fbpx

التهافت على “الشر” والصمت السوري المزدوج!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ 2011، و”العالم” يرى بوضوح وبدقة فائقة ماكينات القتل، ولم يتدخل، يتأمل  تلاشي سوريا/ الوطن أمام القوى السياسية وقوى الأمر الواقع،  وإبادة الغزيين بالذكاء الصناعي، فإن كانت المقتلة السورية لحظة طرح سؤال “ما فائدة العالم؟”، المقتلة الغزية هي الإجابة، لا فائدة،  الشر ينتصر دائماً!. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كشفت صور القمر الصناعي أن الجيش الإسرائيلي، تجاوز حدود المنطقة منزوعة السلاح مع سوريا (الخط ألفا) إذ زحزح الجنود الإسرائيليون التراب المتفق على سكونه، وحفروا خندقاً وشقّوا طريقاً، علامات على الجهد العسكري، والأهم الحركة في المساحة الساكنة منذ عام 1974.

 بقيت تلك المساحة ساكنة بأوامر سيادية وقرار رقم 388 الأممي، هي خارج الصراع المؤجل، يتخللها صرخات أهل القرى الحدودية خلف السياج، ومحاولات النظام السوري “تحريك الجبهة”، كما حصل عام 2011، أثناء “مسيرة العودة” حيث حملت باصات عشرات السوريين- الفلسطنيين من مخيم اليرموك نحو الحدود كي “يعودوا” إلى فلسطين،  وصل منهم واحد، حسن حجازي، الذي اعتُقل في إسرائيل ثم أُعيد إلى سوريا، وبعد سنوات هجّر النظام السوري سكان مخيم اليرموك ودمّره.

الأسد الذي تحوم الطائرات الإسرائيلية فوق قصره، بل وتقصف “سوريا المفيدة” وغير المفيدة، لم ينبس ببنت شفة عما يحدث في “سورياه” من قصف واعتداءات في قمة الرياض، وكأنها مساحة خارج سيادته، فهو خارج الحرب الحالية، وهنا نهذر ونقول، هذه نقطة قوّة الأسد، خلوده المتوارث عن والده، يمنحه القدرة على الانسحاب من الزمن السياسي، وتعطيل سلطته على الجغرافيا والأجساد، ليجلس متفرجاً يسيّر الأعمال ولا يسود، أو على الأقل، عاجزاً عن حكم التراب وضبط الحدود.

“إسرائيل تقصف سوريا”، تتكرر العبارة بصورة شبه يومية،  لكن يظهر النظام السوري منذ بداية الحرب على غزة، أشبه بعريف يعيد ضبط الكتل البشرية وأدوارها، يسرّح عناصر من الجيش ويفتح الباب لآخرين من أجل بناء “جيش احترافي متطور”، يبتز النازحين السوريين واللبنانين الفارين من الحرب ضمن اقتصاد الإتاوات، ويشرف صامتاً على إعادة توزّع عناصر “حزب الله” والميلشيات الإيرانية في سوريا، ومع كل قصف، تتكرر “إدانة العدوان” بالبلاغة المعروفة ذاتها.

يمتلك الجيش  الإسرائيلي لقصف “المنطقة” بين قطاع غزة حتى حدود إيران والعراق، حجة أنتجها استعصاء الأسد السياسي والسطوة الإيرانية، حجة مفادها أن كل هذه المساحة تحكمها ميليشيات، ولا جيش يضبط الحدود، أي نحن أمام أرض معركة ممتدة، السياسة فيها لخصها الصحافي في “أكسيوس” باراك رافيد، بعبارة تحوي من التحايل اللغوي والتحذلق ما لا يمكن تجاهله، عبارة مفادها: “تخفيف التصعيد عبر التصعيد”!.

الاستعصاء الذي أوقعنا فيه بشار الأسد، يتركنا أمام معضلة سؤال: “من يدافع عن أرض الوطن؟”،  أي واحد من حملة السلاح الآن في سوريا لم يقتّل في السوريين، يمتلك حق “صدّ العدوان” ؟ العبارة البلاغية – الأممية شديدة الابتذال، السؤال السابق اختصرت إجابته روسيا عبر بناء نقطة مراقبة وضبط الحدود في الجولان، علماً أن المندوب الروسي لسوريا سبق أن أكد أن مهمة الجيش الروسي في سوريا هي “محاربة الإرهاب”، أما ضبط الحدود “فيتطلب بناء نقاط تفتيش جديدة حول الحدود، وهي مهمة لا تقع ضمن اختصاص الجيش الروسي في سوريا”!.

إعادة رسم الجغرافية السورية

يُعد نموذج الحرب  الحالية التي تشنّها إسرائيل  على المنطقة بـخطة”اليوم التالي” بعد “القضاء على الإرهابيين”، التي لها شكلان، الأول عبر سلطة المال كشواطئ مصر التي تستثمرها الإمارات كمدن جديدة،  حيث لا ثورات واحتجاجات فيها، ولا مطالب بالتحرر، فقط استهلاك و متعة، أو ما يمكن وصفه بـ”المواطنة الترفيهية”.

النموذج الآخر هو ما اقتُرح على الكنيست، عبر التعاقد مع شركة للـ”مرتزقة” ستعمل مع الجيش الإسرائيلي لإنشاء “فقاعات إنسانية محاطة بالجدران” في قطاع غزة، يُشغّلها جنود من أميركا وبريطانيا،  يُستقبَل الغزيون في هذه “الفقاعات” بناء على “بيانات بايومترية”، و”لن تمول من أموال دافعي الضرائب الإسرائيليين” بل من الحكومة الأميركية.

في الحالة السورية الموضوع مختلف، إعادة توزيع كتل المقاتلين والمهجّرين، واستهداف الجيش الإسرائيلي للشيعة المهجّرين في القصير بوصفهم “الحاضنة الشعبية”، أعاد تقسيم الخريطة السورية، إسرائيل تعزل الممرات الحدودية عبر قصفها، وقصفت الطرق التي توصل إلى القصير في حمص لعزلها، ناهيك بأثر القصف على دمشق الذي يدفع السكان إلى مغادرة منازلهم في كفر سوسة والمزة، هناك جهد مزدوج لإعادة توزيع الكتل البشرية، جهد الحرب الإسرائيلية و”لا جهد” النظام السوري، واللافت، أنه في أحد الإعلانات لبيع أحد البيوت في المزة نقرأ أن” الكهرباء فيه جيدة، ولا حاجة للطاقة البديلة!”.

 هناك إذاً صورتان تتنازعان قتلاً وتدميراً أمام “العالم” لشكل المنطقة، إما دولاً ذات جيوش، وإما مساحات تحكمها ميليشيات متصارعة، وتوسع عمليات الجيش الإسرئيلي في لبنان يكشف هذا السعي، فالدعاية الإسرائيلية الموجهة لسكان لبنان تبتزهم وتكرر أنهم أمام فرصة لـ”بناء دولة”، و”جيش قادر على ضبط الحدود”، دولة تمتلك قرار الحرب والسلم، أي ببساطة، دولة ذات سيادة! وهنا يظهر النظام السوري كـ”شريك صامت”، كما وصفه  زافي بارئيل في “هآرتس”، حيث تعمل إسرائيل بـ”حصانة شبه تامة” في الأراضي السورية، والنظام نأى بنفسه عن الحرب على غزة إلى حد منع مظاهر التضامن مع غزة وفرض موافقات أمنية لأي فعالية تضامنية بحجة”الحماية من الإرهاب والعصابات المسلحة، والحفاظ على الأمن والأمان”.

في أزمة “الشر”

تكررت خلال السنوات الماضية محاولات ربط “شر” النظام السوري بـ”الشر النازي”، سبق  رصد ذلك سواء في الأعمال الأدبية أو التحقيقات الصحافية، عبر حكاية الضابط النازي، ألويز برونر الذي كان مقيماً في سوريا بعد هربه من ألمانيا، ودارت الحكايات حول دوره في بناء المؤسسات الأمنية وتقنيات التعذيب، بوصفه مهندس “الشر السوري”، في شكل من أشكال الاستشراق الذاتي، لكن يمكن الرد على ذلك ببساطة: هذا الديكتاتور وابنه لنا، وشره سوري.

إلصاق “شر” نظام الأسد طوال 40 عاماً بشخص واحد، يبدو نوعاً من أنواع مشاركة “العالم” بسردية ما بعد الحرب العالمية الثانية، والقول إننا أيضاً ضحايا شر النازية، محاولة تصادر منا قتلنا وقتلانا على حساب الاتفاق مع ما سماه “العالم” الشر، وذلك في سبيل دفع هذا “العالم” إلى التدخل.

بعد “7 أكتوبر”، ازداد استخدام وصف “الشر”، إسرائيل تقارن “حماس” بالنازية وهتلر، إلى حد القول إن الهجوم على مستوطنات غلاف غزة هو “هولوكست ثانٍ”، بل إن الجيش الإسرائيلي نشر صور لكتاب “كفاحي” قيل إنه وُجد في أنفاق “حماس”، أما أنصار الحق الفلسطيني أيضاً فيتّهمون الإسرائيليين بأنهم يُعيدون إنتاج الإبادة التي اختبرها أجدادهم في ألمانيا، كما أن يحيى السنوار قال عام 2022 في لقاء جماهيري عقب عملية “سيف القدس” أن “خطة المقاومة أساسها عزل إسرائيل عن العالم”.

إذاً “العالم” محطّ رهان الأطراف المتصارعة التي تدعوه إلى التدخل إما مباشرة وإما عبر منح المباركة لجهود “القضاء” على “الشر”، وهنا مفارقة في فهم “العالم”، الذي واجه “الشر” في الأربعينيات وعمل على اجتثاثه حين كان هذا الشر توسعياً، لم يتحرك العالم للدفاع عن الفئة التي تُباد (اليهود) بل لحماية حدود الدول الأوروبية التي بدأ الرايخ الثالث يتوسع حولها.

 في حالة “الشرور” الأكثر جدّة، كان الرهان أن “العالم” سيتدخل على إباحية المقتلة، وكشف الضحية المدنية بفجاجة موتها شناعة “الشر” الذي يقتّل بعدمية، بصورة ما، الرهان إذاً عبر المعادلة التالية: كلما كان القتل شنيعاً وعلنياً، سيتكشف شر القاتل ويدفع “العالم” إلى التدخل، والنتيجة تقتيل السوريين، حرب إبادة على الغزيين، تدمير جنوب لبنان بيتاً بيتاً، والعالم اكتفى بمحاكمات رمزية لرجالات النظام السوري، ومذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، وهنا تظهر هزلية هذا “العالم”، بصورة أدق، الآليات التي وُضعت لمنع تكرار الإبادة الجماعية غير ناجحة في وقف الإبادة، أي إبادة كانت.

كيف نوجد في “العالم”؟

يمكن تلخيص موقف “العالم” بشكله المؤسساتي، عبر موقف المعسكرين الأشد فاعلية، ونقصد أصحاب حق الفيتو، إذ استخدمت روسيا الفيتو لصالح النظام السوري 17 مرة بين عامي 2011 و2022، واستخدمت أميركا حق الفيتو لصالح إسرائيل نحو 5 مرات خلال عام من الحرب،  وخلال هذه السنوات خوطب “العالم” مراراً من تحت القصف والبراميل والإبادة، مع ذلك لم يحرك جسد الضحية الميتة المكشوف لحمها عن لحمها بقوة الحديد شيئاً! و”الشر” ما زال فاعلاً على رغم “تفاهته”.

فرضية أن العالم هنا قطبان قابلة للتفكيك، وإن أردنا استبدالها بمقاربة أشد إقليمية، يمكن القول إن إغلاق حدود مصر، الأردن والسعودية وتركيا والتمسك بالحدود الوطنية، يرسّخ مفهوم الدولة ذات السيادة على حساب الإبادة/ القضاء على المليشيات خارج الدولة، أي دولة كانت في المنطقة، بالتالي بقوة السلاح واتفاق “العالم”، تحولت المنطقة (غزة، جنوب لبنان، سوريا) إلى نموذج ما قبل الدولة التي لابد من “تطهيرها” لتليق بـ”الحياة”، “تطهيرها” دون أن دور للمدنيين سوى الموت، وهنا يمكن تفسير صمت الأسد، “الأرض” لا تصلح كي يحكمها، فيعطل السيادة على التراب القليل الذي يتحكم به، إلى أن يحين “دوره” في الحكم.

أما نحن المتفرجين في “العالم”، منزوعو الفاعلية السياسية في أوطاننا الأصلية، ومن لا نمتلك الثقل السياسي في الدول المضيفة، موجودون في مساحة اللافعل، إذ لا نموذج سياسي قادر على احتوائنا ويمتلك فاعلية الميليشيا على الأرض، وهنا يعود السؤال، أين نحن في هذا “العالم”؟ خصوصا السوريين الصامتين عن القصف الإسرائيلي على أرضهم، وأي نموذج ينتظرون في “اليوم التالي”؟.

السؤال السابق يتم تفادي الإجابة عنه، للمفارقة من جهتين، جهة النظام نفسه وجهة (الثورة/ المعارضة) هناك صمت مزدوج حيال “الاحتلال” المُحتمل، وشرط عسكري واضح يتجلّى بقصف سوريا من اللاذقية حتى تدمر مروراً بدمشق، من قبل إسرائيل (نتجاهل هنا القصف الروسي وقصف النظام للشمال السوري) حتى محاولة استغلال الحرب وإعادة انتشار “حزب الله” في سوريا وتحرك “هيئة تحرير الشام” للهجوم، انتهى فوراً بغارات روسية وضعت حداً لأي فرصة لإسقاط الأسد في ظل ما يحصل، وهنا المفارقة الهزلية، أن نراهن إما على إسرائيل وإما على “هيئة تحرير الشام” لإسقاط النظام! الشعار الذي لم يعد له معنى الآن.

تظهر بين أنصار محور المقاومة، عبارات كـ”ألم نقل لكم ستصل إسرائيل إليكم !” في إشارة إلى قصف دمشق، بوصفها فرصة للتوبة والعودة إلى “المحور”، في تجاهل تام لحياد الأسد ونفيه لـ”وحدة الجبهات”، وكأن هناك من “مسّهم السحر” في موقفهم المعارض للأسد، ويجب أن ينجلي هذا السحر مع أول استهداف لدمشق، والعودة إلى حضن الوطن!.

 الصواريخ الإسرائيلية والعمليات البرية ودفع الشريط الحدودي والقتلى في أنحاء سوريا، إضافة جديدة إلى سجل خراب سوريا بوصفها “وطناً”  يُدمّر، لا أفق واضح لاستعادته من براثن “الشر”، الذي للأسف، هناك تهليل يتردد سراً للقصف الإسرائيلي لمساحاته ومدنه، أي الوطن، يتجلّى التهليل بعبارات مثل “ليدمروها كلها، لم يعد هناك شيء يستحق” أو “عم يخلصونا من الإيرانية”،  هذا الخروج من الفاعلية السياسية والاستسلام للشر وانتظار الفرصة المناسبة ، يُرسّخ السردية الإسرائيلية عن “جبهة مفتوحة” تصل حدود إيران، وهنا الاستعصاء، لا سلاح نظيف (إن وجد هكذا سلاح) ليُرفع دفاعاً عن الأرض.

 نحن إذاً أمام شريّن ذويْ صدى تاريخي، إن أردنا تبني الاتهامات المتبادلة سابقاً حول النازية، شران إباديان في كلاهما تحضر “القضية السورية” بصورة ملحّة، لا فقط في تقسيم المواقف بين هذين الشرين (مؤيد/معارض) بل في إعادة النظر في “العالم” نفسه وفعاليته وقدرته على الوقوف بوجه “الشر”، خصوصاً حين نكون أمام إبادة وقتل ممنهج لم يتدخل العالم لإيقافهما أثناء حصولهما، إذ فوجئ الجنود الأميركيون حين وصلوا إلى معكسر اعتقال “داخاو” في بافاريا، الأمر ذاته مع السوفييت حين دخلوا أوشفيتز، لم يعلم كلاهما، أنها معسكرات للقتل.

منذ 2011، و”العالم” يرى بوضوح وبدقة فائقة ماكينات القتل، ولم يتدخل، يتأمل  تلاشي سوريا/ الوطن أمام القوى السياسية وقوى الأمر الواقع،  وإبادة الغزيين بالذكاء الصناعي، فإن كانت المقتلة السورية لحظة طرح سؤال “ما فائدة العالم؟”، المقتلة الغزية هي الإجابة، لا فائدة،  الشر ينتصر دائماً!. 

26.11.2024
زمن القراءة: 8 minutes

منذ 2011، و”العالم” يرى بوضوح وبدقة فائقة ماكينات القتل، ولم يتدخل، يتأمل  تلاشي سوريا/ الوطن أمام القوى السياسية وقوى الأمر الواقع،  وإبادة الغزيين بالذكاء الصناعي، فإن كانت المقتلة السورية لحظة طرح سؤال “ما فائدة العالم؟”، المقتلة الغزية هي الإجابة، لا فائدة،  الشر ينتصر دائماً!. 

كشفت صور القمر الصناعي أن الجيش الإسرائيلي، تجاوز حدود المنطقة منزوعة السلاح مع سوريا (الخط ألفا) إذ زحزح الجنود الإسرائيليون التراب المتفق على سكونه، وحفروا خندقاً وشقّوا طريقاً، علامات على الجهد العسكري، والأهم الحركة في المساحة الساكنة منذ عام 1974.

 بقيت تلك المساحة ساكنة بأوامر سيادية وقرار رقم 388 الأممي، هي خارج الصراع المؤجل، يتخللها صرخات أهل القرى الحدودية خلف السياج، ومحاولات النظام السوري “تحريك الجبهة”، كما حصل عام 2011، أثناء “مسيرة العودة” حيث حملت باصات عشرات السوريين- الفلسطنيين من مخيم اليرموك نحو الحدود كي “يعودوا” إلى فلسطين،  وصل منهم واحد، حسن حجازي، الذي اعتُقل في إسرائيل ثم أُعيد إلى سوريا، وبعد سنوات هجّر النظام السوري سكان مخيم اليرموك ودمّره.

الأسد الذي تحوم الطائرات الإسرائيلية فوق قصره، بل وتقصف “سوريا المفيدة” وغير المفيدة، لم ينبس ببنت شفة عما يحدث في “سورياه” من قصف واعتداءات في قمة الرياض، وكأنها مساحة خارج سيادته، فهو خارج الحرب الحالية، وهنا نهذر ونقول، هذه نقطة قوّة الأسد، خلوده المتوارث عن والده، يمنحه القدرة على الانسحاب من الزمن السياسي، وتعطيل سلطته على الجغرافيا والأجساد، ليجلس متفرجاً يسيّر الأعمال ولا يسود، أو على الأقل، عاجزاً عن حكم التراب وضبط الحدود.

“إسرائيل تقصف سوريا”، تتكرر العبارة بصورة شبه يومية،  لكن يظهر النظام السوري منذ بداية الحرب على غزة، أشبه بعريف يعيد ضبط الكتل البشرية وأدوارها، يسرّح عناصر من الجيش ويفتح الباب لآخرين من أجل بناء “جيش احترافي متطور”، يبتز النازحين السوريين واللبنانين الفارين من الحرب ضمن اقتصاد الإتاوات، ويشرف صامتاً على إعادة توزّع عناصر “حزب الله” والميلشيات الإيرانية في سوريا، ومع كل قصف، تتكرر “إدانة العدوان” بالبلاغة المعروفة ذاتها.

يمتلك الجيش  الإسرائيلي لقصف “المنطقة” بين قطاع غزة حتى حدود إيران والعراق، حجة أنتجها استعصاء الأسد السياسي والسطوة الإيرانية، حجة مفادها أن كل هذه المساحة تحكمها ميليشيات، ولا جيش يضبط الحدود، أي نحن أمام أرض معركة ممتدة، السياسة فيها لخصها الصحافي في “أكسيوس” باراك رافيد، بعبارة تحوي من التحايل اللغوي والتحذلق ما لا يمكن تجاهله، عبارة مفادها: “تخفيف التصعيد عبر التصعيد”!.

الاستعصاء الذي أوقعنا فيه بشار الأسد، يتركنا أمام معضلة سؤال: “من يدافع عن أرض الوطن؟”،  أي واحد من حملة السلاح الآن في سوريا لم يقتّل في السوريين، يمتلك حق “صدّ العدوان” ؟ العبارة البلاغية – الأممية شديدة الابتذال، السؤال السابق اختصرت إجابته روسيا عبر بناء نقطة مراقبة وضبط الحدود في الجولان، علماً أن المندوب الروسي لسوريا سبق أن أكد أن مهمة الجيش الروسي في سوريا هي “محاربة الإرهاب”، أما ضبط الحدود “فيتطلب بناء نقاط تفتيش جديدة حول الحدود، وهي مهمة لا تقع ضمن اختصاص الجيش الروسي في سوريا”!.

إعادة رسم الجغرافية السورية

يُعد نموذج الحرب  الحالية التي تشنّها إسرائيل  على المنطقة بـخطة”اليوم التالي” بعد “القضاء على الإرهابيين”، التي لها شكلان، الأول عبر سلطة المال كشواطئ مصر التي تستثمرها الإمارات كمدن جديدة،  حيث لا ثورات واحتجاجات فيها، ولا مطالب بالتحرر، فقط استهلاك و متعة، أو ما يمكن وصفه بـ”المواطنة الترفيهية”.

النموذج الآخر هو ما اقتُرح على الكنيست، عبر التعاقد مع شركة للـ”مرتزقة” ستعمل مع الجيش الإسرائيلي لإنشاء “فقاعات إنسانية محاطة بالجدران” في قطاع غزة، يُشغّلها جنود من أميركا وبريطانيا،  يُستقبَل الغزيون في هذه “الفقاعات” بناء على “بيانات بايومترية”، و”لن تمول من أموال دافعي الضرائب الإسرائيليين” بل من الحكومة الأميركية.

في الحالة السورية الموضوع مختلف، إعادة توزيع كتل المقاتلين والمهجّرين، واستهداف الجيش الإسرائيلي للشيعة المهجّرين في القصير بوصفهم “الحاضنة الشعبية”، أعاد تقسيم الخريطة السورية، إسرائيل تعزل الممرات الحدودية عبر قصفها، وقصفت الطرق التي توصل إلى القصير في حمص لعزلها، ناهيك بأثر القصف على دمشق الذي يدفع السكان إلى مغادرة منازلهم في كفر سوسة والمزة، هناك جهد مزدوج لإعادة توزيع الكتل البشرية، جهد الحرب الإسرائيلية و”لا جهد” النظام السوري، واللافت، أنه في أحد الإعلانات لبيع أحد البيوت في المزة نقرأ أن” الكهرباء فيه جيدة، ولا حاجة للطاقة البديلة!”.

 هناك إذاً صورتان تتنازعان قتلاً وتدميراً أمام “العالم” لشكل المنطقة، إما دولاً ذات جيوش، وإما مساحات تحكمها ميليشيات متصارعة، وتوسع عمليات الجيش الإسرئيلي في لبنان يكشف هذا السعي، فالدعاية الإسرائيلية الموجهة لسكان لبنان تبتزهم وتكرر أنهم أمام فرصة لـ”بناء دولة”، و”جيش قادر على ضبط الحدود”، دولة تمتلك قرار الحرب والسلم، أي ببساطة، دولة ذات سيادة! وهنا يظهر النظام السوري كـ”شريك صامت”، كما وصفه  زافي بارئيل في “هآرتس”، حيث تعمل إسرائيل بـ”حصانة شبه تامة” في الأراضي السورية، والنظام نأى بنفسه عن الحرب على غزة إلى حد منع مظاهر التضامن مع غزة وفرض موافقات أمنية لأي فعالية تضامنية بحجة”الحماية من الإرهاب والعصابات المسلحة، والحفاظ على الأمن والأمان”.

في أزمة “الشر”

تكررت خلال السنوات الماضية محاولات ربط “شر” النظام السوري بـ”الشر النازي”، سبق  رصد ذلك سواء في الأعمال الأدبية أو التحقيقات الصحافية، عبر حكاية الضابط النازي، ألويز برونر الذي كان مقيماً في سوريا بعد هربه من ألمانيا، ودارت الحكايات حول دوره في بناء المؤسسات الأمنية وتقنيات التعذيب، بوصفه مهندس “الشر السوري”، في شكل من أشكال الاستشراق الذاتي، لكن يمكن الرد على ذلك ببساطة: هذا الديكتاتور وابنه لنا، وشره سوري.

إلصاق “شر” نظام الأسد طوال 40 عاماً بشخص واحد، يبدو نوعاً من أنواع مشاركة “العالم” بسردية ما بعد الحرب العالمية الثانية، والقول إننا أيضاً ضحايا شر النازية، محاولة تصادر منا قتلنا وقتلانا على حساب الاتفاق مع ما سماه “العالم” الشر، وذلك في سبيل دفع هذا “العالم” إلى التدخل.

بعد “7 أكتوبر”، ازداد استخدام وصف “الشر”، إسرائيل تقارن “حماس” بالنازية وهتلر، إلى حد القول إن الهجوم على مستوطنات غلاف غزة هو “هولوكست ثانٍ”، بل إن الجيش الإسرائيلي نشر صور لكتاب “كفاحي” قيل إنه وُجد في أنفاق “حماس”، أما أنصار الحق الفلسطيني أيضاً فيتّهمون الإسرائيليين بأنهم يُعيدون إنتاج الإبادة التي اختبرها أجدادهم في ألمانيا، كما أن يحيى السنوار قال عام 2022 في لقاء جماهيري عقب عملية “سيف القدس” أن “خطة المقاومة أساسها عزل إسرائيل عن العالم”.

إذاً “العالم” محطّ رهان الأطراف المتصارعة التي تدعوه إلى التدخل إما مباشرة وإما عبر منح المباركة لجهود “القضاء” على “الشر”، وهنا مفارقة في فهم “العالم”، الذي واجه “الشر” في الأربعينيات وعمل على اجتثاثه حين كان هذا الشر توسعياً، لم يتحرك العالم للدفاع عن الفئة التي تُباد (اليهود) بل لحماية حدود الدول الأوروبية التي بدأ الرايخ الثالث يتوسع حولها.

 في حالة “الشرور” الأكثر جدّة، كان الرهان أن “العالم” سيتدخل على إباحية المقتلة، وكشف الضحية المدنية بفجاجة موتها شناعة “الشر” الذي يقتّل بعدمية، بصورة ما، الرهان إذاً عبر المعادلة التالية: كلما كان القتل شنيعاً وعلنياً، سيتكشف شر القاتل ويدفع “العالم” إلى التدخل، والنتيجة تقتيل السوريين، حرب إبادة على الغزيين، تدمير جنوب لبنان بيتاً بيتاً، والعالم اكتفى بمحاكمات رمزية لرجالات النظام السوري، ومذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، وهنا تظهر هزلية هذا “العالم”، بصورة أدق، الآليات التي وُضعت لمنع تكرار الإبادة الجماعية غير ناجحة في وقف الإبادة، أي إبادة كانت.

كيف نوجد في “العالم”؟

يمكن تلخيص موقف “العالم” بشكله المؤسساتي، عبر موقف المعسكرين الأشد فاعلية، ونقصد أصحاب حق الفيتو، إذ استخدمت روسيا الفيتو لصالح النظام السوري 17 مرة بين عامي 2011 و2022، واستخدمت أميركا حق الفيتو لصالح إسرائيل نحو 5 مرات خلال عام من الحرب،  وخلال هذه السنوات خوطب “العالم” مراراً من تحت القصف والبراميل والإبادة، مع ذلك لم يحرك جسد الضحية الميتة المكشوف لحمها عن لحمها بقوة الحديد شيئاً! و”الشر” ما زال فاعلاً على رغم “تفاهته”.

فرضية أن العالم هنا قطبان قابلة للتفكيك، وإن أردنا استبدالها بمقاربة أشد إقليمية، يمكن القول إن إغلاق حدود مصر، الأردن والسعودية وتركيا والتمسك بالحدود الوطنية، يرسّخ مفهوم الدولة ذات السيادة على حساب الإبادة/ القضاء على المليشيات خارج الدولة، أي دولة كانت في المنطقة، بالتالي بقوة السلاح واتفاق “العالم”، تحولت المنطقة (غزة، جنوب لبنان، سوريا) إلى نموذج ما قبل الدولة التي لابد من “تطهيرها” لتليق بـ”الحياة”، “تطهيرها” دون أن دور للمدنيين سوى الموت، وهنا يمكن تفسير صمت الأسد، “الأرض” لا تصلح كي يحكمها، فيعطل السيادة على التراب القليل الذي يتحكم به، إلى أن يحين “دوره” في الحكم.

أما نحن المتفرجين في “العالم”، منزوعو الفاعلية السياسية في أوطاننا الأصلية، ومن لا نمتلك الثقل السياسي في الدول المضيفة، موجودون في مساحة اللافعل، إذ لا نموذج سياسي قادر على احتوائنا ويمتلك فاعلية الميليشيا على الأرض، وهنا يعود السؤال، أين نحن في هذا “العالم”؟ خصوصا السوريين الصامتين عن القصف الإسرائيلي على أرضهم، وأي نموذج ينتظرون في “اليوم التالي”؟.

السؤال السابق يتم تفادي الإجابة عنه، للمفارقة من جهتين، جهة النظام نفسه وجهة (الثورة/ المعارضة) هناك صمت مزدوج حيال “الاحتلال” المُحتمل، وشرط عسكري واضح يتجلّى بقصف سوريا من اللاذقية حتى تدمر مروراً بدمشق، من قبل إسرائيل (نتجاهل هنا القصف الروسي وقصف النظام للشمال السوري) حتى محاولة استغلال الحرب وإعادة انتشار “حزب الله” في سوريا وتحرك “هيئة تحرير الشام” للهجوم، انتهى فوراً بغارات روسية وضعت حداً لأي فرصة لإسقاط الأسد في ظل ما يحصل، وهنا المفارقة الهزلية، أن نراهن إما على إسرائيل وإما على “هيئة تحرير الشام” لإسقاط النظام! الشعار الذي لم يعد له معنى الآن.

تظهر بين أنصار محور المقاومة، عبارات كـ”ألم نقل لكم ستصل إسرائيل إليكم !” في إشارة إلى قصف دمشق، بوصفها فرصة للتوبة والعودة إلى “المحور”، في تجاهل تام لحياد الأسد ونفيه لـ”وحدة الجبهات”، وكأن هناك من “مسّهم السحر” في موقفهم المعارض للأسد، ويجب أن ينجلي هذا السحر مع أول استهداف لدمشق، والعودة إلى حضن الوطن!.

 الصواريخ الإسرائيلية والعمليات البرية ودفع الشريط الحدودي والقتلى في أنحاء سوريا، إضافة جديدة إلى سجل خراب سوريا بوصفها “وطناً”  يُدمّر، لا أفق واضح لاستعادته من براثن “الشر”، الذي للأسف، هناك تهليل يتردد سراً للقصف الإسرائيلي لمساحاته ومدنه، أي الوطن، يتجلّى التهليل بعبارات مثل “ليدمروها كلها، لم يعد هناك شيء يستحق” أو “عم يخلصونا من الإيرانية”،  هذا الخروج من الفاعلية السياسية والاستسلام للشر وانتظار الفرصة المناسبة ، يُرسّخ السردية الإسرائيلية عن “جبهة مفتوحة” تصل حدود إيران، وهنا الاستعصاء، لا سلاح نظيف (إن وجد هكذا سلاح) ليُرفع دفاعاً عن الأرض.

 نحن إذاً أمام شريّن ذويْ صدى تاريخي، إن أردنا تبني الاتهامات المتبادلة سابقاً حول النازية، شران إباديان في كلاهما تحضر “القضية السورية” بصورة ملحّة، لا فقط في تقسيم المواقف بين هذين الشرين (مؤيد/معارض) بل في إعادة النظر في “العالم” نفسه وفعاليته وقدرته على الوقوف بوجه “الشر”، خصوصاً حين نكون أمام إبادة وقتل ممنهج لم يتدخل العالم لإيقافهما أثناء حصولهما، إذ فوجئ الجنود الأميركيون حين وصلوا إلى معكسر اعتقال “داخاو” في بافاريا، الأمر ذاته مع السوفييت حين دخلوا أوشفيتز، لم يعلم كلاهما، أنها معسكرات للقتل.

منذ 2011، و”العالم” يرى بوضوح وبدقة فائقة ماكينات القتل، ولم يتدخل، يتأمل  تلاشي سوريا/ الوطن أمام القوى السياسية وقوى الأمر الواقع،  وإبادة الغزيين بالذكاء الصناعي، فإن كانت المقتلة السورية لحظة طرح سؤال “ما فائدة العالم؟”، المقتلة الغزية هي الإجابة، لا فائدة،  الشر ينتصر دائماً!.