا عدا عن أسماء تنوي خوض سباق الرئاسة وتقبع منذ فترة في السجن على ذمة التحقيق في قضايا تقول المعارضة إنها ملفّقة.
لطفي المرايحي: حرمان من الترشّح مدى الحياة
اعتقلت السلطات الأمنية التونسية في 3 تموز/ يوليو الحالي، أمين عام حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، والمرشح الرئاسي لطفي المرايحي، في قضية تتعلق بشبهات فساد مالي بعد أيام قليلة من إعلانه الترشح للانتخابات، إذ أذنت النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية في تونس لأعوان الإدارة الفرعية الاقتصادية والمالية بفتح بحث تحقيقي ضد المرايحي والكاتبة العامة لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري بتهم “تبييض الأموال وتهريب مكاسب للخارج وفتح حسابات بنكية بالخارج دون تراخيص من البنك المركزي التونسي”.
وفي 19 من الشهر نفسه، صدر حكم قضائي ضد المرايحي بالسجن مدة ثمانية أشهر مع حرمانه من الترشّح مدى الحياة. علماً أن المرايحي من أكثر المنتقدين لسياسات سعيد وإدارته للحكم.
وسبق أن أحيل إلى القضاء في ملفات أخرى، منها التحقيق معه على خلفية تدوينة له على فيسبوك انتقد فيها سياسات النظام الحالي. كما سبق أن أصدرت الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بتونس، بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، حكماً يقضي بسجنه لمدة ستة أشهر مع تأجيل التنفيذ، بتهمة تسريب أخبار مزيفة من شأنها الإضرار بالأمن العام طبقاً للمرسوم عدد 54 على خلفية تصريح إذاعي أدلى به في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وانتقد فيه الرئيس سعيد.
عبد اللطيف المكّي: ممنوع من السفر وقيد التحقيق
قبل ساعات من تحديد سعيد تاريخ الانتخابات الرئاسية، أعلن حزب العمل والإنجاز التونسي أن أمينه العام عبد اللطيف المكي تلقى استدعاء من النيابة العامة للحضور أمام قاضي التحقيق في ما يعرف بقضية وفاة الجيلاني الدبوسي. وذلك بعد خمسة أيام من إعلان الحزب اعتزامه ترشيح المكي، وزير الصحة الأسبق، للانتخابات الرئاسية ومنافسة سعيد الذي يتطلع الى الفوز بولاية ثانية.
ولاحقاً، تم إصدار قرار قضائي يمنع المكي من الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ومنعه من السفر ومن مغادرة الحدود الترابية لمعتمدية الوردية بالعاصمة حيث يسكن، الى حين استكمال التحقيق معه، لكن المؤشرات كافة تشي بأنه سيطول حتى لا يتسنى للمكي الاستعداد للحملة الانتخابية.
يذكر أن وفاة الجيلاني الدبوسي الغامضة بعد مغادرته السجن بيوم واحد، في الفترة التي شغل فيها المكي منصب وزير الصحة، أثارت جدلاً كبيراً، لا سيما أن الرجل كان يعاني من أمراض عدة، علماً أن هناك عدداً من قيادات “حركة النهضة الإسلامية، محالون أيضاً بسبب القضية ذاتها.
الصافي سعيد: “متّهم بتزوير التزكيات الانتخابيّة”
كذلك، أصدر القضاء التونسي حكماً غيابياً بالسجن ضد المرشح الرئاسي المحتمل الصافي سعيد لمدة 4 أشهر، بتهم متعلقة بتزوير تزكيات خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2014. وكان الصافي سعيد، وهو نائب سابق وصحافي وكاتب، أعلن ترشحه للرئاسة وكشف عن برنامجه الانتخابي.
إقرأوا أيضاً:
عصام الشابي: “متآمر على أمن الدولة”
في المقابل، هناك عدد من السياسيين المرشحين للرئاسة موجودون داخل السجن بسبب تهم كيدية كما تقول الأحزاب التي ينتمون إليها. إذ يقبع في السجن الناشط السياسي المعارض المنتمى الى الحزب الديمقراطي التقدمي عصام الشابي، منذ 23 شباط/ فبراير 2023 مع مجموعة من السياسيين والناشطين والإعلاميين بتهم “التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”. وقد أعلن حزبه في وقت سابق ترشيحه، لكنه تراجع عن ذلك لاحقاً بسبب التضييقات التي تمارسها السلطة. إذ لم يتمكن محامي الشابي من الحصول على توكيل خاص لتقديم طلب لسحب الاستمارة الخاصة بجمع التزكيات الشعبية على رغم أن قانون الانتخابات يكفل ذلك.
وكانت عائلة الشابي اشتكت قبل أيام من عدم تمكينها من البطاقة عدد 3 على رغم تقدّمها بطلب لوزارة الداخلية منذ نحو ثلاثة أسابيع، والشأن نفسه واجهه المترشح عبد اللطيف المكي.
هذا التراخي الذي تتعمّده السلطة في تونس يبرر مخاوف المعارضة ورفضها شرط البطاقة عدد 3. إذ بات واضحاً أن إقرارها يهدف الى تعطيل المرشحين والتلاعب بهم حتى لا يجدون الوقت الكافي لخوض حملاتهم الانتخابية والاستعداد الكامل لهذا الرهان، وإن كان القضاء قد قام بالخطوة الأهم وقطع الطريق أمام المرشحين باكراً لتمهيد الطريق أمام قيس سعيد.
عبير موسى: متّهمة بـ”تبديل هيئة الدولة”
تقبع رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي منذ 3 تشرين الأول 2023 في السجن بتهمة ارتكاب “الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي”، بسبب توجّهها الى قصر الرئاسة في قرطاج لتسليمها رسالة احتجاج. كما تواجه تهماً بـ”الإساءة إلى موظف عمومي ونشر أخبار زائفة لا أساس لها من الصحة” بسبب انتقادها هيئة الانتخابات.
موسى هي واحدة من أبرز المنافسين على منصب الرئاسة في تونس، وهناك اعتقاد واسع بأن الزج بها مبكراً في السجن كان بغاية تجنب مرشحة قوية وذات شعبية كبيرة، بخاصة في أوساط المنتمين سابقاً الى حزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهم ليسوا بقلة، فضلاً عن الكثير من المريدين الذين انضموا الى حزبها لأنهم يرون أنها السبب المباشر في إزاحة الإسلاميين من الحكم.
وفي خضم هذه التضييقات الكبيرة على المرشحين، باتت المخاوف كبيرة بين صفوف المعارضة وقسم كبير من التونسيين حول نزاهة العملية الانتخابية ومدى تأثير هذه القضايا القانونية على فرص المرشحين، فضلاً عن سياسة الترهيب واستخدام الملفات القضائية، التي سيكون لها تأثيرها الكبير في ظل ما يسود من اعتقاد بشأن عدم استقلال القضاء.
لماذا الاعتقال الآن؟
وعلى رغم أن المؤشرات على الأرض لا ترجح تراجع قيس سعيد عن تتبع المرشحين للانتخابات الرئاسية، فإن ما يجري لن يكون في صالحه مطلقاً. فالرئيس يعتقد أنه عندما يثير ملفات قضائية ضد المرشحين سيؤجج بذلك الرأي العام ضدهم ويؤكد تصريحاته السابقة بشأن الوجوه السياسية التي كانت حاضرة خلال العشرية التي تلت الثورة، وبالتالي كسب المزيد من التأييد.
ويغفل سعيد سهواً أو عمداً عامل التوقيت. فهو بقيامه بهذه الخطوة الآن يثير التساؤل لدى كل التونسيين: لماذا الآن؟ ولماذا مباشرة بعد إعلان الترشح؟ علماً أن الرئيس يمسك بزمام الأمور منذ سنة 2021. وبالتالي فإن هذه الخطوة ستجعل الكثيرين يدركون أن هدفها الأساسي إضعاف منافسين للرئيس ليس إلا. حتى أن هناك توقعات بأن تكون نسب المشاركة أضعف من تلك التي كانت في الانتخابات التشريعية والاستفتاء.
كما يبدو أن قيس سعيد يحاول بهذه الملاحقات القضائية للمرشحين إلهاء الرأي العام عن الملفات المهمة على غرار الهجرة وانهيار الاقتصاد وأزمة الماء والكهرباء، والتي باتت تثير امتعاض حتى مؤيديه بالأمس، وأيضاً التغطية على ما سيطرح من برامج انتخابية، لا سيما وأن سعيد لم يسبق له أن قدم برنامجاً انتخابياً واضحاً، كما أن أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية تفاقمت في عهده. وبالتالي، فإن نقاش البرامج الانتخابية، لو تم بشكل طبيعي، من شأنه أن يسلط الضوء على سنوات الفشل التي لم تختلف في نتائجها عما كان عليه الوضع خلال ما يُسمى في تونس بـ”العشرية السوداء”، بل تفاقم الفشل وتم تقييد حرية التعبير أكثر فأكثر.
سعيد والتمسّك بالكرسي
المحلل السياسي التونسي وسام حمدي يقول لـ”درج” معلقاً على ما يجري: “إن كل الأجواء والمناخات السياسية الطاغية في تونس تؤكد أننا لن نكون أمام عملية انتخابية سليمة، وأنه لا وجود لمسار انتخابي ناجح، بخاصة في ظل التضييقات المسلطة على المرشحين وإثارة القضايا في هذا التوقيت.
خلاصة القول، إن الرئيس سعيد سيدير العملية الانتخابية كما يشاء، وأي مرشح سيؤثر بشكل مباشر على نتائج الانتخابات ومسارها، سيكون محل تتبعات قضائية”.
تجدر الإشارة الى أن غالبية أحزاب المعارضة الرئيسية في تونس قاطعت الاستفتاء الشعبي الذي أفرز دستوراً جديداً للبلاد في تموز 2022، والانتخابات التشريعية التي انتهت بانتخاب برلمان جديد حل محل مجلس النواب السابق. لكنّ جزءاً كبيراً منها يريد كسر هذه المقاطعة في الانتخابات الرئاسية إن سمح بذلك الرئيس سعيد.
إقرأوا أيضاً: