هذا القلق الذي يسكننا لماذا لا يريد أن يفارقنا لربيع واحد؟
تملأ الخضرة المساحات ونبع الفيجة لم يعلن إفلاسه بعد أما الوجوه فمعظمها تسّر الناظرين. فلماذا لا نشعر بالربيع؟
نرغب بالنسيان، ونُباغَت بمشهد أم توّدع ابنها “الشهيد”، فينكشف الجرح ويصرخ الألم وتنزف الدماء. وتحضر أرواح من رحلوا قبل الأوان لتجلس بيننا.
اللحظات تمرّ لطيفة مع نسيم الربيع والعصافير حاضرة ومن الصعب أن نصدّق أن الموت جاهز في مثل هذا اليوم. لكنه لم يغادر بعد.
مازال الموت يتجول بيننا ويختار ضحاياه من بين الأكثر شباباً. الحرب لم تنتهِ أبداً، وذكرياتها مثل بقعة زيت على القماش، كلما حاولنا إزالتها ازدادت مساحة تفشّيها.
نعاني جميعاً من هذا الشعور بالذنب لأننا على قيد الحياة.
ويبقى الموت قضية حتمية ولكنها محلولة، يمكن تجاوزها بطرق مختلفة. أما الاعتقال والاختفاء فهي قضية لا حل لها.

طفلة تخرجت لتوّها من المدرسة الثانوية تعلن خطبتها على شاب تخرّج لتوّه من الجامعة بمباركة الأهل. ثم تُزّف بعد سنة وتنتقل إلى بيت الزوجية بمباركة الأهل. ثم تعطي الحياة لطفلة بعد سنة بمباركة الأهل. يصبح الفتى والطفلتان أسرة تنشر السرور حولها أينما حلّت. الطفلة الكبيرة ترتاد الجامعة والأمهات يقدمن المساعدة بكل فرح بالحياة ورضى عن النفس. والفتى يظهر تفوّقاً في عمله بمجال التقنيات المتطورة فيترقّى في وظيفته شيئاً فشيئاً.
ولكنّها سوريا بلد المفاجآت التعيسة.
تنفجر في الربيع إرادة التغيير في الشارع وينخرط الفتى في نشاط تسجيل الأفلام القصيرة لأحداث الشارع وإرسالها إلى حيث يمكن نشرها بأمان.
يُعتقل الفتى للتحقيق بسبب تقرير من أحد الزملاء الحاقدين في العمل، ويختفي من وقتها. تعود الطفلتان إلى بيت الأسرة، ويمر الزمن وتصبح الطفلة سيدة بذاكرة فضفاضة. ويصبح الحلم الذي عاشته لأربع سنوات كابوساً لا يريد أن ينتهي.
ابنتها صار عمرها اثنتي عشر عاماً. أمها مازالت تقف وراءها تساندها في كل خطوة لكنها تعبت ومحا الحزن تعابير وجهها القديمة، أما حماتها فصارت رؤية حفيدتها تسبب لها المزيد من التعاسة والشعور بالعجز وصارت بحاجة للخدمة والتمريض. “مباركة الأهل” غادرت الأسرتين وحلّ مكانها غضب مكبوت في العيون وكأنه ذنب لا يعبر عنه بالكلمات ارتكبته الاثنتان دون علمهما. الأم تحاول أن تقنع ابنتها بالنسيان وبدء حياة جديدة والحماة تحاول أن تستحضر ابنها إلى الوجود وتقنع كنتها أنه عائد لامحالة.
هل اخترعت الحضارة مخرجاً لمثل هذه المآزق؟
كيف تقتنع زوجة معتقل أن تمضي في حياتها وهي تتجاهل حبيباً لا تعرف مصيره؟ كيف تقتنع ابنة أن لديها أباً يعتبرها أهم من نفسه إذا كان غائباً لا تدري هل هو حي أو ميت؟
هنا في سوريا لم نخترع بعد مخرجاً لهذا المأزق الصعب. يبدو أنه من المستحيل أن تعرف آلاف الأمهات والزوجات والأبناء هل سلّم معتقلهم الروح بعد هذه السنين أم أنه لا زال حياً. هل حوكم وما هي مدة محكوميته؟
إنّه الموت بنفس الرصاصة كل صباح، كل ربيع، إنه الموت الأقسى من الموت.
إقرأوا أيضاً: