مثّل الظهور اللافت لطائفة البُهرة، في مصر، بين عامي 2013 و2022، لحظة كشفت عن تأويلات ترتبط بالسياسي والديني وعلاقة الطائفة بالسلطة، خلال فترات الحكم المختلفة بمصر. وقد عاود البُهرة حضورهم المميز، مؤخراً، على متن الأحداث المتصلة بأنشطتهم الخاصة بترميم المساجد التاريخية بعد فترة من اللجوء الاختياري للهامش إثر صعود الإخوان المسلمين للحكم في مصر، وقبلها اندلاع الربيع العربي، في نسخته المصرية، عام 2011.
سلطان البُهرة الذي غادر القاهرة، مطلع أيار/ مايو 2022، بعد مشاركته الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في افتتاح مسجد الحسين الذي رممّته الطائفة، تعددت زياراته لمصر، تحديداً خلال السنوات الثماني الماضية. والتقى السلطان مفضل سيف الدين في زياراته الثلاث لمصر الرئيس السيسي. كما تابع أعمال الترميم لمقامات وأضرحة آل البيت. فعام 2014، كانت الزيارة الأولى لسيف الدين إثر تولي السيسي منصبه. وساهمت الطائفة في صندوق “تحيا مصر” الذي تأسس برعاية الرئيس المصري بنحو ثلاثين مليون جنيه مصري.
الناطق الرسمي بلسان الرئاسة المصرية، السفير بسام راضي، قال: “في إطار العلاقات الوطيدة التاريخية بين مصر وطائفة البهرة، فإنّ سلطان البُهرة له جهود مقدرة في ترميم وتجديد مقامات آل البيت وعدد من المساجد المصرية التاريخية، منها أضرحة السيدة نفيسة، والسيدة زينب، وسيدنا الحسين، فضلاً عن الأنشطة الخيرية الأخرى المتنوعة لطائفة البهرة في مصر، إضافة إلى دعم صندوق (تحيا مصر)”.
حقق البُهرة، في مصر، وجوداً مؤثراً في أواخر سبعينات القرن الماضي خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد أنور السادات.
تاريخياً، ارتبط انحسار البُهرة وتمددهم، في مصر، بالحالة السياسية العامة، وارتهان أوضاعهم بالعلاقة المباشرة مع السلطة، والتي تعود لستينات القرن الماضي مع الرئيس جمال عبد الناصر. مع الوضع في الاعتبار أنّ أول رحلة للقاهرة تعود لثلاثينات القرن الماضي، عندما التقى سلطان البهرة، حينذاك، طاهر سيف الدين بطلعت حرب وآخرين من نخبة تلك المرحلة من الباشوات ورموز النخبة الحاكمة.
وبخلاف الحالة الدينية في مصر وتنوعها وتعقيداتها المتفاوتة، تحلق طائفة البّهرة خارج كافة الالتباسات المرتبطة بالدين في المجال العام، سواء في صورتها التنظيمية أو السائلة أو الطقسية والشعائرية للفئات المهمشة. فالموقف الثابت من الطائفة هو إتاحة مساحة لممارسة شعائرهم في المساجد الفاطمية المرتبطة بهم تاريخياً ومذهبياً (الإسماعيلية الإثنى عشرية)، لا سيّما أنّ الطائفة التي تختلف تماماً عن الشيعة الإسماعيليين المنتشرين في إيران والعراق والشام تعمد إلى تحييد مواقفها تجاه الصراع التقليدي، السياسي والمؤدلج، بين إيران والعرب، والانقسام السني الشيعي. ومن ثم، لا تشكل الطائفة ثمّة خطورة من الناحيتين الأمنية والسياسية.
إذاً، لم تسجل واقعة اضطهاد أو تضييق على الطائفة الشيعية المنتسبة إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ومركزها الرئيسي مدينة بومباي بالهند، بينما تمتد أصولها إلى عصر الدولة الفاطمية في مصر. ووفق تقرير الحالة الدينية المعاصرة في مصر الصادر عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، فإنّ سلطان فرقة البُهرة السابق، الدكتور محمد برهان الدين، يقدر عددهم بنحو مليون ونصف مليون حول العالم. وثمة مصادر بحثية في مصر تشير إلى عددهم الذي يقارب الـ15 ألف.
أما عن أماكن وجودهم في القاهرة، فهم تتركز بالقرب من بيت زعيمهم في حي المهندسين، ويتواجدون أيضاً بمنطقة وسط القاهرة، التي تحفل بآثار تاريخية لهم وأماكن عباداتهم، منها مسجد الحاكم بأمر الله بشارع المعز لدين الله الفاطمي، وكذا في منطقة روض الفرج بشمال القاهرة، حيث ضريح “مالك الأشتر” الذي يحتفلون جميعاً بمولده السنوي.
إقرأوا أيضاً:
حقق البُهرة، في مصر، وجوداً مؤثراً في أواخر سبعينات القرن الماضي خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد أنور السادات، بينما تضاعفت أعدادهم في عقد الثمانينيات، وقاموا بترميم آثار إسلامية تاريخية في القاهرة، مثل مسجد الحاكم بأمر الله.
وقد تعاملت النظم المتعاقبة مع البُهرة، في مصر، بطريقة خاصة، إذ سمحت لهم بممارسة طقوسهم في أكبر المساجد الأثرية بالقاهرة بعيداً عن الملاحقات الأمنية، بل وفي حماية قوات الأمن، بينما تواترت الأنباء عن علاقة من نوع خاص بين الرئيس السابق محمد حسني مبارك والسلطان محمد برهان الدين الذي التقى به الأول، أكثر من مرة، بينما استقبله بنفسه في مطار القاهرة عام 2007 وقبلها في شرم الشيخ عام 2005، بحسب الدكتور سامح سامح إسماعيل، رئيس هيئة تحرير تقرير “الحالة الدينية المعاصرة في مصر”، الصادر عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”.
ويردف إسماعيل لـ”درج”: “سعى مبارك إلى حماية البهرة وتأمين مصالحهم، وسمح لهم بشراء الأراضي والعقارات والمحلات التجارية والمصانع، حتي سيطروا على أهم مناطق مصر التاريخية في الأزهر والحسين والقاهرة الفاطمية، وتحديداً حول مسجدي الحاكم بأمر الله والأقمر في منطقة الجمالية، بخلاف مئات المحلات في منطقة وسط البلد بالقاهرة”.
وقد تمكن البُهرة من فرض نفوذهم على مساجد تاريخية، أمثال الأقمر واللؤلؤة والأنور والجيوشي والحاكم بأمر الله الذي يعتقدون خروج المهدي المنتظر من تحت أحد أبياره التي تقع في صحن المسجد، وتردد أنهم يقفون وراء مشروع تطوير القاهرة الفاطمية الذي تبناه فاروق حسني وزير الثقافة السابق. يقول إسماعيل.
ويتابع: “حافظ البُهرة على وجودهم في مصر من خلال التزام العزلة والصمت، كما حرصوا على إقامة علاقات جيدة مع رجال الدولة، الأمر الذي ساهم في تعزيز مكانتهم حتى بعد سقوط نظام مبارك في أعقاب ثورة يناير. ففي 14 تموز/ يوليو 2011، وبعد أشهر قليلة من الثورة، وصل إلى القاهرة قادماً من ألمانيا (على متن طائرة خاصة) الدكتور محمد برهان الدين سلطان البهرة. وصرحت مصادر في طائفة البهرة، والتي كانت في استقباله في المطار، بأن سلطان البهرة سيقوم بزيارة مقامات أهل البيت في القاهرة، مشيرة إلي أن الزيارة سوف تستمر ثلاثة أيام”.
وبغض النظر عن الآراء الفقهية حول سلامة العقيدة للبُهرة من حيث ارتباطها بالإسلام أو انحرافها عنه، فإنّ ثمّة تحفظات أخرى لها وجاهتها من المعماريين والمختصين بالآثار على دور البهرة في عمليات ترميم الآثار التاريخية، أو بالأحرى تدخلهم في عمليات ترميم الآثار الإسلامية في مصر، وتحديداً ما يتصل بتغيير الطبيعة التاريخية والهوياتية المميزة لتلك الآثار بقصد فرض النمط التاريخي المذهبي الخاص بهم.
ففي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2013، قال الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية ومستشار أمين عام المجلس الأعلى للآثار السابق، في تصريحات صحافية، إن بعض الآثار المصرية من مساجد وأثريات تم ترميم جزء منها ثم توقف عقب ثورة يناير دون إبداء أسباب، وأكد أنه عارض بشدة قيام البهرة بالتدخل في ترميم الآثار؛ لأنهم يتدخلون في التقنيات الأثرية والمادة الأثرية، ما يفقد الأثر قيمته وملامحه، أي أن مسألة الإحلال والتجديد تهدم الأثر الأصلي وتبني أثراً جديداً.
إقرأوا أيضاً: