fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

التأسيس الثالث للمعهد العالي للموسيقى في لبنان بعد رحيل “الـديكتاتور العادل”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لعل في هذه الصورة شاهداً كافياً لما قد تفعله الحرب، أيّ حرب، من تدمير وموت، لعلّ فيها أيضاً دليلاً رمزياً مُكثفاً، لوّح ببدء مرحلة انهيار متسارعة امتدت حتى عام 1991، لمؤسسة ثقافية وتربوية هي مؤسسة المعهد الموسيقي الوطني

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قلما يتذكر أحد من معاصري فترة السنتين الأوليَين للحرب الأهلية اللبنانية 1975-1977 صورة نُشرت في إحدى الصحف اللبنانية وتُظهر مجموعة من المقاتلين يتحلّقون حول نار ليتدفأوا، وقد جعلوا وقودها من حطام خشب آلة البيانو الذي قذفوها من مستقرها في الطابق الثاني من المعهد الموسيقي الوطني الكائن في منطقة محاذية لخطوط التماس في وسط بيروت.

لعل في هذه الصورة شاهداً كافياً لما قد تفعله الحرب، أيّ حرب، من تدمير وموت، لعلّ فيها أيضاً دليلاً رمزياً مُكثفاً، لوّح ببدء مرحلة انهيار متسارعة امتدت حتى عام 1991، لمؤسسة ثقافية وتربوية هي مؤسسة المعهد الموسيقي الوطني، التي وُضِع مدماكها الأول قبل أن تولد الجمهورية اللبنانية، فكانت لها مرحلتان تأسيسيّتان مُتباعدتان في الزمن.

وها نحن الآن أمام زمن تأسيسي ثالث محتمل بمقدار ما أمسى حاجة ضرورية ومطلوبة.

التأسيس الأول :

بدأت رحلة هذا المعهد بمدرسة موسيقية صغيرة سُمّيت “دار الموسيقى”، أسسها وديع صبرا وهو الموسيقي المعروف بتلحينه النشيد الوطني اللبناني والعائد من باريس بعد إنهاء دراسته الموسيقية عام 1910. فبعد أن تقدَّم بطلبات ومراجعات لدى المفوض السامي الفرنسي (ساراي) في لبنان لإنشاء مؤسسة تهتم بنشر الثقافة الموسيقية، عمد هذا الأخير إلى استصدار قانون عام 1925 لإنشاء مدرسة وطنية للموسيقى في بيروت. كان هذا بمثابة التأسيس الأول الذي لقي صدىً إيجابياً في أوساط المهتمين والنخب المُثقفة، ما جعلهُ يتطور من مجرد مدرسة موسيقية إلى معهد موسيقي وطني، أداره صبرا حتى تاريخ وفاته عام 1952، فوضع أسسه الأكاديمية، في حين بدأ يشهد إقبالاً من الجمهور بفضل وجود موسيقيين روس هربوا إبان الثورة الاشتراكية إلى لبنان وسوريا، فتعاقدت معهم إدراة المعهد لتعليم الطلاب.

عام 2000، صدر مرسوم وزاري لإنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية

 

ثلاثة مدراء تعاقبوا بعد صبرا لإدارة المعهد، الأول كان أنيس فليحان 1953- 1961، والثاني نيقولا دال 1961- 1964، أمّا الثالث فكان توفيق سكر 1964- 1969. وخلال عهودهم، استمر المعهد الموسيقي الوطني في التطور على مختلف الصعد. فمن إنشاء قسم مستقل للموسيقى العربية ومروراً باستكمال المناهج التعليمية إلى بروز كادرات موسيقية كبيرة تخرجت من أحضانه وانتهاءً بإنشاء أوركسترا الحجرة والفرقة الشرقية للموسيقى العربية، كل ذلك مكّن هذه المؤسسة من أن تلعب دوراً ريادياً ليس في مجال التربية والتعليم وحسب، بل أيضاً في مجال الإنتاج الموسيقي.

بعد توفيق سكر أدار المعهد الأب يوسف الخوري من عام 1969 حتى 1986، إذ كان من شأن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 أن تُطيل فترة إدارته المعهد لتصل إلى 17 سنة، جعلته شاهداً على انهيار متدرج وسريع لهذه المؤسسة الثقافية الناجحة.

التأسيس الثاني :

بدأ التأسيس الثاني بانتهاء الحرب، مع الراحل وليد غلمية المؤلف الموسيقي المخضرم وأحد رواد الموسيقى اللبنانية تأليفاً وابحاثاً وصاحب الشخصية الإشكالية والكاريزماتية في الحياة الثقافية الموسيقية. إن الاضاءة على تجربة غلمية كمدير للمعهد الموسيقي من 1991 إلى تاريخ وفاته عام 2010، مهمة أصبحت ضرورية لفهم مظاهر التداعي وحالات التعثر الحاصلة في هذه المؤسسة بعد وفاته المُفاجئة.

عندما تسلّم غلمية الإدارة، كان وضع المعهد في حال يُرثى لها على مختلف الصُعد. فبدأ العمل من مرحلة تكاد تقارب الصفر ولكن خبراته المتراكمة على غير صعيد معطوفة على إصرار وعزم كبيرين مكّناه من الحصول على ميزانية معقولة من الوزارة لزيادة أجر ساعة التعليم للأستاذ، ما جذب إليه معظم الكادرات الموسيقية، فأدى إلى عملية استنهاض كبيرة للمعهد بعد انتهاء الحرب.

شجّع غلمية على إقامة الحفلات الموسيقية أسبوعياً وفتح ورشة تحديث المناهج ودفع في اتجاه تأليفها، خصوصاً لقسم الموسيقى الشرقية العربية. ولم تنتهِ الألفية الثانية إلا وشهد المعهد انتشاراً لفروعه في المدن الرئيسية من لبنان، كما وجعله معهداً عالياً بإعطائه شهادات جامعية للدارسين فيه. ومن خلال علاقاته الجيدة مع الطبقة السياسية، استطاع أن يُحقق حلماً لطالما راوده بتأسيس الاوركسترا السمفونية الوطنية عام 2000، وبعدها بعام أسس الأوركسترا الشرق/ عربية. وقد يكون هذا الإنجاز هو الأبرز في عهد غلمية، إذْ فتح آفاقاً واسعة لتطور مجمل ممارسات الإبداع الموسيقي في لبنان.

التأسيس الناقص :

ولكن زخم هذا التأسيس وفاعليته، استمرا في مرحلة زمنية محددة إلى أن توقفت عجلته عن الدوران إلى الأمام وظلت تراوح مكانها مع بدء السنوات الأولى من الالفية الثالثة. وبرأيي إن سبب هذا التوقف والمراوحة يعود إلى كون هذا التأسيس أتى مترافقاً إمّا بالكثير من الأخطاء الجسيمة أو بالخطوات غير المكتملة، ما جعله تأسيساً ناقصاً هشاً وغير مرتكز على مبدأ المؤسسة المستدامة، بل كان تأسيساً قائماً على الفردية والشخصانية مع طغيان كلّي للصفة الأبوية والرعائية لمجمل نشاطات وممارسات المدير المؤسس الذي ومع لحظة وفاته انكشف المعهد على أزمة بنيوية عصيّة على التفكيك والحلول. أزمة تأخذ من أزمات الدولة الراعية والمُمولة الكثير من خصائصها ومُسبّباتها. ولفهم جوانب هذه الأزمة لا بد من الإضاءة على بعض أبرز أسبابها.

 

في شخصية المدير:

صحيح أن غلمية كان شخصاً ذا رؤية ومثابراً شغوفاً في عمله، ولكنه كان ايضاً الشخص/ المدير المتحكم والمُسيطر لدرجة المبالغة، والقسوة الشديدة ادت احياناً إلى اخراج قسري لبعض الموسيقيين من المؤسسة وحرمان لكفاءات موسيقية موجودة خارج المعهد من التفاعل البنّاء معه.

قد تكون شخصية غلمية، أقرب في تكوينها النفسي- السلوكي إلى الشخصية القيادية العربية التي انبثقت في ستينات القرن المنصرم والتي تُختزل بمقولة “المَلك العادل” الذي يبطش بسيفه المُفسدين في الأرض ليزرع الخير ويبني الوطن ويسوس رعاياه “بالعدل” ولا ينتظر منهم إلاّ الطاعة والولاء والشكر. على هذا الأساس، أدار غلمية المعهد الموسيقي بطريقة فردية مُطلقة الصلاحية، فمنع حق الاعتراض لأيّ كان وحظر حق الكتابة والنشر في النقد الموسيقي تحت طائلة التعرض لعقوبة فسخ العقد والطرد أو العزل. لذلك فهو لم يستكمل إقرار المراسيم التنظيمية لمجلس الإدارة وللهيئتين التعليمية والإدارية التي من شأنها أن تحدد واجبات وحقوق وصلاحيات كل العاملين في هذه المؤسسة ومن ضمنهم مركز المدير. وهذا ما ترك أثراً سلبياً في موضوع إنشاء ملاك خاص للعاملين وتحضير الكادرات الموسيقية التي يمكن أن تستكمل مهمات الإدارة في المستقبل.

في هوية المعهد الوطني الموسيقي :

لقد أُنشئ المعهد ليحقق مهمة أساسية تتلخص في كونه ناشراً للمعرفة الموسيقية على مستوى الشعب كله وفي المناطق اللبنانية المختلفة، وليمنح الدارسين فيه شهادة إنهاء دروس. ولكن عندما تسلم غلمية المعهد ونهض به بسرعة قياسية، قرر أن ينتقل به إلى مستوى جامعي فيمنح شهادات الإجازة والدراسات العليا، ويطلق عليه صفة المعهد العالي للموسيقى. كانت خطوته هذه لتكون قفزة نوعية وغير مسبوقة في موضوع التعليم الموسيقي الأكاديمي في لبنان، ولكنها أتت خطوة ناقصة غير ذي قيمة، كون المدير لم يبذل أي جهد لجعل هذه الشهادات معادلة أكاديمياً على صعيد لبنان وخارجه. فنشأت مشكلات تربوية كبيرة من جراء عدم الوضوح والتخبُّط في هوية المعهد، وأنتجت تعقيدات ليس من السهل حلها، تبدأ من عشوائية الخلط بين مهمات التعليم العام وتوجهاته، وبين التعليم الجامعي، وتمر في مشكلة معادلة الشهادات الممنوحة، ولا تنتهي في مشكلة عقود العمل غير المُنصفة للأساتذة العاملين في التعليم والعازفين في الأوركسترات.

في موضوع إنشاء الأوركسترا :

عام 2000، صدر مرسوم وزاري لإنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية، نتيجة تضافر جهود جهات ثقافية وسياسية قادها وليد غلمية. ضمّت الأوركسترا  حوالي 70 عازفاً مختصاً. شكّل العازفون اللبنانيون في البداية نسبة تقارب 60٪ من مجموع أعضائها، أما الآخرون فكانوا من أوروبا الشرقية، استقدموا خصيصاً ليعزفوا في الأوركسترا ويعطوا دروساً في المعهد. وضع غلمية كل اهتمامه وجهوده في إدارتها وقيادتها، إضافة إلى الأوركسترا الشرق- عربية. فأهمل بذلك كل ما يتعلق بالعملية التعليمية التي هي الخزان الأساسي لرفد هاتين الأوركستراتين بجيل جديد وشاب من الموسيقيين المحترفين، وبالتحديد موسيقيين يعزفون على آلات ليست أحد في لبنان يعزف عليها. فكان من المؤمل بأن تُحل هذه المعضلة عبر استقدام أجانب ليعزفوا ويعلّموا في الوقت ذاته. ولكن غاب عن رؤية المدير أن ثمة تضارب مصالح للعازف الأجنبي في هذه النقطة الحساسة التي سيعتمد عليها مستقبل هذه الأوركسترا وديمومتها. وها هي السنة الثامنة عشرة تكاد تطوي صفحتها من عمر الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية ونسبة الأجانب المُستقدمين من الخارج ترتفع إلى 70٪، مقابل 30 ٪ من اللبنانيين. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه حتى 2030، فستكون النسب كارثية إذا احتسبنا معدّل أعمار العازفين اللبنانيين العاملين في الأوركسترا. لقد شاء غلمية أن يؤسس أوركستراه، لا من لحظة الولادة لتنمو وتتطور وتدوم بشكل طبيعي، بل شاءها أن تبدأ الحياة قوية كأنها في ريعان الشباب والعطاء، وها هي الآن تعاني من أعراض الشيخوخة المبكرة.

انكشاف الأزمة :

كشفت الأيام والأشهر القليلة التي تلت خبر وفاة مدير المعهد الوطني العالي للموسيقي، وليد غليمة، ليس عن أزمة بنيوية وحسب، بل أيضاً عن استعصاء في موضوع تعيين مدير أصيل بديل منه.

أما الاستعصاء في تعيين مدير أصيل، فجاء من السلطة السياسية التي اعتمدت آلية مذهبية/ طائفية في عملية التعيينات الإدارية للفئة الأولى. وعلى هذا، أصرّ مرجع ديني على أحقية أن يكون هذا المركز من نصيب ملّته.

ولأكثر من سبع سنوات ظل المعهد الموسيقي الوطني أسير السياسات الارتجالية مُتخبطاً في مدّ وجزر تدخلات أهل السياسة والطوائف في كل شؤونه، والتي سمحت بها وتسامحت معها الإدارة بالتنسيق مع وزراء الوصاية، وبأشكال مختلفة، كصرف نفوذ ووعود بالتعيين مقابل توظيفات عشوائية وفتح فروع للمعهد لا مبرر لها ومكلفة على الصعيد المالي والبشري.

قد تكون الهيئة التعليمية كوحدة عضوية هي وحدها من استفادت خلال السنوات السبع الأخيرة، بالمعنى التنظيمي وبعملية تراكم الوعي بوحدة الهدف والمصير. فبعد أن مرّت هذه الهيئة بمرحلة الصدمة الأولى بوفاة “الأب” المؤسس، نفضت عنها حاجز الخوف وخاضت نقاشات طويلة في ما بينها حول أفضل السبل لتحسين أوضاعها على جميع الصعد، فأنشأت رسمياً رابطتها النقابية، والتي من خلالها خاضت صراعاً مطلبياً مع الإدارة أدى إلى تحقيق بعض المكتسبات، خصوصاً في موضوع تثبيت الراتب الشهري الذي يخضع لقانون عقود بالساعة الفعلية، مع إقرار الزيادات عليه، إضافة إلى موضوع منع التعسف الإداري، كما بادرت إلى العمل على صياغة اقتراحات حقيقية في موضوع معادلة الشهادات.

تحديات التأسيس الثالث :

أتى التطور المفاجئ والإيجابي من مقررات جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 25/4/2018 بتعيين الموسيقي بسام سابا مديراً عاماً وأصيلاً للمعهد الوطني العالي للموسيقى، ليُحدث صدمة على الصعيد الداخلي فيه.

صدمة كونها غير متوقعة في توقيتها، وتحمل سمتان؛ الأولى إيجابية يسودها الارتياح كون المدير المعيّن هو موسيقي أكاديمي ومرموق، يأتي من خارج الأسماء المُرشحة المقيمة في لبنان. أما السِمة الثانية فهي الترقُّب والانتظار.

الترقُّب المفتوح على الأسئلة الصعبة وهي كثيرة ومشروعة، والانتظار لما ستكشفه الأيام والشهور المقبلة من تطورات قد تؤثّر في مجمل الحياة الداخلية للمعهد الذي هو بمثابة العصب الأساس للحياة الموسيقية في لبنان.

وأخيراً هي صدمة إيجابية، يُعَوّل عليها الكثير، ويُؤمل منها بأن تفتح الباب واسعاً على مرحلة تأسيسية ثالثة لهذه المؤسسة الثقافية العريقة كبديل من حال المراوحة والتخبط اللذين يوازي تأثيرهما المُدمِّر تماماً تأثير الحروب القاتلة.

 

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 15.03.2025

“درج” مستهدفاً من أذرع أنطون صحناوي الإعلامية… لماذا؟!

المعارك التي يخوضها ضدّنا صحناوي تؤكّد لنا أننا ننجح في عملنا الاستقصائي الصحافي حيث نسعى لتحقيق العدالة لكلّ مودع خسر أمواله بسبب فساد المصارف وحزب المصارف الذي تقوده جمعية المصارف.
15.07.2018
زمن القراءة: 8 minutes

لعل في هذه الصورة شاهداً كافياً لما قد تفعله الحرب، أيّ حرب، من تدمير وموت، لعلّ فيها أيضاً دليلاً رمزياً مُكثفاً، لوّح ببدء مرحلة انهيار متسارعة امتدت حتى عام 1991، لمؤسسة ثقافية وتربوية هي مؤسسة المعهد الموسيقي الوطني

قلما يتذكر أحد من معاصري فترة السنتين الأوليَين للحرب الأهلية اللبنانية 1975-1977 صورة نُشرت في إحدى الصحف اللبنانية وتُظهر مجموعة من المقاتلين يتحلّقون حول نار ليتدفأوا، وقد جعلوا وقودها من حطام خشب آلة البيانو الذي قذفوها من مستقرها في الطابق الثاني من المعهد الموسيقي الوطني الكائن في منطقة محاذية لخطوط التماس في وسط بيروت.

لعل في هذه الصورة شاهداً كافياً لما قد تفعله الحرب، أيّ حرب، من تدمير وموت، لعلّ فيها أيضاً دليلاً رمزياً مُكثفاً، لوّح ببدء مرحلة انهيار متسارعة امتدت حتى عام 1991، لمؤسسة ثقافية وتربوية هي مؤسسة المعهد الموسيقي الوطني، التي وُضِع مدماكها الأول قبل أن تولد الجمهورية اللبنانية، فكانت لها مرحلتان تأسيسيّتان مُتباعدتان في الزمن.

وها نحن الآن أمام زمن تأسيسي ثالث محتمل بمقدار ما أمسى حاجة ضرورية ومطلوبة.

التأسيس الأول :

بدأت رحلة هذا المعهد بمدرسة موسيقية صغيرة سُمّيت “دار الموسيقى”، أسسها وديع صبرا وهو الموسيقي المعروف بتلحينه النشيد الوطني اللبناني والعائد من باريس بعد إنهاء دراسته الموسيقية عام 1910. فبعد أن تقدَّم بطلبات ومراجعات لدى المفوض السامي الفرنسي (ساراي) في لبنان لإنشاء مؤسسة تهتم بنشر الثقافة الموسيقية، عمد هذا الأخير إلى استصدار قانون عام 1925 لإنشاء مدرسة وطنية للموسيقى في بيروت. كان هذا بمثابة التأسيس الأول الذي لقي صدىً إيجابياً في أوساط المهتمين والنخب المُثقفة، ما جعلهُ يتطور من مجرد مدرسة موسيقية إلى معهد موسيقي وطني، أداره صبرا حتى تاريخ وفاته عام 1952، فوضع أسسه الأكاديمية، في حين بدأ يشهد إقبالاً من الجمهور بفضل وجود موسيقيين روس هربوا إبان الثورة الاشتراكية إلى لبنان وسوريا، فتعاقدت معهم إدراة المعهد لتعليم الطلاب.

عام 2000، صدر مرسوم وزاري لإنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية

 

ثلاثة مدراء تعاقبوا بعد صبرا لإدارة المعهد، الأول كان أنيس فليحان 1953- 1961، والثاني نيقولا دال 1961- 1964، أمّا الثالث فكان توفيق سكر 1964- 1969. وخلال عهودهم، استمر المعهد الموسيقي الوطني في التطور على مختلف الصعد. فمن إنشاء قسم مستقل للموسيقى العربية ومروراً باستكمال المناهج التعليمية إلى بروز كادرات موسيقية كبيرة تخرجت من أحضانه وانتهاءً بإنشاء أوركسترا الحجرة والفرقة الشرقية للموسيقى العربية، كل ذلك مكّن هذه المؤسسة من أن تلعب دوراً ريادياً ليس في مجال التربية والتعليم وحسب، بل أيضاً في مجال الإنتاج الموسيقي.

بعد توفيق سكر أدار المعهد الأب يوسف الخوري من عام 1969 حتى 1986، إذ كان من شأن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 أن تُطيل فترة إدارته المعهد لتصل إلى 17 سنة، جعلته شاهداً على انهيار متدرج وسريع لهذه المؤسسة الثقافية الناجحة.

التأسيس الثاني :

بدأ التأسيس الثاني بانتهاء الحرب، مع الراحل وليد غلمية المؤلف الموسيقي المخضرم وأحد رواد الموسيقى اللبنانية تأليفاً وابحاثاً وصاحب الشخصية الإشكالية والكاريزماتية في الحياة الثقافية الموسيقية. إن الاضاءة على تجربة غلمية كمدير للمعهد الموسيقي من 1991 إلى تاريخ وفاته عام 2010، مهمة أصبحت ضرورية لفهم مظاهر التداعي وحالات التعثر الحاصلة في هذه المؤسسة بعد وفاته المُفاجئة.

عندما تسلّم غلمية الإدارة، كان وضع المعهد في حال يُرثى لها على مختلف الصُعد. فبدأ العمل من مرحلة تكاد تقارب الصفر ولكن خبراته المتراكمة على غير صعيد معطوفة على إصرار وعزم كبيرين مكّناه من الحصول على ميزانية معقولة من الوزارة لزيادة أجر ساعة التعليم للأستاذ، ما جذب إليه معظم الكادرات الموسيقية، فأدى إلى عملية استنهاض كبيرة للمعهد بعد انتهاء الحرب.

شجّع غلمية على إقامة الحفلات الموسيقية أسبوعياً وفتح ورشة تحديث المناهج ودفع في اتجاه تأليفها، خصوصاً لقسم الموسيقى الشرقية العربية. ولم تنتهِ الألفية الثانية إلا وشهد المعهد انتشاراً لفروعه في المدن الرئيسية من لبنان، كما وجعله معهداً عالياً بإعطائه شهادات جامعية للدارسين فيه. ومن خلال علاقاته الجيدة مع الطبقة السياسية، استطاع أن يُحقق حلماً لطالما راوده بتأسيس الاوركسترا السمفونية الوطنية عام 2000، وبعدها بعام أسس الأوركسترا الشرق/ عربية. وقد يكون هذا الإنجاز هو الأبرز في عهد غلمية، إذْ فتح آفاقاً واسعة لتطور مجمل ممارسات الإبداع الموسيقي في لبنان.

التأسيس الناقص :

ولكن زخم هذا التأسيس وفاعليته، استمرا في مرحلة زمنية محددة إلى أن توقفت عجلته عن الدوران إلى الأمام وظلت تراوح مكانها مع بدء السنوات الأولى من الالفية الثالثة. وبرأيي إن سبب هذا التوقف والمراوحة يعود إلى كون هذا التأسيس أتى مترافقاً إمّا بالكثير من الأخطاء الجسيمة أو بالخطوات غير المكتملة، ما جعله تأسيساً ناقصاً هشاً وغير مرتكز على مبدأ المؤسسة المستدامة، بل كان تأسيساً قائماً على الفردية والشخصانية مع طغيان كلّي للصفة الأبوية والرعائية لمجمل نشاطات وممارسات المدير المؤسس الذي ومع لحظة وفاته انكشف المعهد على أزمة بنيوية عصيّة على التفكيك والحلول. أزمة تأخذ من أزمات الدولة الراعية والمُمولة الكثير من خصائصها ومُسبّباتها. ولفهم جوانب هذه الأزمة لا بد من الإضاءة على بعض أبرز أسبابها.

 

في شخصية المدير:

صحيح أن غلمية كان شخصاً ذا رؤية ومثابراً شغوفاً في عمله، ولكنه كان ايضاً الشخص/ المدير المتحكم والمُسيطر لدرجة المبالغة، والقسوة الشديدة ادت احياناً إلى اخراج قسري لبعض الموسيقيين من المؤسسة وحرمان لكفاءات موسيقية موجودة خارج المعهد من التفاعل البنّاء معه.

قد تكون شخصية غلمية، أقرب في تكوينها النفسي- السلوكي إلى الشخصية القيادية العربية التي انبثقت في ستينات القرن المنصرم والتي تُختزل بمقولة “المَلك العادل” الذي يبطش بسيفه المُفسدين في الأرض ليزرع الخير ويبني الوطن ويسوس رعاياه “بالعدل” ولا ينتظر منهم إلاّ الطاعة والولاء والشكر. على هذا الأساس، أدار غلمية المعهد الموسيقي بطريقة فردية مُطلقة الصلاحية، فمنع حق الاعتراض لأيّ كان وحظر حق الكتابة والنشر في النقد الموسيقي تحت طائلة التعرض لعقوبة فسخ العقد والطرد أو العزل. لذلك فهو لم يستكمل إقرار المراسيم التنظيمية لمجلس الإدارة وللهيئتين التعليمية والإدارية التي من شأنها أن تحدد واجبات وحقوق وصلاحيات كل العاملين في هذه المؤسسة ومن ضمنهم مركز المدير. وهذا ما ترك أثراً سلبياً في موضوع إنشاء ملاك خاص للعاملين وتحضير الكادرات الموسيقية التي يمكن أن تستكمل مهمات الإدارة في المستقبل.

في هوية المعهد الوطني الموسيقي :

لقد أُنشئ المعهد ليحقق مهمة أساسية تتلخص في كونه ناشراً للمعرفة الموسيقية على مستوى الشعب كله وفي المناطق اللبنانية المختلفة، وليمنح الدارسين فيه شهادة إنهاء دروس. ولكن عندما تسلم غلمية المعهد ونهض به بسرعة قياسية، قرر أن ينتقل به إلى مستوى جامعي فيمنح شهادات الإجازة والدراسات العليا، ويطلق عليه صفة المعهد العالي للموسيقى. كانت خطوته هذه لتكون قفزة نوعية وغير مسبوقة في موضوع التعليم الموسيقي الأكاديمي في لبنان، ولكنها أتت خطوة ناقصة غير ذي قيمة، كون المدير لم يبذل أي جهد لجعل هذه الشهادات معادلة أكاديمياً على صعيد لبنان وخارجه. فنشأت مشكلات تربوية كبيرة من جراء عدم الوضوح والتخبُّط في هوية المعهد، وأنتجت تعقيدات ليس من السهل حلها، تبدأ من عشوائية الخلط بين مهمات التعليم العام وتوجهاته، وبين التعليم الجامعي، وتمر في مشكلة معادلة الشهادات الممنوحة، ولا تنتهي في مشكلة عقود العمل غير المُنصفة للأساتذة العاملين في التعليم والعازفين في الأوركسترات.

في موضوع إنشاء الأوركسترا :

عام 2000، صدر مرسوم وزاري لإنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية، نتيجة تضافر جهود جهات ثقافية وسياسية قادها وليد غلمية. ضمّت الأوركسترا  حوالي 70 عازفاً مختصاً. شكّل العازفون اللبنانيون في البداية نسبة تقارب 60٪ من مجموع أعضائها، أما الآخرون فكانوا من أوروبا الشرقية، استقدموا خصيصاً ليعزفوا في الأوركسترا ويعطوا دروساً في المعهد. وضع غلمية كل اهتمامه وجهوده في إدارتها وقيادتها، إضافة إلى الأوركسترا الشرق- عربية. فأهمل بذلك كل ما يتعلق بالعملية التعليمية التي هي الخزان الأساسي لرفد هاتين الأوركستراتين بجيل جديد وشاب من الموسيقيين المحترفين، وبالتحديد موسيقيين يعزفون على آلات ليست أحد في لبنان يعزف عليها. فكان من المؤمل بأن تُحل هذه المعضلة عبر استقدام أجانب ليعزفوا ويعلّموا في الوقت ذاته. ولكن غاب عن رؤية المدير أن ثمة تضارب مصالح للعازف الأجنبي في هذه النقطة الحساسة التي سيعتمد عليها مستقبل هذه الأوركسترا وديمومتها. وها هي السنة الثامنة عشرة تكاد تطوي صفحتها من عمر الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية ونسبة الأجانب المُستقدمين من الخارج ترتفع إلى 70٪، مقابل 30 ٪ من اللبنانيين. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه حتى 2030، فستكون النسب كارثية إذا احتسبنا معدّل أعمار العازفين اللبنانيين العاملين في الأوركسترا. لقد شاء غلمية أن يؤسس أوركستراه، لا من لحظة الولادة لتنمو وتتطور وتدوم بشكل طبيعي، بل شاءها أن تبدأ الحياة قوية كأنها في ريعان الشباب والعطاء، وها هي الآن تعاني من أعراض الشيخوخة المبكرة.

انكشاف الأزمة :

كشفت الأيام والأشهر القليلة التي تلت خبر وفاة مدير المعهد الوطني العالي للموسيقي، وليد غليمة، ليس عن أزمة بنيوية وحسب، بل أيضاً عن استعصاء في موضوع تعيين مدير أصيل بديل منه.

أما الاستعصاء في تعيين مدير أصيل، فجاء من السلطة السياسية التي اعتمدت آلية مذهبية/ طائفية في عملية التعيينات الإدارية للفئة الأولى. وعلى هذا، أصرّ مرجع ديني على أحقية أن يكون هذا المركز من نصيب ملّته.

ولأكثر من سبع سنوات ظل المعهد الموسيقي الوطني أسير السياسات الارتجالية مُتخبطاً في مدّ وجزر تدخلات أهل السياسة والطوائف في كل شؤونه، والتي سمحت بها وتسامحت معها الإدارة بالتنسيق مع وزراء الوصاية، وبأشكال مختلفة، كصرف نفوذ ووعود بالتعيين مقابل توظيفات عشوائية وفتح فروع للمعهد لا مبرر لها ومكلفة على الصعيد المالي والبشري.

قد تكون الهيئة التعليمية كوحدة عضوية هي وحدها من استفادت خلال السنوات السبع الأخيرة، بالمعنى التنظيمي وبعملية تراكم الوعي بوحدة الهدف والمصير. فبعد أن مرّت هذه الهيئة بمرحلة الصدمة الأولى بوفاة “الأب” المؤسس، نفضت عنها حاجز الخوف وخاضت نقاشات طويلة في ما بينها حول أفضل السبل لتحسين أوضاعها على جميع الصعد، فأنشأت رسمياً رابطتها النقابية، والتي من خلالها خاضت صراعاً مطلبياً مع الإدارة أدى إلى تحقيق بعض المكتسبات، خصوصاً في موضوع تثبيت الراتب الشهري الذي يخضع لقانون عقود بالساعة الفعلية، مع إقرار الزيادات عليه، إضافة إلى موضوع منع التعسف الإداري، كما بادرت إلى العمل على صياغة اقتراحات حقيقية في موضوع معادلة الشهادات.

تحديات التأسيس الثالث :

أتى التطور المفاجئ والإيجابي من مقررات جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 25/4/2018 بتعيين الموسيقي بسام سابا مديراً عاماً وأصيلاً للمعهد الوطني العالي للموسيقى، ليُحدث صدمة على الصعيد الداخلي فيه.

صدمة كونها غير متوقعة في توقيتها، وتحمل سمتان؛ الأولى إيجابية يسودها الارتياح كون المدير المعيّن هو موسيقي أكاديمي ومرموق، يأتي من خارج الأسماء المُرشحة المقيمة في لبنان. أما السِمة الثانية فهي الترقُّب والانتظار.

الترقُّب المفتوح على الأسئلة الصعبة وهي كثيرة ومشروعة، والانتظار لما ستكشفه الأيام والشهور المقبلة من تطورات قد تؤثّر في مجمل الحياة الداخلية للمعهد الذي هو بمثابة العصب الأساس للحياة الموسيقية في لبنان.

وأخيراً هي صدمة إيجابية، يُعَوّل عليها الكثير، ويُؤمل منها بأن تفتح الباب واسعاً على مرحلة تأسيسية ثالثة لهذه المؤسسة الثقافية العريقة كبديل من حال المراوحة والتخبط اللذين يوازي تأثيرهما المُدمِّر تماماً تأثير الحروب القاتلة.