على رغم يقين أحمد الحسون أن والده المعتقل منذ العام 1983 قد أُعدم، لكنه يرفض الاستسلام لليأس: “يجب أن نحلم بالمعجزات كجزء من تمسّكنا بنهوض سوريا من تحت الركام”.
أحمد أستاذ جامعي وروائي مقيم في فرنسا منذ خمس سنوات، لم يذق طعم النوم منذ سقوط النظام السوري، يمضي وقته بين متابعة الأخبار المتواترة والتواصل مع شقيقه الذي لم يبارح سجن صيدنايا.
أنيس الحسون، والد أحمد، عسكري في الجيش السوري اعتُقل في الثمانينات على خلفية الاشتباه بانضمامه إلى حركة كانت تحضّر لحملة انشقاقات داخل صفوف الجيش تمهيداً لقيادة انقلاب عسكري، وقد اعتُقل قسم كبير منهم أثناء اجتماع في حلب، واستطاع مع مجموعة الفرار والوصول إلى مسقط رأسه في ريف إدلب وتخفوا بين تضاريس جبل الزاوية.
تعدّدت الروايات، ومنها أن رجال المخابرات، بمساعدة البعثيين في المنطقة الذين كان لهم دور فاعل في الإيقاع بالمنشقّين، استطاعوا القبض عليهم جميعاً ما بين جبل الزاوية ومعرة النعمان، ليختفي أي أثر له منذ ذاك التاريخ.
يسرد أحمد ما عاناه هو وعائلته بسبب هذا الإخفاء القسري لوالده: “عدم استصدار شهادة وفاة منعني من الحصول على سكن جامعي عندما كنت طالباً، وهو حق لأي طالب توفي والده. كما نعجز عن التصرف بممتلكاتنا، وإذا طالبنا باستصدار شهادة وفاة له فإننا نتعرض للاعتقال والإهانة كما حدث معي عندما طلبني فرع مخابرات إدلب سنة 2005، وتعرضت للإهانة والضرب”.
يقول أحمد لموقع “درج”: “طوال 40 عاماً وصلتنا روايات متضاربة كثيرة حول مصير الوالد، لكنها صبّت كلها في المنحى ذاته، أي إعدامه”. عائلة أنيس لم تفقد الأمل طالما لم يتوافر أي دليل ملموس، أولاً لأن معتقلات النظام عالم مواز لم تُكشف كل خباياه، وثانياً تحرير معتقلين أمضوا بدورهم ما يزيد عن أربعة عقود.
لم يجد أحمد إلا وسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن أي طرف خيط لمحاولة الكشف عن مصير والده: “العائلة لم تصل إلى مبتغاها، لكن الناس بدأت تسأل وتتفاعل بحرية لم نعهدها من قبل”، يدلي أحمد بهذا الكلام بعدما وصلتهم معلومة، لم يتسنّ لهم التأكد من صحتها، تفيد بأن أنيس أُعدم في الباحة رقم 6 من سجن تدمر.
في حديثه إلى “درج”، بدا أحمد متصالحاً مع هذا الواقع، هو الذي أصدر رواية “الخاطوفة” التي تجسد الحالة النفسية للمعتقلين وأهاليهم. لكن مقاربته العاطفية لهذا الموضوع لا تحجب مطالبته بضرورة اللجوء إلى توثيق رسمي. وفقاً له، “آن الأوان لفتح تحقيق شامل في ملفات عشرات آلاف المختفين”، أمرٌ يفتقده أهالي المخفيين قسراً، الذين يشتكون من غياب أية جهة تمدّ لهم يد العون.
كلام أحمد لجهة ضرورة التوثيق ينسجم مع حديث فراس صقار المقيم بدوره في فرنسا. يقول فراس إنه بعد اعتقال شقيقه طارق عام 2013 على “حاجز الموت” التابع للأمن العسكري في حلب، تبلغت العائلة من ثلاثة مصادر مختلفة أن شقيقه أعدم مع جميع المعتقلين الذين احتُجزوا ذاك العام في الأفرع الأمنية في حلب. لكن أحد المحررين من سجن صيدنايا أبلغهم في العام 2020 أنه التقى بطارق في السجن المذكور.
فراس يتعامل بحذر شديد مع أية معلومة، إيجابية كانت أم سلبية، بعد تعرض العائلة للابتزاز المالي طوال السنوات الماضية. ورغم ترجيحه فرضية تصفية شقيقه، لكنه يتمسك بنسبة الـ 1 في المئة من الأمل.
الفرحة بسقوط النظام هي بالنسبة الى أهالي المخفيين قسراً لحظة خوف من مواجهة الحقيقة، وفقاً لفراس، الذي لا يخفي مرارته من الخفة في التعامل مع هذا الملف من دون مراعاة لمشاعر العائلات. يتفهم اندفاعة الناس وعاطفتهم لكنه يبدي أسفه للعشوائية وغياب الخطوات المنهجية التي واكبت الدخول إلى سجن صيدنايا والإحاطة بصورة عامة بهذا الملف.
لا ينكر فراس ضرورة التوثيق الإعلامي لمعاناة المحررين، لكن ما يهمه ليس الاستماع إلى رواية كل محرر بقدر معرفة تاريخ الاعتقال والجهة التي أوقفته والمعتقلات/الأفرع التي احتجز بداخلها، ما قد يوفر طرف خيط لتتبع أثر شقيقه المخفي قسراً.
إتلاف السجلات والدوس عليها قهر آخر يعيشه فراس: “حتى لو لم تتضمن معلومات مباشرة عن طارق، ستظل مفيدة بشكل أو بآخر. على سبيل المثال، إن لم يرد اسمه في سجلات صيدنايا وعُثر في المقابل على اسمه في الفرع الأمني الذي أوقفه، قد يشكل ذلك مؤشراً الى إعدامه ميدانياً”.
يتابع فراس حديثه إلى “درج”، مبدياً غضبه من انتشار الأخبار والمعلومات المضللة أو التي تفتقر إلى المصداقية، كقوائم المحررين التي تحمل الأسماء ذاتها وتنشر في كل مرة على أنها محدّثة، طارحاً جملة من التساؤلات: “مَن الجهة التي تولت الدخول إلى السجون بعد سقوط النظام؟ أين المتخصصون في الحفر في ظل ما يُحكى عن سجون سرية؟”.
يؤكد فراس أن ما من منظمة أو مؤسسة، سورية كانت أم دولية، بالإمكان اللجوء إليها لمساعدتهم، كلام أكدته بدورها سلمى عثمان التي تحاول الوصول إلى أية معلومة تسمح بمعرفة مصير أخيها (غير الشقيق) مهند صالح. من فرنسا تتابع سلمى القنوات التلفزيونية وما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي إلى جانب تواصلها مع أهالي عدد من المخفيين قسراً، ومع ذلك لم يحصل أي منهم على معلومة ذات مصداقية. وما يزيد من خشية سلمى هو المقاطع المصورة التي تظهر معتقلين فاقدي الذاكرة، ما قد يصعّب العثور على مهند.
رغم ذلك، بدأت جهود فردية مبذولة تؤتي ثمارها وإن ما زالت تفتقد العمل المنهجي العلمي.
تقول سلام أبو شالة لـ”درج”، إن الكوابيس لا تفارقها منذ 11 عاماً وهي الشاهدة على توقيف زوجها، جميل غانم، أمام عينيها في 25/7/2013 على حاجز طيار تابع للأمن العسكري في وادي الياس الواقعة بين بلودان والزبداني. قبل انتقالها إلى فرنسا، أقامت سلام أبو شالة في الزبداني: “كانت هناك نقطة عسكرية في منطقة تسمى الحرش يشرف عليها العقيد جابر عيسى، الذي يتبع للفرقة الرابعة، وعناصر هذا المدعو هم الذين اعتقلوا زوجي. ذات مرة تمكّن اثنان من المعتقلين من الهروب من منطقة الحرش، ليخبرا الأهالي أن جابر كان يربي كلاباً تأكل من جثث المعتقلين”.
كما العائلات القاطنة في الزبداني، كانت أبو شالة تأمل بالعثور على زوجها حياً في سجن صيدنايا. لكن في نهاية المطاف، لم يخرج سوى اثنين من أبناء المنطقة، وهو عدد محدود مقارنة بإجمالي المخفيين قسراً من أبناء الزبداني، والذين يناهز عددهم الـ700 شخص وفقاً لأبو شالة، أمر دفعها إلى التساؤل: “هل ما زال حياً أم لا؟ وإن فارق الحياة ماذا حلّ بجثته؟”.
تطرح أبو شالة هذه التساؤلات على ضوء المعلومات المتداولة حول لجوء النظام إلى التخلص من جثث المعتقلين في المكابس والمحارق وحفر الأسيد، ووسط غياب أي جهة تتابع هذه الملفات. برأي أبو شالة، إن لم يُعثر على اسم لزوجها في قوائم الأفرع أو السجون، قد يُعثر له على أثر في منطقة الحرش، لكنها لم تجد أي جهة لتتواصل معها وتضع بحوزتها هذه المعلومات تمهيداً لمسح المنطقة والتنقيب عن أية مقبرة جماعية.
الحال تغيّر في 15 كانون الأول/ ديسمبر بعد العثور على مقبرة جماعية في المنطقة المذكورة، خبر تتابعه أبو شالة عن كثب. وفقاً لقناة الحدث، فقد حُدِّد مكان المقبرة بعد تتبّع المعلومات “من وإلى”، ما يشير إلى الاستناد إلى شهادات السكان في تأكيد كلام سلام أبو شالة حيال علم أهالي المنطقة بما كان يحدث في تلك البقعة. علاوة على ذلك، ما ذكره التقرير حول الحاجة إلى أطقم متخصصة في الحفر والتنقيب وفحص الجثث، يؤكد بدوره حديث أبو شالة حول غياب أي جهة أو منظمة تتولى إدارة عمليات البحث على نحو منهجي.
في هذا السياق، نشر الكاتب والمحرر التنفيذي لموقع “الجمهورية نت” ياسين سويحة، منشوراً على صفحته على فايسبوك انتقد فيه “الخفة المذهلة في التعامل مع أرشيفات السجون”، كما وصف آلية البحث عن المقابر الجماعية “بالعبث الإجرامي” لا سيما لجهة “غياب فرق جنائية متخصصة وبنية تحتية مخبرية مجهزة”. وتوقف سويحة عند سلوك عدد من وسائل الإعلام في تغطيتها المقابر الجماعية وكأنها “سبق صحافي”.
المحامية ومديرة منظمة “دولتي” رولا بغدادي، أشارت لـ “درج” إلى توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان أسماء نحو 96000 من المخفيين قسراً. في المقابل، أكدت ما ورد في هذه الشهادات الأربع لجهة غياب جهة موحدة تتولى متابعة هذا الملف.
تشير بغدادي إلى وجود منظمات دولية تدعم عدداً من روابط عائلات ضحايا النظام السوري، لكنه يبقى دعماً محدوداً ولم يصل إلى جميع العائلات: “ملف المخفيين قسراً يتطلب جهوداً ضخمة ومؤسسات كبيرة، فالمؤسسة المستقلة لشؤون المفقودين لا تزال في طور التشكيل وإرساء آليات لمباشرة عملها”.
تعزو بغدادي السبب إلى السقوط السريع والمفاجئ لنظام الأسد، ما لم يوفر الوقت الكافي للاستعداد المسبق إن من المجتمع المدني أو حتى من هيئة تحرير الشام: “معظم المؤسسات والمنظمات التي تتابع هذا الملف هي خارج سوريا وتبقى جهودها متواضعة أمام هول الحدث”. أما في ما يتعلق بالدخول الفوضوي إلى سجون النظام، فلم تستبعد المحامية السورية احتمال وجود مجموعات مرتبطة بنظام الأسد تعمّدت إتلاف الأدلة.
تختم بغدادي حديثها لـ”درج” بالقول: “في الوقت الراهن، لا بد وبالحد الأدنى، من وقف التداول بالأخبار المضللة”، لتحيلنا في هذا السياق إلى مقطعين مصوّرين لكل من فدوى محمود ودياب سرية.
أما الصحافي صخر إدريس فأشار من جهته إلى وجود منظمات ومؤسسات عدة مهتمة بمتابعة ملف المعتقلين والمخفيين قسراً، منظمات متشابهة في التسميات والأهداف لكن من دون أي تنسيق في ما بينها.
إدريس تابع مع عدد من زملائه ملف المعتقلين، بخاصة إبان اعتصام سجن حماة المركزي عام 2018 مطالبين في حينها بإنشاء “بنك موحد للمعلومات” لكن من دون جدوى.
يقول إدريس لـ”درج”، إن المنظمات والمؤسسات المعنية بهذا الملف لم تتجاوب مع هذا المقترح. ولا ينكر حساسية المسألة لتضمّنها بعداً أمنياً، “لكن أقله استحداث قاعدة بيانات توضع في خدمة أهالي المخفيين قسراً”.
ما لاحظه إدريس هو احتكار المنظمات المذكورة المعلومات، رغم الدعم الدولي الذي تتلقاه كي تصبح تلك المعلومات ملكاً عاماً. وهو لا يدعي وجود معطيات كافية توفر كل الإجابات، لكنه ينتقد غياب الشفافية. في هذا السياق، يطرح الصحافي السوري فرضية المنافسة بين المنظمات المعنية بهذا الملف، ما قد يفسر، برأيه، غياب التعاون المطلوب.
إقرأوا أيضاً: