أبرز ما لفت انتباهي في هذه الجولة هو عدد من أصحاب المطاعم والمحلات التجارية التي اعتاد السكان على تناول طعامهم الفلسطيني فيها. هؤلاء كانوا محظوظين بعدم تدمير الجيش الإسرائيلي محلاتهم بشكل كامل، ما جعلهم ينظفونها ويجرون بعض الصيانة لها لتصبح جاهزة لاستقبال زبائنهم.
أحد أكثر المطاعم شهرة في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وهو “سنابل” الذي يقدم الشاورما الفلسطينية، عاد لاستقبال زبائنه بعد سنة وثلاثة أشهر من الإغلاق بسبب الحرب.
أصيب مبنى المطعم المكون من ثلاثة طوابق، والموجود بمركز مدينة خان يونس، بأضرار بالغة، وتدمرت قاعات الطعام الرئيسية بداخله ومطابخه نتيجة القصف الإسرائيلي، وعلى رغم ذلك، سارع أصحابه إلى ترميمه وإعادة افتتاحه من جديد.
عادت الحياة إلى المطعم بعد توقف لفترة طويلة، وخرج النور منه، وسط حي مدمّر بالكامل محاط بالركام من كل جانب.
داخل المطعم، احتشد عشرات الشبان والفتيات الذين جلسوا على طاولات أصابتها الشظايا الإسرائيلية وتعرضت للتكسير الناتج من القصف، وتناولوا وجبتهم المفضلة من الشاورما المصنوعة من اللحوم المجمدة التي سمحت إسرائيل بإدخالها عبر معبر كرم أبو سالم التجاري.
دخلت المطعم وطلبت وجبة شاورما، ووصلتني بعد نصف ساعة من الطلب، بسبب العدد الكبير للزبائن الذين جاؤوا لإحياء ذكرياتهم في هذا المكان المفضل لسكان هذه المدينة المدمرة. دار حوار بيني وبين شاب جاء برفقة ابنه إلى المطعم، وكان سعيداً بوجوده في هذا المكان الذي لم يتبقّ الكثير من مظاهره الجميلة، حتى طاولاته لم تبقَ على حالها، أو الديكورات، والإضاءة.
في طريقه الى المطعم، سار هذا الشاب على أرض موحلة لعدم وجود أي بنية تحتية في المدينة بسبب الدمار الكبير الذي سببته دبابات الجيش الإسرائيلي وجرافاته وصواريخه.
يقول الشاب واسمه أحمد أبو عمران: “الروح عادت إلينا بعدما توقفت الحرب والقتل، والآن بدأ الناس ينهضون من لا شيء. ومَن وجد بيته مدمراً وبقيت فيه غرفة عاد للعيش فيه، ومن لحقت بمحله أو مطعمه أضرار قام بإصلاحها وبدأ يستقبل زبائنه”.
يصرّ أبو عمران والعشرات الموجودون في المطعم شبه المدمر على التشبث بالحياة والعودة إلى حياتهم الطبيعية التي كانت قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على رغم انعدام الكثير من مقومات الحياة.
إقرأوا أيضاً:
في الشارع المقابل لهذا المطعم، أجرى صاحب محل للحلويات صيانة عاجلة لمكان رزقه، فأزال الركام من داخله وطلى جدرانه، وركّب بابه بعد إصلاحه.
يبيع هذا المحل النمورة والكعك والمعمول، ويعرفه سكان خانيونس جيداً. عاد لتقديم خدماته لزبائنه الذين يتشوّقون لتذوق حلوياته، بخاصة خلال فصل الشتاء.
تمكّن صاحب المحل من إعادة صناعة الحلويات داخل ما تبقى من محله، وتقديمها لطابور من الزبائن الذين وقفوا ينتظرونه على الركام وتحت المطر.
تسبّبت حرب غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى وقف إطلاق النار والتوصل الى اتفاق بين حماس وإسرائيل في 19 كانون الثاني/ يناير 2025، بأضرار واسعة النطاق في البنية التحتية في جميع أنحاء غزة.
وبلغ حجم الحطام الناتج من حرب غزة التي استمرت 15 شهراً، ما يعادل 17 ضعف إجمالي حطام جميع الحروب بين إسرائيل وقطاع غزة منذ عام 2008.
وتبين بيانات صادرة عن منظمات دولية أنه في عام 2024 بلغ حجم الحطام في القطاع نحو 51 مليون طن، وقد تستغرق عملية إزالة جميع الأنقاض نحو 21 عاماً.
في شارع آخر، عاد صاحب كافيه شوب “ريو” الشهير وسط مدينة خانيونس، لإعادة تشغيله من جديد واستقبال زبائنه وتقديم الأرجيلة والقهوة لهم.
لا توجد جدران لهذا الكافيه، إذ حلت محلّها شوادر مصنوعة من البلاستيك مكتوب عليها “اليونسيف” لتغطية واجهته، فيما كانت قبل الحرب مصنوعة من الرخام والإضاءة الساطعة.
داخل الكافيه الذي سقطت ديكوراته، وأصبحت إضاءته من “اللدات” التي تعمل على البطاريات، توجد طاولات مكسرة أجزاؤها أيضاً، يجلس عليها الزبائن.
يقول محمد سلامة وهو جالس على طاولة شبه مكسورة، وفوقه سقف آيل للسقوط: “هذه بلدتنا وراح نتعايش مع الوضع الحالي إلى حين وصول معدات الإعمار، والعودة إلى البناء من جديد كما كانت”.
سلامة، الذي دمر الجيش الإسرائيلي منزله، وقتل عدداً من أقربائه، يصر على إكمال حياته في غزة حتى لو في خيمة، رداً على مقترحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعية إلى تهجير سكان القطاع.
فكّر سلامة خلال الحرب بالهجرة من قطاع غزة بشكل طوعي، لكن بعد متابعته أفكار ترامب ومقترحاته، وإظهار أهدافه السياسية والأطماع من هذه الدعوات، قرر البقاء في غزة إلى حين إعادة إعمارها.
بمكان ليس ببعيد عن الكافيه شوب، عاد صاحب بوتيك للملابس الشبابية إلى مهمته الأساسية، بيع الملابس لزبائه أمام بسطة صغيرة وضعها أمام محلّه المدمر.
يتجمّع عدد ليس بالقليل أمام بسطة الملابس التي دخلت أخيراً إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم التجاري، وبدأت تجارة الألبسة تلتقط بعض أنفاسها من جديد بعد توقف دام عاماً وثلاثة أشهر.
هؤلاء كلّهم يعيشون الآن في ظروف غير آدمية، وبلا منازل، أو بنية تحتية سليمة، لكنهم يتمسكون في الحياة، ويأخذون أي شيء من آثارها القديمة لمواكبة الحياة.
إقرأوا أيضاً: