من صدمة نبأ تطبيع الإمارات مع إسرائيل، تحولت الأنظار إلى السؤال العربي الأوحد، تُرى من هي الدولة العربية التالية التي ستخطو الخطوة ذاتها؟
مملكة البحرين هي أول الدول العربية التي تَوقع متابعون أن تحذو حذو جارتها الكبرى الإمارات، إذ يبدو أن مواقف البحرين السياسية تتأرجح تحت غطاءي السعودية والإمارات، اللتين لا تختلفان كثيراً في الخط السياسي الخارجي، مهما احتدت المسائل واختلفت الآراء. وهذا ما حدث فعلاً، وتم توقيع الاتفاقية في واشنطن وسط احتفاء أميركي وبهرجة إعلامية في الدول الموقعة على “اتفاقية ابراهيم” كما سُميت. في حين وجدها آخرون مجرد توقيع على ورق لا مكان له على أرض الواقع، بخاصة أن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب واهتمامه بالاتفاقية تمكن قراءتهما كانتصار لإدارته المقبلة على الانتخابات الرئاسية، وتحفيز للدول الأكثر أهمية في منطقة الشرق الأوسط كالسعودية، غير أن هذا لا يقلل من أهمية فتح العلاقات مع إسرائيل في بقية الدول العربية. وبينما يدور الحديث في الوقت الراهن عن تطبيع دولة الكويت مع إسرائيل، بعدما تناولت وسائل إعلامية أميركية توقع ترامب أن تكون الكويت الدولة الثالثة التي ستنضم إلى القافلة، ما زالت العيون تتربص مسار السعودية في هذا الملف.
فالسعودية التي لعبت دوراً أساسياً في ملف القضية الفلسطينية طيلة العقود الماضية، يبدو أنها تخوض نقاشاً محتدماً داخلياً حول إمكان بدء صفحة جديدة ومختلفة في هذا الملف، إذ أشار تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، إلى خلاف حقيقي بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وابنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حول إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل. كما أشار التقرير إلى أن الملك سلمان فوجئ بتطبيع الإمارات مع إسرائيل، فهو الذي عرف بمواقفه المتشددة والمدافعة عن القضية الفلسطينية طيلة العقود الماضية وتشديده على إعلان موقف السعودية المستمر في دعم الحق الفلسطيني.
حلفاء الأمس في اليمن، أي السعودية، باتوا اليوم وحدهم في الشمال، بعدما حققت الإمارات ما أرادته في الجنوب، كما أن اتفاقاً مع العدو التاريخي للسعودية “إسرائيل” من دون مباركة علنية منها، يشكلان مثالين يمكن النظر إليهما باعتبار الإمارات تمكنت من الاستقواء وفق مصلحتها بحلف سعودي “على الورق” لتحقق أهدافها “الوطنية” كشرطي المنطقة مقابل أحلام سعودية تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته.
هذا الخلاف مثير للجدل والذي يبدو أنه الأول بين الملك وابنه مذ تولى الملك سلمان الحكم في السعودية مطلع عام 2015، ويفتح الكثير من التكهنات والأسئلة حول الطريقة التي تدار بها البلاد خلال السنوات الخمس الماضية. فصدمة العاهل السعودي بتوقيع الإمارات والبحرين اتفاقية “ابراهيم”، تزيد الشكوك بأنه لا يعرف حليفه بما يكفي. هذا الحليف الذي شارك السعودية حرباً في اليمن ليتمكّن في جنوبها ويتركها تغوص في الدماء على الحدود اليمنية الشمالية، فضلاً عن أنه قد لا يكون على علم بأن السعودية فتحت مجالها الجوي أمام إسرائيل للعبور إلى أراضي الإمارات المتحدة، وأن المحادثات قائمة في الوقت الحالي بين الإمارات وإسرائيل لإقامة خط أنابيب نفط بين البلدين يمر عبر السعودية. ليس هذا فحسب، بل يبدو أيضاً أن العاهل السعودي لا يعرف أن الإمارات تمكنت خلال سنوات حكمه من سحب جزء كبير من بساط الهيمنة السعودية في المنطقة، وأنها الآن المشرفة على إقحام السودان في عملية التطبيع وأنها بخطواتها هذه جعلت السعودية في موقف لا تحسد عليه.
فالإمارات زجت بالسعودية في الواجهة لإبعاد قطر من المشهد السياسي في المنطقة، وخلقت أزمة وانقساماً كبيرين في الساحة الخليجية بحجة أن الدوحة بسطت أذرعها في منطقة الشرق الأوسط من خلال التيار “الإسلاموي” بمباركة تركية من دون التنسيق في المواقف مع دول الخليج الأخرى. بحسب الرؤية هذه، أصبحت قطر تلعب دور الريادة في تحديد مصير المسار السياسي والاستراتيجي للمنطقة، وفق أجندتها وليس وفق مصلحة بقية دول الخليج.
نتج عن ذلك تحييد الدور التاريخي السعودي بقوتيه السياسية والاقتصادية، وأيضاً دور الإمارات بقوتها الاقتصادية خلال حكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. أما اليوم، فالإمارات تلعب اللعبة ذاتها، إذ يبدو أن هذه الثغرة في الحكم السعودي أصبحت واضحة لدول المنطقة، واستطاعت الإمارات من خلالها تحييد قطر واستبدال أجندتها الإسلاموية بأجندة براغماتية مع قشرة “علمانية” (ولو بشكل صوري)، بحيث لا تؤمن بتحالفات أو خصومات دائمة. فحلفاء الأمس في اليمن، أي السعودية، باتوا اليوم وحدهم في الشمال، بعدما حققت الإمارات ما أرادته في الجنوب، كما أن اتفاقاً مع العدو التاريخي للسعودية “إسرائيل” من دون مباركة علنية منها، يشكلان مثالين يمكن النظر إليهما باعتبار الإمارات تمكنت من الاستقواء وفق مصلحتها بحلف سعودي “على الورق” لتحقق أهدافها “الوطنية” كشرطي المنطقة مقابل أحلام سعودية تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته.
كل هذا وذاك، يجعل من تطبيع السعودية مع إسرائيل اليوم أمراً أبعد من أن يكون اختيارياً، وقد تكون البلاد الذراع التي يستطيع ترامب والسياسة الأميركية، ليّها، وهذا ما يجعل العالم العربي يترقب الخطوة التي ستتخذها السعودية في ملف التطبيع مع إسرائيل.
غير أن الأمر قد لا يبدو مفاجئاً للسعوديين مهما تعالت الأصوات المنددة بالأمر داخلياً، فخلال السنوات الماضية ظهرت بوادر تنذر بالتأهب لتطبيع العلاقات مع اسرائيل، كما توقع البعض حينها أن تشكل هذه الخطوة بطاقة وصول ولي العهد السعودي إلى كرسي المُلك، إذ تناولت الأخبار سابقاً اعتقالات فلسطينيين مقيمين في السعودية لا يزالون يقبعون في سجونها حتى اللحظة، كما ارتبطت اعتقالات نيسان/ أبريل 2019 لمجموعة من الشباب والشابات السعوديين المعروفين كعروبين، بقرب تطبيع السعودية مع إسرائيل، فضلاً عن استيلاء الحكومة السعودية على أراضٍ في الحدود الشمالية السعودية، وهدم بيوت سكانها المقيمين هناك منذ عقود على الطريقة الإسرائيلية، بحجة العمل على مشروع “نيوم” الذي من شأنه أن يفتح الطريق إلى ايلات!
كل هذا حدث تحت عناوين تتصدرها ملفات الفساد والإخلال بأمن البلاد، وفي ظل حكم الملك سلمان بن عبدالعزيز المعروف بانحيازه الى القضية الفلسطينية، فقط لأنه أولى الجزء الكبير من الشؤون الداخلية والخارجية لابنه المقرب منه جداً، ولأنه وثق في خطواته وخطوات حلفائه التي قد تقضي على الدور السعودي في المنطقة قريباً. وكل هذا يحدث اليوم من أجل اتفاقية ابراهيم، تلك الاتفاقية الورقية الشكلية التي تصب بشكل أساس في مصلحة إسرائيل وتنمية الدور الإماراتي الهامشي في المنطقة.