fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

البناء رقم 2254 “إذا رجعت بجن وإن تركتك بشقى”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 عدت إلى البيت الذي سأستقرّ فيه في مدينة غزة، وأنا أحمل بعض الأشلاء الناجية، وعليّ أن أختصر كل البيت في بيت بديل من غرفة صغيرة، وصالون أصغر، بشباكين فقط، بلا شرفة شرقية حتى، وأتنقّل الآن بينه وبين بيت النزوح في دير البلح، كي أُعيد ترتيب فكرة “العودة أو الرجوع”، ربما تصلح أن أعنونها بـ “إذا رجعت بيجن، وإن تركتك بشقى”!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتممت أسبوعاً كاملاً في مدينة غزة، أقول فيه لأصدقائي: ها قد عدت، ها قد رجعت، وفق ما يتطلّبه السياق، أو وفق ما تتطلّبه لهجة الحديث. على أية حال لا أملك فزلكة فوارق المعنى بين الرجوع والعودة، ولسوء حظ المعنى، أنني عثرت على بقايا مكتبتي في البيت، الواقعة في الجهة الغربية منه، فلم يظهر سوى غلاف كتاب “لسان العرب” من دون الكتاب، ملقى على حافة أحد أحجار البيت في الركن الغربي منه.

منذ اللحظة هذه وأعني “العودة أو الرجوع” أي حين وطأت قدماي “دوار النابلسي”، الاسم الشائع حتى اللحظة للحديث عن عنوان المدينة الجديد، خط سير واحد يختصر العودة أو الرجوع “تبة النويري”  النصيرات، “دوار النابلسي” غزة، تصادفك العربات والسائقون ينادون بصوت واحد “تبة النويري، النابلسي” وبالعكس. لا أعرف شكل خارطة أخرى لحواسي سواها منذ أسبوع أو عشرة أيام. 

تحديداً في البداية التزم الجميع بقانون “العودة أو الرجوع”؛ حتى نحظى بدلالة معنى دقيقة، مشياً على الأقدام مسافة ما بين 12 إلى 17 كيلومتراً، لكن سرعان ما اخترع الغزي قانوناً خاصاً به، سمح بأن تنتقل العربات بين “النويري والنابلسي”، وحوّله إلى خارطة جديدة للذهاب والإياب بين جنوب الوادي وشمال الوادي، وفق خطة التقسيم التي فُرضت أخيراً خلال الحرب. 

الطريق يحكمه قانون واحد، الشعب الذي ينتقل بين شمال وجنوب، في محاولة منه للبحث عن حظوظ البقاء بعد حظوظ النجاة. 

ربما يشاركني الجميع الشعور ذاته، شعور الدخول إلى البيت من دون وجوه الأمهات، من دون أصواتهن، من دون أنفاسهن، وإن لم يشاركني أحد، فإن هذا الشعور لي وحدي يثقل عليّ خط سيري هذا.

وسرعان ما تملّكني إحباط وحزن يسيران بخط متوازٍ، حتى حين عدت من غزة إلى دير البلح كانا معي. وسأعود إلى غزة من دير البلح وما زالا في حقيبتي. لقد نجحت في إخبار صديق واحد عن ثقل حزني، فالحزن على ثقله، يحتاج إلى يد واحدة وقلب واحد، بعيداً عن كل هذا الخراب الذي شهدته، لذا لقد كان حزني محظوظاً بأنه سافر بعيداً عني.

دخلت المدينة أحمل شعوراً واحداً سخر مني كل أصدقائي حين عرفوه، تجاهلت سخريتهم فلا أحد يعرف سر المشتاق سواي. سأكذب كعادتي منذ وقت الحرب، سألوّن مردافات الأمل، وعن العودة، وعن الرغبة في الحياة.

ولكنني الآن أمام البيت الجثة، إذ وقفت أمامه في اليوم الثالث لـ “العودة أو الرجوع” كانت الصور التي تصلني عن البيت والتي ألاحقها، تقول كل الحقيقة، لكن عناداً في داخلنا ينبت كحقيقة أشد قوة. 

“لن تصدّق الموت إلا إذا رأيت الجثة أو القبر”، قابلت الكثير من النساء اللواتي فقدن الأزواج أو الأبناء أو الآباء أو العائلة، وفي دواخلهن شعور الإنكار ذاته الذي يشبه شعوري نحو البيت الجثة.

لم نرَ قبراً للجثة!

وقفت أمام البيت القبر، وودت لو كان معي اعتذار جاهز عن خيانتي وشعور الخذلان. منذ أن سقط كنت أسأل نفسي دائماً مع الاعتذار للشاعر “لماذا تركت البيت وحيداً؟”، وأنغمس في حالة من التيه بين الإجابات.

يوم ماتت أمي، نبت سؤال من صغير لأبيه الطبيب “ما نفع الطب إن لم يُعدْ حياً، أو يُنقذ ميتاً من موته؟”، ما نفع الاعتذارات كلها يا بيتي العزيز الآن؟!

أجاب الطبيب وقتها: قدر الله!

فصدّقت جثة أمي التي أرادت شكلاً آخر لجسدها بعد رحلة إنكار طويلة. البيت كذلك في قبر، دخلت إلى الحي الذي وصفه أخي بأنه مضروب بخلاط (ضحكنا على الوصف). 

في تفاصيل وهمك الطويل تحملق أحياناً في جثة فتظنّها تضحك، أو رمشت عينها، لتكون تلك التفاصيل الأخيرة عن شكل الموت!

لن تُعاد الحياة لحظة واحدة!

الجار الحارس كان قد ربط ببوابة البيت المهدوم، وتحمل من الذاكرة رقم 2254، كلباً يشاركه في حراسة البيت، وأنس الأشلاء التي ترجو الانتشال. 

شكرت الكلب والجار مع فارق اللهجة والمعنى، ذلك لا يحتاج خبرة لسان العرب، بل خبرة الودّ في الحي. 

في بداية الحديث عن الفقد وفي ساعته الأولى، يتّفق الجميع على جملة المواساة تلك: “البقية بحياتكم”، السياق ذاته حين فقدنا البيت، الجميع حين عرف مصير البيت قال لنا مواسياً: “سلامتكم”.

ما نفع سلامتنا، وذاكرتنا من أشلاء؟ أجاب الجار الحارس: قدر الله! امتعضت من ثبات اللغة في كل مرة، فعوى الكلب! تذكّرت قوة أظافري التي أردتها كي أنبش عن ذكريات البيت، وعن قوتي الخارقة التي تمنّيتها طوال الحرب. حسنٌ سأرفع السقف عن الذاكرة وأنتشلها.

لكنني وقفت أضرب برجلي حجارة صغيرة، أغلقت أذنيّ عن صوت تكسّر ذاكرة البيت تحت قدميّ، وبدأت أركل بهما كي أتنازل عن هاجس “قاتلة تمشي فوق جثة”.

وقفت أردّ عن عقلي هاجساً آخر، كنت أقنع أصدقائي بسبب تأنّيَّ في “العودة أو الرجوع”، منذ اللحظة الأولى التي سُمح بها “إن عدت سيراً ومسافة المشي متعبة جداً، فلن أجد البيت الذي فيه فراشي، كي أنام على تعب. لا بيت، لا فراش”.

لكنني رجعت، أو عدت منذ اليوم الأول الذي سُمح به بذلك، تفاجأ الجميع من ردّة فعلي، سمّاها صديق “المجنونة كالعادة فعلتها”، من أين لها بفراش إذا أرادت النوم؟

الإجابة كانت أول الأشلاء التي انتشلتها فرشة باللون البني، سقطت من الطابق الأول حيث الأرضي، ودُفنت تحت الركام والرمال، اللحظة التي شعرت باسفنجيتها، تلك كانت بداية ترميم البيت لشعوري بالخذلان هذا.

كانت أمي ونساء المدينة يشاركنها في قانون ثابت “نقدّر حاجة الضيف للراحة”، فيصنعن ما يُعرف بـ “غرفة الضيوف”، لا بيت في المدينة يخلو من هذا الركن أو الغرفة، في بيتنا كانت تمتاز غرفة الضيوف بمساحة أكبر من غيرها في البيوت المجاورة، هي ساحة ضيافة كبيرة تنقسم إلى أقسام. قسم الاستضافة، بداية الاستقبال كراسٍ باللون الأخضر والبني، وكلما تغيّر لونها أعدناها إلى المنجد كي يعيد ترتيب ألوانها بما يجعل الضيوف أشد ألفة مع ألوانها، وفي القسم الآخر ذلك الفراش المعروف بـ”الأرضي”، فرشات تتخذ شكل حرف “L” باللغة الإنكليزية. هو طبع البيوت وعلامتها حين يحتاج الضيف إلى النوم، فلا حُجة لديه للمغادرة، فهنالك جناح كامل بانتظاره، إنها عادة غزة كلها؛ لا يُسمح لك بالمبيت في فندق، ذلك انتقاص من قيمة البيت المستضيف.

وبيتي الذي يحمل رقم 2254، هو ابن البيت الكبير؛غزة، وأمي صانعة جيدة لفكرة الدفء في البيت، حيث قسم يُتيح للضيف أن يختار ما يناسبه من أغطية، وفق الموسم الصيفي أو الشتوي نسميه “حامل الحرامات”، خزانة خشبية مخصّصة للضيوف ولراحتهم، لا يشاركهم أحد، ولا يُسمح لأحد من أفراد البيت باستخدام هذه الأغطية.

تلك عادة البيت لضيوفه ما بالك بأهله؟! لقد مر شتاءان على جثة البيت الملقاة في شارع الحي، بعض من حسن حظ الجثة هو المطر. نعم المطر الذي ساهم بإزاحة بعض الركام عن شرق البيت إلى غربه قليلاً، فكشف عن بعض المواسم الناجية ولحظاتها.

ففي الغرفة الشرقية من البناء ذاته، كانت تجتمع أمي بأحفادها تورّثهم أحد أسرار الهوية الفلسطينية، إذ تقول في دروسها لهم “الفلسطيني معندوش إلا غرزته”، وتتباهى أمامهم بقدرتها على التطريز وإنتاج الكثير من المساهمات كلوحات في غرف البيت (مرايا، صواني ضيافة، أثواب أعراس، شالات، شراشف طاولات…” وغيرها مما كانت تجيد بفن التطريز صناعته بإبرتها بيدها اليمنى، وبعض من خبراتها في حياكة الغرزة الفلسطينية. يلتف حولها الأحفاد تحديداً في مواسم إجازة منتصف العام الدراسي في شرفة البيت الشرقية، تُدير ورشتها الصغيرة حصراً لتعليم الأحفاد. ألوان كثيرة من الخيطان (أصفر، أخضر، أحمر، أزرق، بني، رمادي، أبيض، أسود) وقطعة القماش الخاصة بالتدريب. 

ظلت تلك الزاوية شاهدة على دروس أمي لأحفادها، حتى بعد وفاتها جمعنا خيوطها وإبرتها وقطع القماش الخاصة بالتدريب، واحتفظنا بها في الجزء الشرقي من البيت، الذي كان محظوظاً بانزياحات المطر والهواء، فبدا الكيس الخاص الورقي الذي يجمع الخيوط تلك، أحد الأشلاء الظاهرة كي ننتشلها.

البناء رقم 2254 الواقع في السودانية شمال غربي المدينة، بناه أمي وأبي منذ الثمانينات ليتّسع لغرف وذكريات. أقف اليوم أمامه للمرة الأولى بعد عام وثلاثة شهور، بعدما وضعت الحرب قذائفها في رأسي وهددتني بالخروج منه، ثم جعلته جثة، أحمل أمامه اعتذاراتي عن الخذلان، لكنه كعادة البيوت في البداية، منحني فرشة الضيوف، أغاظني هذا، ثم ما لبث أن منحني شيئاً من ذاكرة أمي، كاعتذار عن الفعل هذا.

 عدت إلى البيت الذي سأستقرّ فيه في مدينة غزة، وأنا أحمل بعض الأشلاء الناجية، وعليّ أن أختصر كل البيت في بيت بديل من غرفة صغيرة، وصالون أصغر، بشباكين فقط، بلا شرفة شرقية حتى، وأتنقّل الآن بينه وبين بيت النزوح في دير البلح، كي أُعيد ترتيب فكرة “العودة أو الرجوع”، ربما تصلح أن أعنونها بـ “إذا رجعت بيجن، وإن تركتك بشقى”!

فبراير 2025 

غزة_ دير البلح وبالعكس 

13.02.2025
زمن القراءة: 6 minutes

 عدت إلى البيت الذي سأستقرّ فيه في مدينة غزة، وأنا أحمل بعض الأشلاء الناجية، وعليّ أن أختصر كل البيت في بيت بديل من غرفة صغيرة، وصالون أصغر، بشباكين فقط، بلا شرفة شرقية حتى، وأتنقّل الآن بينه وبين بيت النزوح في دير البلح، كي أُعيد ترتيب فكرة “العودة أو الرجوع”، ربما تصلح أن أعنونها بـ “إذا رجعت بيجن، وإن تركتك بشقى”!

أتممت أسبوعاً كاملاً في مدينة غزة، أقول فيه لأصدقائي: ها قد عدت، ها قد رجعت، وفق ما يتطلّبه السياق، أو وفق ما تتطلّبه لهجة الحديث. على أية حال لا أملك فزلكة فوارق المعنى بين الرجوع والعودة، ولسوء حظ المعنى، أنني عثرت على بقايا مكتبتي في البيت، الواقعة في الجهة الغربية منه، فلم يظهر سوى غلاف كتاب “لسان العرب” من دون الكتاب، ملقى على حافة أحد أحجار البيت في الركن الغربي منه.

منذ اللحظة هذه وأعني “العودة أو الرجوع” أي حين وطأت قدماي “دوار النابلسي”، الاسم الشائع حتى اللحظة للحديث عن عنوان المدينة الجديد، خط سير واحد يختصر العودة أو الرجوع “تبة النويري”  النصيرات، “دوار النابلسي” غزة، تصادفك العربات والسائقون ينادون بصوت واحد “تبة النويري، النابلسي” وبالعكس. لا أعرف شكل خارطة أخرى لحواسي سواها منذ أسبوع أو عشرة أيام. 

تحديداً في البداية التزم الجميع بقانون “العودة أو الرجوع”؛ حتى نحظى بدلالة معنى دقيقة، مشياً على الأقدام مسافة ما بين 12 إلى 17 كيلومتراً، لكن سرعان ما اخترع الغزي قانوناً خاصاً به، سمح بأن تنتقل العربات بين “النويري والنابلسي”، وحوّله إلى خارطة جديدة للذهاب والإياب بين جنوب الوادي وشمال الوادي، وفق خطة التقسيم التي فُرضت أخيراً خلال الحرب. 

الطريق يحكمه قانون واحد، الشعب الذي ينتقل بين شمال وجنوب، في محاولة منه للبحث عن حظوظ البقاء بعد حظوظ النجاة. 

ربما يشاركني الجميع الشعور ذاته، شعور الدخول إلى البيت من دون وجوه الأمهات، من دون أصواتهن، من دون أنفاسهن، وإن لم يشاركني أحد، فإن هذا الشعور لي وحدي يثقل عليّ خط سيري هذا.

وسرعان ما تملّكني إحباط وحزن يسيران بخط متوازٍ، حتى حين عدت من غزة إلى دير البلح كانا معي. وسأعود إلى غزة من دير البلح وما زالا في حقيبتي. لقد نجحت في إخبار صديق واحد عن ثقل حزني، فالحزن على ثقله، يحتاج إلى يد واحدة وقلب واحد، بعيداً عن كل هذا الخراب الذي شهدته، لذا لقد كان حزني محظوظاً بأنه سافر بعيداً عني.

دخلت المدينة أحمل شعوراً واحداً سخر مني كل أصدقائي حين عرفوه، تجاهلت سخريتهم فلا أحد يعرف سر المشتاق سواي. سأكذب كعادتي منذ وقت الحرب، سألوّن مردافات الأمل، وعن العودة، وعن الرغبة في الحياة.

ولكنني الآن أمام البيت الجثة، إذ وقفت أمامه في اليوم الثالث لـ “العودة أو الرجوع” كانت الصور التي تصلني عن البيت والتي ألاحقها، تقول كل الحقيقة، لكن عناداً في داخلنا ينبت كحقيقة أشد قوة. 

“لن تصدّق الموت إلا إذا رأيت الجثة أو القبر”، قابلت الكثير من النساء اللواتي فقدن الأزواج أو الأبناء أو الآباء أو العائلة، وفي دواخلهن شعور الإنكار ذاته الذي يشبه شعوري نحو البيت الجثة.

لم نرَ قبراً للجثة!

وقفت أمام البيت القبر، وودت لو كان معي اعتذار جاهز عن خيانتي وشعور الخذلان. منذ أن سقط كنت أسأل نفسي دائماً مع الاعتذار للشاعر “لماذا تركت البيت وحيداً؟”، وأنغمس في حالة من التيه بين الإجابات.

يوم ماتت أمي، نبت سؤال من صغير لأبيه الطبيب “ما نفع الطب إن لم يُعدْ حياً، أو يُنقذ ميتاً من موته؟”، ما نفع الاعتذارات كلها يا بيتي العزيز الآن؟!

أجاب الطبيب وقتها: قدر الله!

فصدّقت جثة أمي التي أرادت شكلاً آخر لجسدها بعد رحلة إنكار طويلة. البيت كذلك في قبر، دخلت إلى الحي الذي وصفه أخي بأنه مضروب بخلاط (ضحكنا على الوصف). 

في تفاصيل وهمك الطويل تحملق أحياناً في جثة فتظنّها تضحك، أو رمشت عينها، لتكون تلك التفاصيل الأخيرة عن شكل الموت!

لن تُعاد الحياة لحظة واحدة!

الجار الحارس كان قد ربط ببوابة البيت المهدوم، وتحمل من الذاكرة رقم 2254، كلباً يشاركه في حراسة البيت، وأنس الأشلاء التي ترجو الانتشال. 

شكرت الكلب والجار مع فارق اللهجة والمعنى، ذلك لا يحتاج خبرة لسان العرب، بل خبرة الودّ في الحي. 

في بداية الحديث عن الفقد وفي ساعته الأولى، يتّفق الجميع على جملة المواساة تلك: “البقية بحياتكم”، السياق ذاته حين فقدنا البيت، الجميع حين عرف مصير البيت قال لنا مواسياً: “سلامتكم”.

ما نفع سلامتنا، وذاكرتنا من أشلاء؟ أجاب الجار الحارس: قدر الله! امتعضت من ثبات اللغة في كل مرة، فعوى الكلب! تذكّرت قوة أظافري التي أردتها كي أنبش عن ذكريات البيت، وعن قوتي الخارقة التي تمنّيتها طوال الحرب. حسنٌ سأرفع السقف عن الذاكرة وأنتشلها.

لكنني وقفت أضرب برجلي حجارة صغيرة، أغلقت أذنيّ عن صوت تكسّر ذاكرة البيت تحت قدميّ، وبدأت أركل بهما كي أتنازل عن هاجس “قاتلة تمشي فوق جثة”.

وقفت أردّ عن عقلي هاجساً آخر، كنت أقنع أصدقائي بسبب تأنّيَّ في “العودة أو الرجوع”، منذ اللحظة الأولى التي سُمح بها “إن عدت سيراً ومسافة المشي متعبة جداً، فلن أجد البيت الذي فيه فراشي، كي أنام على تعب. لا بيت، لا فراش”.

لكنني رجعت، أو عدت منذ اليوم الأول الذي سُمح به بذلك، تفاجأ الجميع من ردّة فعلي، سمّاها صديق “المجنونة كالعادة فعلتها”، من أين لها بفراش إذا أرادت النوم؟

الإجابة كانت أول الأشلاء التي انتشلتها فرشة باللون البني، سقطت من الطابق الأول حيث الأرضي، ودُفنت تحت الركام والرمال، اللحظة التي شعرت باسفنجيتها، تلك كانت بداية ترميم البيت لشعوري بالخذلان هذا.

كانت أمي ونساء المدينة يشاركنها في قانون ثابت “نقدّر حاجة الضيف للراحة”، فيصنعن ما يُعرف بـ “غرفة الضيوف”، لا بيت في المدينة يخلو من هذا الركن أو الغرفة، في بيتنا كانت تمتاز غرفة الضيوف بمساحة أكبر من غيرها في البيوت المجاورة، هي ساحة ضيافة كبيرة تنقسم إلى أقسام. قسم الاستضافة، بداية الاستقبال كراسٍ باللون الأخضر والبني، وكلما تغيّر لونها أعدناها إلى المنجد كي يعيد ترتيب ألوانها بما يجعل الضيوف أشد ألفة مع ألوانها، وفي القسم الآخر ذلك الفراش المعروف بـ”الأرضي”، فرشات تتخذ شكل حرف “L” باللغة الإنكليزية. هو طبع البيوت وعلامتها حين يحتاج الضيف إلى النوم، فلا حُجة لديه للمغادرة، فهنالك جناح كامل بانتظاره، إنها عادة غزة كلها؛ لا يُسمح لك بالمبيت في فندق، ذلك انتقاص من قيمة البيت المستضيف.

وبيتي الذي يحمل رقم 2254، هو ابن البيت الكبير؛غزة، وأمي صانعة جيدة لفكرة الدفء في البيت، حيث قسم يُتيح للضيف أن يختار ما يناسبه من أغطية، وفق الموسم الصيفي أو الشتوي نسميه “حامل الحرامات”، خزانة خشبية مخصّصة للضيوف ولراحتهم، لا يشاركهم أحد، ولا يُسمح لأحد من أفراد البيت باستخدام هذه الأغطية.

تلك عادة البيت لضيوفه ما بالك بأهله؟! لقد مر شتاءان على جثة البيت الملقاة في شارع الحي، بعض من حسن حظ الجثة هو المطر. نعم المطر الذي ساهم بإزاحة بعض الركام عن شرق البيت إلى غربه قليلاً، فكشف عن بعض المواسم الناجية ولحظاتها.

ففي الغرفة الشرقية من البناء ذاته، كانت تجتمع أمي بأحفادها تورّثهم أحد أسرار الهوية الفلسطينية، إذ تقول في دروسها لهم “الفلسطيني معندوش إلا غرزته”، وتتباهى أمامهم بقدرتها على التطريز وإنتاج الكثير من المساهمات كلوحات في غرف البيت (مرايا، صواني ضيافة، أثواب أعراس، شالات، شراشف طاولات…” وغيرها مما كانت تجيد بفن التطريز صناعته بإبرتها بيدها اليمنى، وبعض من خبراتها في حياكة الغرزة الفلسطينية. يلتف حولها الأحفاد تحديداً في مواسم إجازة منتصف العام الدراسي في شرفة البيت الشرقية، تُدير ورشتها الصغيرة حصراً لتعليم الأحفاد. ألوان كثيرة من الخيطان (أصفر، أخضر، أحمر، أزرق، بني، رمادي، أبيض، أسود) وقطعة القماش الخاصة بالتدريب. 

ظلت تلك الزاوية شاهدة على دروس أمي لأحفادها، حتى بعد وفاتها جمعنا خيوطها وإبرتها وقطع القماش الخاصة بالتدريب، واحتفظنا بها في الجزء الشرقي من البيت، الذي كان محظوظاً بانزياحات المطر والهواء، فبدا الكيس الخاص الورقي الذي يجمع الخيوط تلك، أحد الأشلاء الظاهرة كي ننتشلها.

البناء رقم 2254 الواقع في السودانية شمال غربي المدينة، بناه أمي وأبي منذ الثمانينات ليتّسع لغرف وذكريات. أقف اليوم أمامه للمرة الأولى بعد عام وثلاثة شهور، بعدما وضعت الحرب قذائفها في رأسي وهددتني بالخروج منه، ثم جعلته جثة، أحمل أمامه اعتذاراتي عن الخذلان، لكنه كعادة البيوت في البداية، منحني فرشة الضيوف، أغاظني هذا، ثم ما لبث أن منحني شيئاً من ذاكرة أمي، كاعتذار عن الفعل هذا.

 عدت إلى البيت الذي سأستقرّ فيه في مدينة غزة، وأنا أحمل بعض الأشلاء الناجية، وعليّ أن أختصر كل البيت في بيت بديل من غرفة صغيرة، وصالون أصغر، بشباكين فقط، بلا شرفة شرقية حتى، وأتنقّل الآن بينه وبين بيت النزوح في دير البلح، كي أُعيد ترتيب فكرة “العودة أو الرجوع”، ربما تصلح أن أعنونها بـ “إذا رجعت بيجن، وإن تركتك بشقى”!

فبراير 2025 

غزة_ دير البلح وبالعكس