يدخل العراق استحقاق 11 تشرين الثاني/نوفمبر وسط أزمة سياسية تتجاوز حدود التنافس الانتخابي التقليدي. فانسحاب التيار الصدري، الذي كان الفائز الأكبر في انتخابات 2021، لم يعد حدثاً سياسياً عابراً، بل تحوّل إلى عقدة بنيوية تضرب شرعية الانتخابات المقبلة في عمقها.
فغياب الصدر لا يعني غياب حزب صغير أو تكتل محدود، بل غياب كتلة انتخابية وازنة مثّلت في الدورة السابقة ما يقارب ربع البرلمان، وخلقت توازناً هشاً بين القوى الشيعية المتنافسة.
هذا الغياب يعيد طرح سؤال الشرعية والمشروعية معاً. فالشرعية القانونية متحققة بمجرد ذهاب قلة من الناخبين إلى صناديق الاقتراع، لكن المشروعية الاجتماعية والسياسية تتلاشى مع انسحاب أكبر كتلة فائزة سابقاً، ومعها جمهور واسع من المدنيين وحركات سياسية أخرى قررت المقاطعة أو التراجع عن المشاركة.
الصحافي محمد الباسم أشار إلى أن انسحاب الصدر ليس مجرد خيار تكتيكي بل ضربة قاسية في “مشروعية” الانتخابات المقبلة، لأن الصدر خرج من العملية السياسية بعدما أُقصي على رغم فوزه، لتأتي قوى خاسرة وتستلم السلطة بدلاً عنه. هذه التجربة التي لا تزال حيّة في ذاكرة العراقيين تجعل من فكرة “التنافس الانتخابي” ضرباً من الوهم، إذ تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة لتثبيت تقسيمات معدّة سلفاً.
أما الباحث السياسي علي البيدر فيرى أن غياب الصدر سيُفقد الانتخابات زخمها الجماهيري، ويؤدي إلى تراجع نسبة المشاركة إلى مستويات قياسية قد لا تقترب حتى من الـ40 في المئة. والنتيجة المباشرة لذلك أن المكوّن السني سيحصل على مقاعد إضافية، خصوصاً في بغداد وبعض المناطق المختلطة، على حساب المكوّن الشيعي الذي يفقد أصواته المعتادة لصالح غياب التيار. وهذا التطور بحد ذاته يضعف الإطار التنسيقي، حتى وإن احتفظ بالهيمنة في الجنوب والوسط.
الإطار التنسيقي، الذي يدرك خطورة هذا المشهد، يحاول عبر أذرعه الإعلامية بناء خطاب مزدوج: من جهة الترويج لفكرة أن المرجعية الدينية دعت إلى المشاركة في الانتخابات، ومن جهة أخرى التخويف من عودة البعثيين في حال تراجع جمهورهم عن التصويت. هذه الثنائية تعكس مأزق الإطار الحقيقي، فهو بحاجة إلى حشد جماهيري واسع لتعويض خسارة الصدر، لكنه في الوقت نفسه يفتقر إلى برنامج سياسي مقنع، فيلجأ إلى سرديات الخوف والتجييش الطائفي.
بالنسبة إلى المرجعية الدينية، فقد انسحبت عملياً من لعب دور مباشر في توجيه الناخبين، مكتفية بالدعوة العامة إلى الإصلاح، ما جعل خطاب “المرجعية دعتكم للانتخابات” أقرب إلى دعاية حزبية مضلّلة منه إلى حقيقة سياسية. هذا الغياب زاد من ارتباك المشهد، وترك القوى الشيعية المتنافسة مكشوفة أمام جمهور بدأ يفقد ثقته بالمنظومة السياسية برمّتها.
أزمة الشرعية الدينية والسياسية
يقول انتفاض قنبر، رئيس حزب المستقبل الدستوري العراقي، أن عدم دخول الصدر في التحالفات السياسية أو نزوله في الانتخابات، ينقص من تكامل التمثيل الشيعي في الحكومة، باعتبار أن التيار الصدري يمثّل الكتلة الأكبر داخل المكوّن. ويذهب أبعد من ذلك حين يصف الأحزاب الشيعية الموالية لإيران بأنها “أحزاب أعلنت رسمياً ولاءها لإيران”، مؤكداً أن هذا الولاء ليس دينياً شرعياً وإنما “ولاء سياسي وعسكري” يجعل من شرعيتها الدينية موضع طعن.
قنبر أوضح أن السيد مقتدى الصدر ليس عدواً لإيران، لكنه يتخذ منحى أكثر وطنية، بينما الأحزاب الأخرى تضع مصالح طهران فوق مصلحة العراق. هذه المفارقة، بحسب رأيه، أضعفت شرعية تلك القوى التي لا تزال تعتبر نفسها أحزاباً دينية، فيما هي تمارس سياسة قائمة على الولاء الخارجي والفساد الداخلي. وقد لخص ذلك بالقول إن “الخاسر في العراق هو من يستلم السلطة”، في إشارة إلى ما حصل بعد انتخابات 2021 حين فاز الصدر وتم إقصاؤه لصالح قوى لم تنل سوى أقل من 10 في المئة من أصوات الناخبين.
هذا الخطاب يلتقي مع ما يشهده الشارع العراقي من تآكل الثقة بالانتخابات كأداة للتغيير، ويؤكد أن الأزمة لم تعد أزمة تمثيل سياسي فقط، بل أزمة شرعية دينية أيضاً. فالقوى التي بنت مشروعيتها لعقود على أساس الانتماء الديني، أصبحت اليوم تُتهم بأنها تخضع لإملاءات خارجية، ما يجعل ولاءها مشوهاً ويضعف قدرتها على إقناع جمهورها.
إقرأوا أيضاً:
في المقابل، يدرك المكوّن السني أن الفرصة مؤاتية لتوسيع حضوره البرلماني، خصوصاً في بغداد، حيث أدى انسحاب الصدريين في انتخابات مجالس المحافظات إلى خسارة واضحة للمقاعد الشيعية، وهو ما قد يتكرر في الانتخابات المقبلة. لكن هذه الزيادة تبقى محدودة التأثير على المعادلة النهائية للسلطة، لأن “الخوارزمية السياسية” التي تحكم العراق ما بعد 2003 تجعل الشيعة في صدارة التمثيل مهما تغيرت الأرقام، بينما تبقى رئاسة الوزراء خاضعة للمزاد السياسي والتوافقات أكثر من خضوعها للنتائج الانتخابية.
البعثيون والاستبعاد الانتخابي
من أبرز أدوات الصراع الانتخابي في العراق بعد 2003 ملف “اجتثاث البعث”. وعلى رغم مرور أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق، لا يزال هذا الملف حاضراً بقوة في كل دورة انتخابية. ففي الانتخابات الحالية أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بالتنسيق مع هيئة المساءلة والعدالة، استبعاد ما يقارب الـ120 مرشحاً بدعوى انتمائهم السابق الى حزب البعث أو تلقّيهم مناصب قيادية في أجهزة النظام السابق.
المثير أن نسبة لافتة من هؤلاء المستبعدين كانوا ضمن قوائم مرتبطة بالإطار التنسيقي أو مدعومة من قواه السياسية، وهو ما أحرج بعض أطراف الإطار التي رفعت سابقاً شعار “محاربة البعثيين” لتعبئة جمهورها. ووفق مصادر برلمانية، فإن نحو 45 في المئة من المستبعدين ينتمون الى تحالفات شيعية، مقابل نسب أقل في التحالفات السنية والكردية.
هذا الرقم يكشف تناقضاً عميقاً، فالإطار الذي يتبنى خطاباً متشدداً ضد عودة البعثيين، يضم في صفوفه شخصيات متهمة بالانتماء إلى الحزب المحظور. وهو ما جعل بعض خصومه السياسيين يتهمونه باستخدام “فزاعة البعث” كأداة انتخابية لا أكثر، فيما يتجاهل وجود بعثيين سابقين في صفوفه عندما يخدمون مصالحه.
كما أن الاستبعاد لا يعني بالضرورة غياب هؤلاء المرشحين، إذ غالباً ما يتم استبدالهم بأقارب أو شخصيات بديلة تحمل التوجه السياسي ذاته، ما يقلل من الأثر الفعلي للإقصاء، ويحوّل الأمر إلى ورقة سياسية في خطاب الحشد أكثر منه إجراءً قانونياً يغير المعادلة.
مأزق الشرعية والتمثيل
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن العراق مقبل على انتخابات شكلية أكثر منها عملية ديمقراطية حقيقية. فالمشاركة الضعيفة المتوقعة، وغياب التيار الصدري، واستبعاد العشرات بملفات سياسية، كلها عناصر تجعل الانتخابات أقرب إلى “إجراء إداري” لإعادة إنتاج السلطة الحالية.
الأمر الأخطر أن هذا الوضع لا يقتصر على لحظة انتخابية عابرة، بل يكرّس أزمة ثقة طويلة المدى. فكل دورة انتخابية باتت تعمّق الفجوة بين الشارع والطبقة السياسية، وكل استبعاد أو مقاطعة يزيد من هشاشة النظام السياسي نفسه.
غياب الصدر عن الانتخابات المقبلة سيظل الجرح الأعمق في العملية السياسية العراقية، لأنه سحب الغطاء الشعبي عن واحدة من أهم آليات تداول السلطة. القوى الشيعية الموالية لإيران قد تفوز شكلياً، لكنها ستخرج أضعف من أي وقت مضى، لأنها تفقد الغطاء الديني والمجتمعي الذي طالما استندت إليه.
فيما يخصّ الحديث عن “زيادة حظوظ السنة”، فهو صحيح جزئياً في بغداد وبعض المحافظات، لكنه لن يغير المعادلة المركزية للسلطة، لأن النظام السياسي صُمِّم ليبقي زمام الحكم بيد الكتل الشيعية الكبرى مهما كانت النتائج. الجديد هذه المرة أن الانقسام الشيعي – الشيعي لم يعد خلافاً داخلياً قابلاً للتسوية، بل تحول إلى حالة بنيوية تعيد إنتاج أزمة الشرعية مع كل دورة انتخابية.
نحن أمام انتخابات تفتقد المشروعية قبل أن تبدأ، انتخابات نتيجتها محسومة للإطار، لكنها في الحقيقة بداية مرحلة أعمق من فقدان الثقة الشعبية بالمنظومة، وقد تكون آخر فرصة قبل انفجار جديد على غرار تظاهرات تشرين، وهو الاحتمال الذي لا يزال يطارد القوى السياسية كلها.
إقرأوا أيضاً:











