منذ نشأتها، اختارت “القاهرة الجديدة” – التجمع الخامس – أن تكون ذات طبيعة خاصة، فهي لا تحمل من وظائف المدن، كما حددها الدكتور جمال حمدان في كتابه “جغرافية المدن” ، إلا الوظيفة المحلية، التي تعود بالنفع على نفسها وسكانها فقط، إذ لا تملك وظيفة إقليمية تمتد لتخدم المدن والأقاليم التي تحيط بها، وهو ما وصفه حمدان “بالمدن الشيطانية”، التي تفتقد قاعدة إقليمية واسعة، فـ”هذه المدن ليست إلا طفرة حديثة جداً في تاريخ المدنية، فهي شاذة ونادرة… وأكثر من هذا فهي عابرة أساساً”.
عرفت مصر بناء المدن الجديدة منذ السبعينات من القرن الماضي، حيث أنشئت هيئة المجتمعات العمرانية بقرار جمهوري رقم 59 لعام 1979، وكان الهدف من الهيئة خلق مجتمعات عمرانية جديدة تحقق الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، بعيداً من تكدّس العاصمة.
نشأت ثلاثة أجيال من المدن في مصر، كان الجيل الأول والثاني منها يميل الى كونه مدناً صناعية، مثل محافظات العاشر من رمضان- 15 أيار/ مايو- السادس من أكتوبر وغيرها، ثم جاء الجيل الثاني ليشمل مدناً صناعية أيضاً، لكنها وُضعت في مرتبة أقل من مثيلتها في الجيل الأول، وكانت من بينها مدن مثل: بدر- العبور- النوبارية – الشيخ زايد، ثم جاء الجيل الثالث الذي تصدرته مدينة القاهرة الجديدة التي اختصرها المصريون بـ “التجمع الخامس”.
تاريخ نشأة التجمّع الخامس
بداية الألفية الثانية، بدأ الإنشاء الأول للقاهرة الجديدة، لصاحبها وزير الإسكان المصري آنذاك المهندس محمد إبراهيم سليمان، الذي قرر أن تكون المدينة هدية مصر له، موزعاً الكثير من الأراضي والفيلات والشقق فيها لعائلته ورجال الأعمال المقربين، ورشى انتخابية لأهالي دائرته في “الجمالية” .
وعلى رغم الاستجواب الشهير في البرلمان المصري عام 2007، الذي وجه الى وزير الإسكان الأسبق عن رشاه وفساده في المدن الجديدة، إلا أن المدينة تغيرت وجهتها من كونها ظهيراً صحراوياً للعاصمة أراد واضع فكرته، المهندس حسب الله الكفراوي، أن يكون متنفساً لأصحاب الدخول المحدودة، إلى “تجمع مغلق” لأصحاب الأعمال والسياسة.
في السنوات العشر الأولى بعد عام 2000، لم يظهر التجمع الخامس بشكله الحالي، فمثله كمثل أي مدينة صحراوية، أخذ وقتاً في النمو، لكن بشكل مفاجئ في أعقاب ثورة كانون الثاني/ يناير2011، تسارعت وتيرة نموه، وفيما توقفت حركات البناء في محيط وسط المدينة، حيث عطلت الموجات الثورية مشاريع التوسع المقررة سابقاً، كان العمل في التجمع الخامس يتم على قدم وساق، وبرغم كون القاهرة الجديدة من مدن الجيل الثالث إلا أنها سبقت غيرها من الأجيال الأولى، فحصلت على دعم لا محدود من الدولة ورجال الأعمال لإنهاء البنية التحتية بها على أكمل وجه، وفي أسرع وقت، وبدأت ملامح الحي “البعيد” في الظهور كحي للأغنياء ورجال الأعمال والسياسيين.
الضاحية البعيدة عن الثورة!
كان التجمع الخامس في منتصف العقد الثاني من الألفية، الخيار الأفضل للسكن لكثير من رجال الأعمال والسياسة من مختلف الاتجاهات، فكثير منهم اختار أن يبتعد عن المناطق القريبة من الدوائر المشتعلة بالروح الثورية. وكما كان التجمع خيار رموز عصر مبارك للسكن في قصوره وفيلاته، اختارته العناصر الأهم من جماعة الإخوان المسلمين ليكون مستقراً لهم بعد الثورة الأولى، فسكنه الرئيس الأول لمصر بعد الثورة، الدكتور محمد مرسي، ومرشد الجماعة الدكتور محمد بديع. لكنْ، ثمة فارق جلي بين قصور رجال مبارك وأملاكهم وبين الشقق المستأجرة لصالح رجال الإخوان.
اعتمدت حركة التطوير والبناء في القاهرة الجديدة، على تركيز الخدمات كافة داخل حدود المدينة، من تعليم مرتفع القيمة، وخدمات صحية باهظة التكاليف، وترفيه يعتمد على المولات والكافيهات، بالإضافة إلى ترسيخ الثقافة الاستهلاكية في انتشار مجموعات السوبر ماركت الضخمة، كما افتتحت بنوك وشركات كبرى عدة في مجالات مختلفة، أفرعاً لها في حي رجال الأعمال، كما بدأ انتقال الفعاليات الثقافية والاقتصادية والسياسية إلى التجمع الخامس ومحيطه بعد افتتاح “أرض المعارض الجديدة” التي دشنها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بديلاً عن مثيلتها التي حملت ذكريات المصريين في مدينة نصر.
وبرغم ذلك الزخم الذي شهده الحي الراقي، إلا أنه بقي بعيداً عن طريق الطبقة الكادحة، بوسائل محدودة من المواصلات، فالدولة التي تدشن محطات قطارها الكهربائي “المونوريل” من داخل التجمع، لم تقرب مواطنيها منه، سوى عبر خطوط باصات قليلة للغاية، وأعداد من الباصات التي تقدمها الدولة منحة مجانية لنقل المواطنين في المناسبات مثل معرض الكتاب.
في تعريفه لما أسماه “الضاحية البعيدة”، كان الدكتور جمال حمدان أقرب ما يكون لتوصيف التجمع الخامس، إذ قال “إن المدينة فيها ليست غائبة لكنها تبقى بعيدة… وهي المنطقة التجارية بالمدن، منطقة واسعة والحركة منها وإليها طارئة، وفيما عدا الطرق الرئيسية، لا تظهر خريطة حركتها إلا بعد أن تتجمع خيوطها قرب المدينة نفسها”، وربما لهذا السبب تحديداً كان التجمع الخامس هو الخيار الاستراتيجي للسياسة المصرية بعد ثورة يناير.
“المنزل الآمن ” لأحزاب الجمهوريّة الجديدة
حين اندلعت الثورة المصرية الأولى في كانون الثاني/ يناير 2011، ثم الثورة الثانية في 2013، لم يقتحم المصريون قصور الرؤساء، ولم يدخلوا المطابخ والغرف والممرات السرية، بل كانت وجهتهم “الأحزاب”، فاقتحم الثوار في 2011 مقر الحزب الوطني بوسط البلد، وأشعلوا النيران في الرمز الأقوى لحكم مصر لمدة تربو على ثلاثين عاماً، وفي 30 حزبران/ يونيو 2013 كانت الوجهة مقر جماعة الإخوان المسلمون في حي المقطم، حيث رمز الحكم الفعلي، وليس منزل الدكتور محمد مرسي في التجمع الخامس، ولا مقر حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان في المنيل. لذا كان التجمع الخامس الخيار الأمثل لتجمع الأحزاب الجديدة في أعقاب الثورة الثانية في 2013، حيث كان الابتعاد عن العاصمة واختيار “الضاحية البعيدة” كظهير صحراوي قراراً جماعياً لأكثر من عشرة أحزاب .
ارتبطت الحياة الحزبية في مصر منذ نشأتها، بالوجود الشعبي والزخم السكاني، وحين أعاد أنور السادات الحياة السياسية في السبعينات، اتخذت الأحزاب السياسية محيط وسط البلد مقرات رئيسية لها، فاختار الوفد حي المنيرة، حتى عودة المقر القديم للوفد في حي الدقي، واختار حزب التجمع التقدمي الوحدوي، ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، وكذلك كان حزبا العربي الناصري والكرامة في المحيط ذاته بوسط العاصمة. لكن في الجمهورية الجديدة، كان للأحزاب السياسية قرار آخر، فظهر “كمباوند السياسة” في شارع التسعين.
أحزاب التجمّع الخامس
احتل حزب مستقبل وطن، الحزب الرسمي الأول للدولة، واجهة متفردة في شارع التسعين، فأصبح مقره هو العلامة المميزة في المنطقة الحيوية، يجاوره حزب حماة الوطن، الذراع الثانية للدولة العسكرية في السياسة، ثم يأتي حزب الشعب الجمهوري وهو ما يطلق عليه حزب رجال الأعمال، والذي نافس رئيسه السيسي في الانتخابات المصرية السابقة. ثم تأتي أحزاب أخرى أقل شهرةً مثل حزب مصر الحديثة، وحزب مصر أكتوبر، وحزب المؤتمر، والجيل، ثم تأتي مجموعة من الأحزاب حديثة النشأة مثل العدل، وحزب الوعي، وأخيراً حزب الجبهة الوطنية (تحت التأسيس).
تحتلّ أحزاب الجمهورية الجديدة شارع التسعين، بقسميه الشمالي والجنوبي، فيلات لا تختلف عن مثيلتها السكنية في الحي الراقي، لا شيء مميز، مبان سكنية صفراء تسر الناظرين، وسط زخم من الرمال والكافيهات، وعدد لا محدود من الأشجار التي لا تمنح ظلاً، والكثير من لافتات الإنجازات وصور الرئيس التي تحتل الطريق المؤدي إلى الضاحية البعيدة.
اختصرت الطرق التي أنجزها الرئيس السيسي أكثر من نصف الوقت للوصول إلى التجمع من وسط المدينة، لكن مع ذلك بقيت بعيدة، فالطريق الذي تجتازه للوصول إلى هناك لا ترى فيه سوى السيارات الخاصة، بمستوياتها كافة، وتجهيزات المونوريل، وسيارات نقل العمال منه وإليه.
سكان التجمع… أهل ثروة وليسوا أهل ثورة
لم يكن اختيار أحزاب الجمهورية الجديدة التجمع الخامس ليكون موطنها الرئيسي، نابعاً من عزلة موقعه الجغرافي فقط، بل من تركيبته السكانية التي جعلته “موطناً آمناً” للأحزاب، فهو ليس منطقة جذور، بل نبت صحراوي، أتى سكانه من مشارب متعددة، لا يجمعهم هم، ولا يتشاركون فكرة، فقط يحملون أحلاماً طبقية بالأساس، همهم الانتماء الى طبقة مختلفة عن طبقتهم الأصلية، والبحث عن صورة جديدة تبتعد كل البعد عن صورتهم القديمة، حيث كانوا كسكان أصليين في مكان ما.
هذه الطبقة التي تكونت في التجمع الخامس، لم تعانِ من تدنٍّ في الخدمات المقدمة إليها، ولم تعتمد على دور الدولة لتوفير احتياجاتها الأساسية، فهي على استعداد لتحمّل تكلفة التعليم والصحة والسكن، ولا يشغلها من حقوق الإنسان إلا حقوق رفاهيتها. فالطبقة التي حازت بالفعل رفاهية العيش تخشى ما تسميه إنفلاتاً أمنياً يفقدها تلك الرفاهية، وكما أطلق عالم الجغرافيا المصري، جمال حمدان، على المدن الجديدة المنشغلة بذاتها فقط وصف “عابرة”، حمل سكانها الصفة ذاتها فصاروا “العابرين”.
إقرأوا أيضاً: