“لا ننتظر من هذه المنظومة محاكمة نفسها”… يقول ماهر عشي، في مؤتمر صحافي أطلقه أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، للمطالبة بتوقيع عريضة تطالب بتحقيق دولي يضمن معايير دولية لا تطمس حقائق أو تتلاعب بأدلة جنائية أو بمسرح الجريمة، خصوصاً بعدما انعدمت ثقة اللبنانيين تماماً بالدولة وبأجهزتها، لا سيما المؤسسات القضائية.
علامات استفهام كثيرة تُطرح على أسلوب تعاطي السلطات اللبنانية مع الجريمة، لا سيما لناحية منهجية التحقيق المتّبعة في مرفأ بيروت…
فرق البحث والإنقاذ عجزت عن العثور على كل المفقودين في المرفأ وفي المنطقة المحيطة به حتى الساعة، على رغم المساعدات الأجنبية، فيما تجهل أمهات حتى الآن مصير أبنائهن. هذا عدا عن محدودية إجراءات الحفاظ على السلامة العامة وسلامة المباني والمنشآت في دائرة الدمار الواسعة التي أحدثها الانفجار. فبيوت كثيرة آيلة للسقوط في أي لحظة على رؤوس قاطنيها، بينما يغيب دور أي هيئة عليا متخصصة في مجال الإغاثة والتعامل مع الكوارث لتساعد المواطنين أو تأويهم. فوفقاً للقانون اللبناني، كان بإمكان الدولة فتح أبوب الفنادق مأوى للمشرّدين الذين هُدّمت بيوتهم أو تصدّعت نتيجة الانفجار.
هذا فضلاً عن البطء الشديد في التحقيق، نسبةً إلى حجم الانفجار وخطورته. لا سيما أن الفترة الزمنية التي ينبغي التحقيق فيها يجب أن تمتد منذ لحظة وصول 2750 طن من مادة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، إلى حين انفجارها في 4 آب/ أغسطس. وذلك يضمّ التحقيق في أسباب عجز المؤسسات الأمنية والعسكرية عن تقييم الخطر بشكل واضح، أو تمنّعها عن ذلك.
أين أصبح الملف؟
في 10 آب/ أغسطس، بعد مرور أسبوع على الانفجار، أحيلت القضية من المحكمة العسكرية إلى المجلس العدلي، وهو ما يقتضي تحويل كامل ملف التحقيق والموقوفين فيه إلى المحقق العدلي في أسرع وقت ممكن. لكن رئيس الجمهورية لم يوقّع المرسوم حتى اليوم التالي، وأرسلت ماري كلود نجم، وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال، اسم القاضي سامر يونس لتولّي التحقيق، إلا أن المجلس رفض الاسم المقترح لأسباب مجهولة، ما أدى إلى المزيد من التأخير. وهذا ما دفع يونس إلى إصدار بيان توضيحي قال فيه، “حين عجزوا عن إيجاد نقيصة أو مذمّة أو مذلّة في تاريخ يضجّ كرامة وعنفواناً وشجاعة، راحوا ينبشون صورة يظهر فيها القاضي خطيباً، لا خاطب ودّ أو طالب ولاية، فنسبوا إليّ انتساباً إلى فريق سياسيّ أنا أكثر النّاس بعداً عنه وظلماً منه، كما أنا عن كلّ فريق بعيد ومن كلّ مواطن قريب”. علماً أن يونس هو أحد القضاة المشهود لهم بالنزاهة وعدم الامتثال لجهات سياسية، وفقاً لمحامين.
ثم أخيراً، تمّ تعيين قاضي التحقيق العسكري فادي صوان محققاً عدلياً في الجريمة بعد مدٍ وجزر. في إشارة إلى أنه قاضٍ غير محايد وحُسب سابقاً على حزب الكتائب اللبناني، ويُخشى حالياً من رضوخه للتدخلات السياسية.
بيوت كثيرة آيلة للسقوط في أي لحظة على رؤوس قاطنيها، بينما يغيب دور أي هيئة عليا متخصصة في مجال الإغاثة والتعامل مع الكوارث لتساعد المواطنين أو تأويهم.
في هذا السياق، تؤكد المحامية ديالا شحادة أنه “تحويل القضية إلى المجلس العدلي، الذي يعتبر مدنياً، يظهر جانباً إيجابياً وهو عدم وجود تنازع في المصالح، لجهة أن النيابة العسكرية هي بالمبدأ تمثّل الحق العام للعسكر، وبالتالي تدافع عن المؤسسات العسكرية”. وبمعنى آخر، فإن تسليم القضية للمحكمة العسكرية يعني أن من يمثّل المؤسسات العسكرية سيحقّق مع من هو متورط من المؤسسة نفسها.
وتشير شحادة إلى أن “المجلس العدلي سمعته سيئة بين المحامين والأوساط الحقوقية والقضائية في لبنان، كونه ابتُدع من أجل تحويل الملفات ذات الطابع الخطير الذي يمس بأمن الدولة ككل إليه”، مضيفةً أنه يملك نظاماً خاصاً به، فهو يقبل شكلين من أشكال الطعن فقط، هما الاعتراض وإعادة المحاكمة. وللاعتراض يجب أن تتوفر شروط محددة جداً في القانون، أي إنها ليست كالاستئناف. أما إعادة المحاكمة، فذلك لا يتم إلا بوجود أدلة جديدة لم تكن معروفة مسبقاً في تاريخ المحاكمة.
وبالتالي، شروط المجلس الأعلى متشددة لجهة البطء وضعف قدرة المحامي على الاطلاع على الأدلة بالسرعة المطلوبة، وأيضاً لجهة شفافيتها، التي لا يحتّم وجودها خدمة كشف الحقيقة. إضافة إلى أن حقوق المشتبه بهم منقوصة مقارنةً مع أنظمة القضاء الأخرى، كمحكمة الجنايات مثلاً. هذا عدا عن عدم تمكّن المواطنين من حضور جلسات المحاكمات، وهو ثغرة من حيث الشفافية.
زِد على ذلك البطء الشديد في التحقيق والاجراءات، لدرجة تتنافى مع معايير العدالة. ولعلّ ملفات قضايا “الإرهاب” الخاصة بجبهة النصرة في لبنان هي خير دليل على تقاعص هذه الجهة.
من جهة أخرى، تقول شحادة إن “سمعة المجلس العدلي سيئة لجهة دفن الملفات الكبيرة في أدراج النسيان أو أدراج التسييس، منها ملف مقتل فرنسوا الحاج، الذي كان التحقيق فيه يسير قدماً في المحكمة العسكرية، إلى أن أُحيل إلى المجلس الأعلى ونُسي هناك”.
وجوب تحقيق دولي بالجريمة…
كل ما سبق عن منهجية التحقيق المعتمدة في جريمة هزّت لبنان ودمّرت جزءاً كبيراً من عاصمته، يعزّز مطلب أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت بإجراء تحقيقٍ دولي. وهذا ما طالب به نادي القضاة في اعتصام أمام محكمة بيروت منذ أيام. والنادي هو جمعية غير حكومية لا تتوخى الربح وتضم حوالى ربع قضاة لبنان، معظمهم يشهد له بالنزاهة والاستقلالية، على خلاف القضاء اللبناني، الذي بمجمله مُسيّس وغير مستقل، عدا عن الفساد المستشري في جميع مؤسساته العامة، وضعف الرقابة فيها، أو إضعافها.
لذا، فدور نادي القضاة مهم في قضية المرفأ، لجهة أنه الكيان القضائي الوحيد المستقل عن السياسيين في لبنان. في إشارة إلى أن دور هذه الجهة، إرشادي قانوني فقط، أي إنه غير مُلزم. وهنا الإشارة إلى ضرورة تسليط الضوء على جهود النادي، الذي بالمناسبة حورِب من المجلس الأعلى للقضاء عندما حاول أعضاؤه تأسيس جمعية، لكي يحتل حيّزاً أكبر من وعي الشعب اللبناني.
وعن تحويل القضية إلى محكمة دولية، توضح شحادة أن ذلك يتطّلب أولاً اعتبار الجريمة دولية واعتماد تحقيق دولي فيها، وبعد صدور النتائج الدولية يُقرر إذا ما كان يمكن إحالة القضية إلى محكمة دولية، أو محاسبة المذنبين في القضاء المحلي، طالما أن الأدلة لم تطمس بل استخدمت للوصول إلى خلاصة.
وتضيف، “الحديث عن محكمة دولية سابق لأوانه، إلا أن هذه المحاكم بلا شك تتميّز بالشفافية والمعايير الدولية الأكثر استقلالية من المعايير المحلية، فهي تتوخى حقوق الدفاع المقدسة والتثبت من الأدلة الجنائية بخبرات دولية”. بمعنى آخر، تضمن المحكمة الدولية عدم أسر القضاة أو التأثير فيهم إما بالترهيب أو بالترغيب، وهذا ما رأيناه على مرّ صفحات سود مختلفة في قضايا لبنانية. إلا أن ذلك يتطلّب تحديد مهل حاسمة في التحقيق، تجنّباً لتكرار سيناريو محكمة رفيق الحريري من حيث بطء الإجراءات.