اقتربنا من مرور أربعة أشهر على عملية “طوفان الأقصى”، ولم تتّضح حتى اليوم معالم أهداف العملية، باستثناء بعض العبارات التي وردت في خطابات حماس مثل “تبييض السجون” و”وقف مسار التطبيع” دون توافر، أو على الأقل، الحديث عن الأدوات السياسية التي ستستخدم لتحقيق هذه الأهداف وغيرها، بالتزامن مع الحديث عن “نصر إلهي” لا تُعرف ملامحه أو محدداته سوى تجاوز عدد القتلى في غزة الـ25 ألفاً إثر القصف الإسرائيلي.
منذ اليوم الأول على اندلاع الحرب، خرجت التظاهرات الداعمة لفلسطين في دول المنطقة العربية، واتّسعت رقعتها سريعاً لتصل إلى معظم أنحاء العالم تقريباً، كما تشير عشرات التقارير إلى “تحول” في الرأي العام العالمي نحو فلسطين، بعدما كان ميّالاً للجانب الإسرائيلي لعقود بفضلٍ جهود منظمة قادتها جماعات الضغط الإسرائيلية حول العالم.
وفي ظل الجمود السياسي من قبل قادة العالم حتى الآن أمام هذا التحول، (باستثناء تحرك حكومة جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية)، نلاحظ تحولاً شعبيين على جانبين أساسيين؛ الأول هو المظاهرات وانعكاسها على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشهد المظاهرات المليونية في لندن وبرلين وستراسبورغ وآيندهوفن أكثر مما نشهدها في عمّان والقاهرة، وتسيّد الهاشتاغات الداعمة لفلسطين على حساب تلك المؤيدة لإسرائيل في محتوى الإنترنت المكتوب باللغة الإنجليزية.
أما الجانب الثاني فهو التحركات السياسية المرافقة لتلك الجهود الشعبية، والتي تنظمها وتقودها مؤسسات ونقابات واضحة الهيكلية ومحددة الأهداف، لعلّ أبرزها هو الضغوطات التي وُضع ريشي سوناك تحتها لإقالة سويلا برافرمان وزيرة الداخلية البريطانية على خلفية مواقفها العنصرية. وآخرها إعلان “الحملة الأميركية من أجل حقوق الفلسطينيين” اللعب بطريقة جماعات الضغط الإسرائيلية، وإنشاء ذراع سياسية من شأنها أن تصنف أعضاء الكونجرس على أساس سجل الأداء، وتعبئة الناخبين للمرشحين الذين تدعمهم، وتقديم تبرعات سياسية، فيما لم نشهد في المنطقة العربية في المقابل سوى بعض التظاهرات الغاضبة على المستوى الشعبيّ، وحملات مقاطعة غير منظمة لبضائع معظمها كمالية، لا يدعمها تحرك نقابي أو اقتصادي يعطيها رفاهية الاستمرارية.
صُودِر الشارع والحيز العام من الشعوب العربية بشكلٍ كامل، في ثورة مضادة بدأت مع تدحرج الثورة السورية إلى حربٍ أهلية دامية عام 2012، وانتهت مع إجراءات الحجر الصحي والإغلاق العام في جائحة 2020. لكن لماذا، وعلى رغم التضييق الأمني والقوانين العبثية في أوروبا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل و”حقوقها”، شهدنا مظاهراتٍ مليونية في لندن واحتجاجات في باريس أمام خراطيم المياه وتجمعات بالآلاف في برلين.
لماذا، يكاد الفعل الوحيد الذي لاقى رواجاً وإجماعاً في دول المنطقة العربية كان حملة الإضراب ليومٍ واحد؛ حملة الانكفاء عن الفعل والغياب عن الحيز العام؟
“ناشط الأريكة” وناشط الشارع
لا شك في أن الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة هي مِبيانٌ حقيقي لقوة وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، من صحفيين ومؤثرين ينقلون المأساة في الوقت الفعلي بالصوت والصورة، إلى منصات وحساباتٍ تلاحق الرواية الإسرائيلية، وتدحضها لحظة بلحظة. وتكفي السطوة الرقمية التي تظهرها خوارزميات تلك الوسائل في وجه أي محتوى داعم لفلسطين أن تثبت نجاعة النشاط على تلك الوسائل، إلا أنه سيبقى أسير الشاشة ما لم يوازه نشاطٌ سياسي رديفٌ على الأرض.
في وسائل التواصل الاجتماعي، منصب “ناشط الأريكة “متاحٌ للجميع. يمكنك تغيير صورتك الشخصية إلى صورة سوداء بعبارة “Ceasefire Now” لزيادة الوعي ومشاركة مقاطع الفيديو والمقالات والبقاء على اتصال مع المجريات من خلال متابعة الصفحات التي توفر تغطية ومعلومات. يبدو أن “المساهمة” في إحداث فرق أمرٌ سهل للغاية في العصر الرقمي. ولكن هل مساهمتنا تقتصر فعلاً على نقرة هناك ونشر مثلثاتٍ حمراء هناك؟
يمثل تدفق المعلومات وإعادة تدويرها بهذا الشكل خلال الأحداث التي تشغل الرأي العام ظاهرةً تدعى الناشطية عبر النقرات أو “Clicktivism”، وهي ظاهرة -على الرغم من النوايا الحسنة لمعظم المشاركين فيها- توقع بوهم المساواة بين الإعجاب وإعادة المشاركة وبين المشاركة في النشاط السياسي الفعلي في الميدان.
في كتابها “تويتر والغاز المسيل للدموع: قوة وهشاشة الاحتجاج الشبكي“، الصادر عام 2017، درست عالمة الاجتماع التركية زينب توفيقي كيف أصبح “المجال العام المترابط رقميًا” يشكّل الحركات الاجتماعية، معتمدةً على تجربتها الخاصة مع الانتفاضات العربية عام 2011، والاحتجاجات في حديقة جيزي في إسطنبول، وحركة “احتلوا وول ستريت” (Occupy Wall Street) في مدينة نيويورك، وحركة “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter) في الولايات المتحدة.
بالنسبة إلى توفيقي، ربط استخدام الإنترنت بين هذه الانتفاضات اللامركزية المختلفة وميّزها عن سابقاتها مثل حركة الحقوق المدنية في الستينات. وفي حين أنه “كان على الحركات القديمة أن تبني قدرتها التنظيمية أولاً”، قالت توفيقي، “يمكن للحركات الناشطة على الإنترنت الحديثة أن تتوسع بسرعة، وتتولى جميع أنواع المهام اللوجستية دون بناء أي قدرة تنظيمية كبيرة قبل إطلاق أول احتجاج أو مسيرة”.
ومع ذلك، فإن السرعة التي يوفرها مثل هذا الاحتجاج لا تقل خطورة عن الوعد الذي تحمله. وبعد التوسع السريع، غالبًا ما تكون الحركات العفوية عرضة لما تسميه توفيقي “التجميد التكتيكي”، كما شاهدنا مع موجة الاحتجاجات التي انفجرت في بعض المدن العربية في أعقاب مجزرة المستشفى المعمداني يوم 17 أكتوبر، وعادت إلى الخمود بعد أيام. ولأن هذه الحراكات غالبًا ما تكون بلا قيادة محددة، ومن الممكن أن تفتقر إلى “الثقافة والبنية الأساسية اللازمة لاتخاذ قرارات جماعية”، فإنها لا تترك لها سوى حيز ضئيل لفرض وضعٍ جديد أو التفاوض على مطالب.
أغلب الحركات الاجتماعية الموجودة اليوم ولدت، أو ترعرعت على الأقل، على الإنترنت. هرع الناشطون ومنظماتهم إلى مواقع تويتر وإنستاغرام وفيسبوك بهدف إحداث تغيير معين في الوضع الراهن، ولكن النشاط عبر الإنترنت سلاح ذو حدين، قد يعني النجاح الفوري والهزيمة على المدى الطويل.
على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث من المفترض أن يكون صوت الجميع موضع ترحيب، تثير الرسائل القصيرة والمؤثرة الاهتمام، كما أنها سهلة الفهم والتواصل مع الشباب. وعلى الرغم من أن الإعجاب بصورة معينة أو نشرها يعد بمثابة “نشاط منخفض المشاركة”، إلا أنه على الأقل يبرز قضية ما إلى الواجهة، ويتمكن أحيانًا من وضعها على جدول الأعمال العام. لكن السؤال دائمًا متعلق بالخطوة التالية، التي تأتي في الميدان. فالناشطية ليست عرضًا مسرحيًا يؤدي غرضه بمجرد “الحصول على الاهتمام”، بل تتطلب خطة لتحويل هذا الاهتمام إلى دعم -أو ضغط- يأخذه الساسة على محمل الجد.
أحياناً يُدفع لقاء سرعة الانتشار في حملات التواصل الاجتماعي ثمنٌ باهظٌ يصل إلى فوائد التخطيط الدقيق طويل المدى. على سبيل المثال، في الحركة ضد الفصل العنصري في ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، اجتمع النشطاء لسنوات لكتابة منشورات قاموا بعد ذلك بتوزيعها في جميع أنحاء البلاد من خلال عشرات المنظمات. تقول توفيقي “عندما ترى المسيرة إلى واشنطن عام 1963، عندما تنظر إلى تلك الصورة، مدركاً أن هذه هي المسيرة التي ألقى فيها مارتن لوثر كينغ خطابه الشهير ‘لدي حلم’، فإنك لا ترى فقط مسيرة”.
كمشارك في هذا النوع من المسيرات أو مشاهدٍ لها، بمجرد سماع خطاب قوي بمطالب واضحة وخطة عمل لدى مُلقيه، فإنك ترى أيضًا العمل المضني طويل الأمد الذي يقف خلفه. وإذا كنت في السلطة، فإنك تدرك أنه يتعين عليك أن تخشى القدرة والعمل المنظم اللذين أوصلا إلى تلك المسيرة. على النقيض من ذلك، عندما تنظر إلى بعض المظاهرات التي نُظِّمَت في غضون أيام، وبعضها يخرج بشكلٍ عفوي ردًّا على مجزرة، ترى الكثير من السخط، ولكنك لا ترى بالضرورة أسنانًا يمكن أن تعض على المدى الطويل، فما بالك إن أغلقت هاتفك، ونزلت إلى المدينة كزعيمٍ “متواطئ” ولم تسمع صوتًا واحدًا؟
عندما تصبح المشاركة السياسية مسألة نقرات، فإن قوة الإنترنت كمحرك للتغيير تصبح سرابًا.
التأثير في السياسية أبعد من الشاشة
الاحتجاجات، عندما تقتصر على الإنترنت، تشبه إلى حدّ ما الإطاحة برموز الاستعمار؛ إن إسقاط التمثال هو مجرد نقطة انطلاق، لكنه يسمح بالإشارة إلى عدم المساواة الاجتماعية. وفي بعض الأحيان، تكون سرعة النشر مسألة حياة أو موت. على سبيل المثال، نجحت منظمة العفو الدولية، في حملتها الرقمية الأولى عام 2002، من خلال جمع ملايين التوقيعات على الإنترنت، في منع امرأتين من الرجم حتى الموت في نيجيريا. لذا فإن النشاط الرقمي لا يقتل أو يحل محل نجم الشارع، بل يجعله أكثر إشراقًا.
يعيد ما يجري الآن على وسائل التواصل الاجتماعي وتوظيف الرموز الملوّنة على الأقل، حادثة مشابهة حدثت منذ ثلاث سنوات إلى الأذهان. بعد مقتل المواطن الأميركي داكن البشرة جورج فلويد على يد ضابط شرطة في مدينة مينيابوليس في الولايات المتحدة عام 2020، امتلأ موقع إنستاغرام بالمربعات السوداء في حملة واسعة الانتشار عرفت باسم #BlackOutTuesday.
كانت الفكرة هي تثقيف المستخدمين حول العنصرية من خلال توصيات الكتب والمقالات والأفلام الوثائقية، لكنها ضاعت وسط بحر من أيقونات المربع الأسود التي نشرها أشخاصٌ أرادوا إظهار تضامنهم مع الحركة. حينها، حثّ أعضاء حركة “حياة السود مهمة” مستخدمي إنستغرام على التوقف عن فعل ذلك، وعاد الجدل حول مدى تضامن الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي والتوقف عند ذلك. كم “مثلثٍ أحمر” سنشارك قبل طرح هذا التساؤل؟
يشير جوردان فلاهيرتي، الصحفي الأميركي ومؤلف كتاب “لا مزيد من الأبطال“، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكنها إلا محاكاة التعاطف، وليس استبداله “لا يمكن أن يأتي التعاطف إلا من خلال النظر في عين شخص ما وسماع صوته شخصيًا، وهو أمر لا يمكن لأي تقدمي أن يفعله”. وشدد على أن الإعجابات تجعل القضايا مرئية في بضع ثوان. ولكن عندما تُخْتَزَل الإجراءات إلى الواقع الافتراضي، فإنها سرعان ما تتلاشى. هناك دائمًا حاجة إلى حركات جسدية، منظمة وواضحة في أهدافها.
لا ينبغي أن تختفي الناشطية على الإنترنت، أو أن تُذَم. فهي حاجة ومساحة للتعبير وواقعٌ مفروضٌ على مجتمعات تقضي الكثير من وقتها على الإنترنت، علينا فقط أن نكون حريصين على عدم إجراء مقايضة بين الناشطية عبر الإنترنت والناشطية في العالم الحقيقي. وفقًا لأبحاث علم النفس، تشير الأدلة التجريبية إلى أن العلاقة بين النشاط عبر الإنترنت وخارجه هي علاقة إيجابية يمكنها التكامل.
هناك دومًا طريقة مثمرة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن عند فرحتنا بالإحصائيات التي تظهر تفوق المحتوى الداعم لفلسطين من ناحية الانتشار، علينا أن نتساءل عمّا لو كان دورنا يقتصر على “التأثير” بالرأي العام العالمي لـ “يضغط على حكوماته” وتتحرك لتؤثّر بنا، أم أننا نريد أن نمتلك ما هو أكثر من حدود الشاشة.