في مقهى طرابلسي أمام سنترال الميناء، سألتني صديقتي سؤالاً يشبه صفعة هادئة: “ما سبب عدم بقائك مسلمة؟”. كان الجواب، الذي لطالما خفت أن يُنطق به، مختبئاً بين مفردتين: الشك والريبة. لم يكن هذا الجواب وليد اللحظة، بل كان ثقلاً راكمته سنوات من الأسئلة التي لم تجد إجابة؛ شعرت حينها أنني أقل هروباً وأكثر تقبّلاً لمواجهة هذا الشعور الذي ينهشني منذ زمن طويل.
الحديث عن “الشك”، الذي كان يوماً مصدر خوف يصفعني بآلامه، كلما تجرأت على التفكير خارج إطار المألوف، بات أقل قسوة. بدا وكأن تجربة السكن بمفردي والعمل في بيئة تتيح لي التفكير بصوت عالٍ، قد أفسحا المجال لأسئلتي لتطفو، بعد أن كانت مدفونة تحت ركام الصمت. شعرت وكأنني فجأة أُعطيت الحق في إعادة رسم حدود نفسي خارج عباءة الأسرة والمجتمع.
الشك كأداة للنقض والبناء
أن ترتاب أو أن تشك، ليس مجرد موقف فكري، بل تجربة وجودية أشبه بحبس أنفاسك وأنت تغرق في بحر من الأسئلة. لم يكن شكي رفضاً بقدر ما كان محاولة لفهم الأساس الذي بنيت عليه كل يقينياتي. السؤال الأول كان دائماً: لماذا أؤمن؟ أهو الإيمان حقاً أم إرث من أسرتي ومجتمعي؟
الدين، بممارساته وتعاليمه، بدا لي كقلعة عظيمة مشيدة، لكن كلما اقتربت منها، رأيت الشقوق التي تتخلل جدرانها.
صلوات لم أعد أجد بها معنى، صيام يثقل الروح أكثر مما يخففها. لماذا نحن هنا؟ من خلقنا؟ ما الغاية من الحياة؟ لماذا الموت بهذا السكون المرعب؟ ولماذا الانتحار، كفكرة راودتني في لحظات ضعف، يُعتبر جريمة في عيون الدين؟
الأسئلة كانت كدوامة، أجوبتها لم تقدني إلى بر الأمان بل إلى متاهة أكبر، متاهة أدركت فيها أن السعي إلى الطمأنينة عبر معتقدات جاهزة، يشبه محاولة احتواء البحر داخل زجاجة.
التحول: من الشك إلى الهدم
الخروج من التدين نتيجة الشك ليس انشقاقاً هادئاً، بل عملية زلقة وغامضة، تسحبك تدريجياً عبر ممرات ضيقة مظلمة. هو ارتطام مستمر بين تناقضات النصوص، تناقضات الممارسات، وأصوات الأسئلة التي تهمس في أذنك ليلاً. قد يختار البعض إعادة بناء عالمهم، يُعيدون صياغة يقينهم بين الروحانية والتفكير النقدي، وكأنهم يعيدون ترميم جدار تهدم.
لكن بالنسبة لي، لم يكن هناك ترميم، فقط الهدم. زلزال صامت نسف كل شيء. لم يكن هذا الشك مجرد شرارة عابرة، بل انهيار ممتد، يدفعني كل يوم إلى مواجهة وجوه الفراغ القاسية. أدركت حينها أن يقيني القديم لم يكن سوى انعكاس لتوقعات الآخرين، مرآة عاكسة لما أراده المجتمع مني.
الهدم أتى بلا رحمة. الوقوف في العدم كان اختباراً قاسياً. الوحدة؟ لم تعد شعوراً مؤقتاً، بل كيان يسير معي، ظلّي الذي لا يغادرني. محاولة بناء أخلاق جديدة، خارج سياج القيود التي كانت يوماً درعي وسجني، باتت معركة يومية. الفراغ، ذلك الوحش الذي لا يكلّ، يراقبني عن كثب، يلتهم ببطء كل ما أتمسك به.
لم يكن الخروج من التدين تحرراً كما يظن البعض. كان بحثاً مستميتاً عن معنى يتسرب من بين الأصابع، ارتباكاً أمام هيمنة الأسئلة التي لا تتوقف عن النمو، واغتراباً لا نهاية له، كأنك تسير بلا وجهة في متاهة لا مخرج لها.
طفلة التاسعة: بين القيد والاغتراب
في التاسعة من عمري، عندما أرغمتني الحياة على دخول عالم النساء بعبور غير مفهوم، بدأت أستشعر أولى القيود التي لفّتني كشرنقة لا هواء فيها. فجأة، تحولت الطفلة إلى “امرأة”، وكان كل شيء يصرخ بوجهي: عليكِ أن تتغيري.
مُنعت من اللعب مع أصدقائي الذكور، ارتديت الحجاب بمباركة أشبه باحتفال جنائزي لطفولتي. كان كل هذا وغيره بمثابة سلسلة من الصفعات التي جعلتني أدرك أنني لم أكن فقط طفلة، بل كنت جسداً يخص الآخرين، مساحة يُعاد تشكيلها وفقاً لتوقعات لا أملك رفاهية النقاش بشأنها.
نافذة القراءة: الطريق إلى الأسئلة الكبرى
أن تجد نفسك فجأة في مساحة تمتزج فيها التناقضات: الفقير بجانب الغني، المسيحي بجوار المسلم، والكتب المتناثرة كأصوات مختلفة: روايات، فلسفة، علوم… كان الأمر أشبه بصدمة خرساء. انتقلتُ من مدرسة جدتي، حيث كان العالم مجرد انعكاس مطوّل للعائلة: التكرار، التلاصق، الرتابة التي تشبه صمت غرفة مغلقة. هناك، في المدرسة الثانوية الرسمية، كان كل شيء يشبه نافذة فُتحت فجأة على ضوضاء مجهولة.
لم يدرك أهلي أن هذا المكان، الذي اختير لاعتبارات مالية وبحكم انتهاء صفوف مدرسة الجدّة عند التاسع، سيحمل في طياته بوابات لا تُغلق. وجدت نفسي في محيط يعجّ بالاختلافات: وجوه جديدة، قصص غريبة، وأفكار تخرج عن المألوف كأغصان شجرة تنمو بلا ترتيب.
الكتب، التي كنت أراها يوماً كأشياء ثقيلة على الرفوف، تحولت إلى شرايين جديدة. قرأت بنهم، وكأنني أستعيد أنفاسي بعد غرق طويل. الروايات والفلسفة والعلوم، كل صفحة كانت تبدو كإشارة خفية تقول لي: “ما كنت تعرفينه ليس سوى جزء ضئيل من عالم أكبر بكثير”.
كانت القراءة أشبه بخلع أقفالٍ ثقيلة. لم يكن الأمر مجرد فتح كتاب، بل مواجهة مع ما ظلّ مختبئاً خلف جدران الطاعة والخوف. كل فكرة جديدة كانت ترتطم بي كرياح عاتية، تهزّ يقيني الهشّ، وتجعلني أدرك أن الحقيقة، كما ظننتها، كانت مجرد وهم مريح.
اللا يقين كحالة دائمة
ما زلت إلى اليوم أعيش في حالة مستمرة من اللا يقين، لا أبحث فيها عن يقين جديد بقدر ما أحاول أن أتعايش مع الأسئلة التي ترافقني. إن هذا اللا يقين، برغم ثقله، يمنحني شعوراً بأنني حرة، ولو نسبياً، من قوالب كانت تحبسني داخلي. لكن هذه الحرية تركتني في فراغ مظلم، حيث الوحدة والاغتراب صارا ظلّين دائمين.
ربما، في النهاية، اللايقين ليس عدواً. ربما هو الحالة الطبيعية للإنسان الذي يرى العالم بلا مساحيق، الذي يجرؤ على النظر في وجه الأسئلة من دون أن يرتدي أقنعة اليقين. ومع الوقت، أدركت أن هذا اللا يقين، برغم قسوته، هو أول خطوة نحو شيء أكثر أصالة، نحو ذات لا تُحدّدها إملاءات الآخر، بل تُعيد اكتشاف العالم وفقاً لإيقاعها الخاص، ولو كان مضطرباً وغير منتظم.