تجددت قضية طارق رمضان حفيد مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين” بتهمة الاغتصاب بعد ثبوت أدلة وتقارير طبية تدعم الضحية بريجيت، في ذات الوقت بثت قناة “BBC” وثائقياً يحوي شهادات أكثر من 20 امرأة تضمنت ادعاءات 5 منهن على الأقل بتعرضهن للاغتصاب من رجل الأعمال المصري الراحل محمد الفايد، المالك السابق لسلسلة متاجر “هارودز” الشهيرة.
أثناء ذلك، أعلنت الفتاة المصرية خديجة تعرضها للإساءة الجنسية الإلكترونية من الشيخ المصري صلاح الدين التيجاني، وبعدها وثقت مؤسسة “المرأة الجديدة” شهادات ثلاث سيدات أخريات تعرضن للتحرش الإلكتروني من الشيخ نفسه.
سيدات من بقاع مختلفة وجنسيات متعددة من العالم، أدلين بشهادات صادمة في أوقات متقاربة من دون ترتيب أو اتفاق بينهن، ليلعبن دوراً غير منسق في وضع ثلاثة نماذج لثلاثة رجال جوار بعضهم بعضاً أمام المساءلة، وليدفعن إلى التأمل في المفارقة التي قد تكشف الحكايا المختبئة خلف هذه الشهادات، والتساؤل لماذا تزداد قضايا التحرش والاغتصاب في مسيرات رجال امتلكوا سلطات مطلقة “دينية وتنظيمية ومادية ” وكيف اطمئنوا إلى أن جرائمهم لن تظهر إلى العلن وسيرتهم ستستمر لا تشوبها شائبة.
سلطة التيجاني الدينية… الولاء للشيخ لا للعقل ولا للأبناء
صلاح الدين التيجاني الذي أسس زاوية ومسجداً خاصين بالطريقة التيجانية في منطقة إمبابة المصرية، برزت شهرته بشكل ملحوظ، في السنوات العشر الأخيرة، بعد خوف الناس وتوجسهم من تيار السلفية والإخوانية، حيث مال الكثيرون إلى طريقته الصوفية، وباتت حضرته تستقبل العامة والمشاهير، وأخذ مدى سلطته يتمدد، بعدما كان في أوساط خلف الستار في البداية.
يفتخر صلاح الدين التيجاني بأنه بدأ ببناء مسجد وزاوية وهو في سن السابعة عشرة، عندما كان في السنة الأولى في كلية الطب، وبعدما حصل على الإجازات كافة -على حد زعمه- في الأحاديث والتفاسير والقراءات وغيرها. كان حلم المراهق شاطحاً، وفي مصر يمكنك أن تشطح وتجد لك مريدين من المكلومين الذين أزاحتهم الحياة عن ملذاتها وباتوا غارقين في أوجاعها، نتيجة الفقر أو قلة فرص العمل أو الصدمات النفسية.
لم يكتفِ المراهق وقتها بتأسيس زاويته بل أنشأ مقاماً وضريحاً للتبرك داخل المسجد، ليكتسب مزيداً من الأتباع، فلا دراويش مطيعين من دون ضريح مبروك يطوفون حوله ويشكون إليه همومهم ويذرفون الدموع، عندما سأل صحافيون الشيخ صلاح الدين التيجاني من المدفون داخل هذا الضريح؟ طالبهم بتجاوز السؤال وحذفه، لكن لأن الحديث الصحافي كان مباشراً لم يستطع تجاوز السؤال واضطر مرغماً إلى الإجابة، هذا الضريح دفنت فيه جدي!
صلاح الدين التيجاني وبمنحى عن الادعاءات المنسوبة إليه بالتحرش الإلكتروني، هو ظاهرة لشخص شديد الذكاء، نجح في أن يضع يده على التوليفة الناجحة والمضمونة التي تسلب عقول المصريين وتحشدهم بلا جهد، أبيات شعرية وأوردة تتغنى بالحب الإلهي وسمو الروح على الجسد، على قوافي الحلاج المتصوف “أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا…نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا” ليصبح الجسد أداة للتسامي الروحي وسلماً للغاية، لذا ووفقاً للصور المنتشرة لصلاح الدين التيجاني لا نراه شيخاً مثل باقي الشيوخ يُحرّم لمس البدن، بل نراه يضع يده على الطفلات والممثلات ويمسك بالأيدي بابتسامة واسعة وعينين مكحولتين.
اعتاد التيجاني أن يظهر بعباءات فخمة مطرزة وقفازات بيضاء ووجه ناصع البياض يفيض منه النور – بسبب الفلتر- وزاوية الكاميرا التي تأتي دائماً من أسفل لتزيد من “سموه”.
لكن بعد شهادة خديجة التي اتهمته بالتحرش الإلكتروني وثلاث سيدات أخريات؛ وأهم ما فعلنه هو أنهن جعلن الشيخ صاحب السلطة الواسعة والمملكة التي بناها لسنوات كمملكة عنكبوت كان يظنها متينة، يتهاوى، فقد ظهر التيجاني قبل القبض عليه بالوضع الطبيعي الشاحب، وكاميرات البث المباشر تعلوه، وهو في وضع متقزّم مسلوب السلطة الكبيرة التي احتمى بها لسنوات.
ما كشفته خديجة الأم الشابة، يشير إلى أنه تولى تأهيلها وهي طفلة، بعدما سلّمتها له والدتها ليضعها على “الطريق المستقيم” في زاويته.
ما حدث لخديجة حدث لطابور طويل من الأطفال الذين كبروا الآن وكثرت تعليقاتهم على شهادة خديجة، وكان قد تم تسليم أدمغتهم وهم أطفال لتأسيسهم على مبدأ الولاء والطاعة، فقوانين الطريقة تستلزم طاعة الشيخ الكبير، “طاعة مطلقة” تسلب من الطالب اختياره وإرادته، والتلقي عند تلاميذ الطريقة يتم عبر ما يسمونه بالصحبة بين المريد والمقدم، “بعدما يوافق التلميذ على شروط معينة تكفل حفظ عهود الولاء والبراء لصالح الطريقة ورؤوسها، الأحياء منهم والأموات والولاية المطلقة للشيخ ووضعه في منزلة المعلم المطلق“.
حاز صلاح الدين التيجاني الحظ كاملاً، وحقق شطحات المراهق الذي كانه، من دون عناء أو مضايقات أمنية. خدمته الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية كلها حتى صار “مولانا” وصار أتباعه أكثر من أتباع “الحشاشين”، إلى أن ادّعت خديجة أن للشيخ صندوقاً أسود من الإساءات الجنسية، فأصدرت “الطريقة التيجانية” الصوفية المعروفة في مصر، بياناً تتبرأ فيه من التيجاني، مؤكدة أنه “ثبت عنه فساد معتقده، وانحرافه عن الطريقة وتحريفه لأصولها”.
طارق رمضان… حكم إدانة بالاغتصاب بحق الباحث الفصيح
منذ أيام، ظهر طارق رمضان، حفيد مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين”، في لقاء بالفرنسية لأكثر من ثلاث ساعات مع المحامي الفرنسي المثير للجدل فابريس دي فيزيو، يدافع فيه عن براءته ضد الحكم الصادر بحقه منتصف الشهر الجاري، بإدانته باغتصاب سيدة في غرفة فندق في مدينة جنيف السويسرية، حيث ألغى الحكم الجديد حكم البراءة الذي حصل عليه العام الماضي بعد ظهور أدلة جديدة تُدينه.
رمضان دافع عن نفسه وقال لفابريس إن هناك شاهداً جديداً لصالحه في هذه القضية، وهو المفكر اللبناني أمين معلوف الذي كان بصحبته هو وبريجيت (المدعية عليه) وهو ما قد يُظهر براءته!
تردّد اسم أمين معلوف، الأمين العام للأكاديمية الفرنسية، في قضية الاغتصاب، إما يزيد القضية تعقيداً في حال اتهمت بريجيت المفكر اللبناني بالتورط في شهادة زور، وإما يدفع المحكمة إلى إثبات براءة طارق رمضان مجدداً إذا تقدّم معلوف للشهادة.
في حال أُثبتت ادّعاءات بريجيت في الاستئناف، فإن مسلمي المهجر سيكونون أمام أعنف صدمة تسببها لهم أبرز شخصية أكاديمية إسلامية في الأوساط الفرنكوفونية وفي الوسط الأكاديمي البريطاني، حيث يعمل رمضان أستاذاً في جامعة أوكسفورد.
طارق رمضان ليس مجرد أستاذ في الدراسات الإسلامية بل كان مرجعاً لكل مسلمي أوروبا والمسلمين الجدد، وظهوره الآن في شكل المغتصب الذي يهين النساء، بخاصة امرأة كانت اختارت الانتقال إلى الدين الإسلامي، هي فاجعة كبرى تهيل التراب على مشروع رمضان الفكري كله وادّعاءات القيم والأخلاق والفضيلة ومظلومية مسلمي أوروبا، أمام اتّهاماته الدائمة للغرب بالعنصرية تجاه المسلمين.
ادّعت بريجيت أنها تعرضت للاغتصاب مترافقاً مع الضرب والشتائم والعنف عام 2008، وأنها استغرقت أكثر من عشر سنوات حتى استطاعت امتلاك الشجاعة للحديث عن الواقعة وفضح رمضان أمام المحكمة، فيما دافع رمضان عن نفسه وفقاً لما جاء في “لوموند” الفرنسية، واعتبر أنه كان ضحية بريجيت التي بدأت بتقبيله وبعدها سقط في الفخ!
فتح قضية الاغتصاب مجدداً والحكم بالسجن ثلاث سنوات، يؤكدان وجود أدلة قاطعة قد تضع رمضان خلف القضبان لعام كامل، ليفقد الأكاديمي البارز سلطته الكبرى في الأوساط الإسلامية والأكاديمية الفرنكوفونية. وبالفعل أصبح رمضان مادة خام للمقالات الفرنسية والإنكليزية الساخرة ، فمنذ بدء اتّهامه بالتحرش والاغتصاب بحق ثلاث نساء فرنسيات، أصبحت سمعته مادة للتندر والسخرية تتناقلها الألسن، وما زاد من السخرية مجموعة فيديوات يغني فيها ضد العالم الأوروبي كان أطلقها على قناته الرسمية، على رغم أنه نشأ منذ ولادته في هذا الغرب الذي يصفه بالاستعماري والذي نهب ثروات المسلمين، متنقلاً ما بين سويسرا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا.
في التعليقات على أغاني طارق رمضان يظهر كيف فقد كل شيء، وكيف بات في نظر مسلمي الغرب يحاول لملمة هيبته مع استمرار الخداع. يقول سمير ديلون: “رمضان يحاول استعادة هيبته وهالته الضائعة، ويحاول مواصلة إخضاع الأرواح، كل هذه الأغنيات تزيد مظهرك سوءاً وتزيد من الإيمان باختلالك العقلي وهوسك الجنسي الذي تحاول الهروب منه، الشباب العربي يخجلون من شخصية سيئة السمعة، مبتذلة، عنيفة مثلك”.
محمد الفايد… التوظيف يشمل الانتهاك الجنسي غير المعلن؟
في عام 1998، نشرت “بي بي سي” تقريراً حول رحلة صعود رجل الأعمال المصري محمد الفايد من الصفر إلى قائمة أثرياء العالم. لم تكن تشوب قصة الفايد خروقات أخلاقية سوى سبل التحايل المعروفة والمعتادة من رجال الأعمال، للاستحواذ على أنصبة في شركات أو حظوظ لدى نافذين لتسهيل رحلة الصعود المالي الطموحة.
لكن ما كان مخفياً كشفته “بي بي سي” أيضاً بعد عقدين ونصف العقد من الزمان، عبر تقرير أُذيع في مؤتمر صحافي انعقد في لندن منذ أيام، قدّمت فيه ناتاشا وهي موظفة سابقة في متاجر “هارودز” المملوكة سابقاً للفايد، ادّعاءات بتعرضها للاغتصاب والتحرش كموظفة في عالم الملياردير المصري محمد الفايد، الذي صُنِّف وفقاً لقائمة “صنداي” للأثرياء قبل وفاته لعام 2023، كرابع أغنى شخص في اسكتلندا بثروة قدرها 1.69 مليار جنيه استرليني.
“لقد كان وحشاً حقاً”: تقول ناتاشا في المؤتمر الصحافي، وتضيف أن “محمد الفايد أسكت كل من أساء إليهن”. وكشفت ناتاشا التي كانت تبلغ من العمر 19 عاماً عندما تعرضت للإساءة الجنسية، أن “الاعتداءات كانت جزءاً من الوظيفة”.
لم تكن ناتاشا الناجية الوحيدة، فقد بثّت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” تحقيقاً أجرته عن القضية، تضمّن شهادات أكثر من 20 امرأة قلن إنهن تعرضن للاعتداء الجنسي من الملياردير.
شكّلت النساء وسيلة مهمة في رحلة صعود الفايد إلى الثراء، فمن خلال زواجه الأول بسميرة خاشقجي استفاد من العمل مع نسيبه تاجر الأسلحة ورجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي، الذي فتح له أبواب التعامل مع رجال أعمال وأمراء نافذين وأصحاب شركات نفط ومديري شركات وموانئ ملاحية، إلى أن اكتشفت زوجته خياناته لها وفق مقالات عن سيرته، فحصل من نسيبه على تعويض مالي ضخم لتطليق سميرة خاشقجي كي تتمكن من الزواج بغيره.
وبعد انتقاله إلى لندن، تزوج الفايد من سيدة المجتمع الفنلندية وعارضة الأزياء السابقة هيني واثن، وأنجب منها أربعة أطفال، ومهدت له الطريق داخل الوسط البريطاني ورائدي الأعمال.
بنى الفايد أسطورته وحقق ثراءً فاحشاً بعدما كان يتقاضى عشرة جنيهات شهرياً كبائع متجول في الإسكندرية، لكن لم يدرك أن تمثال الشمع الكبير الذي وضعه لنفسه في متجر “هارودز” سيُهمل وربما يذوب، مثلما ذابت سيرته في مجال البزنس وبرزت ادّعاءات انتهاكاته الجنسية أكثر إلى الواجهة.
نظام ذكوري يتلذّذ بالتمييز إذا امتلك السلطة
لا يمكن تجاهل الخيط الرفيع الذي يشترك فيه التيجاني ورمضان والفايد، وهو الشعور بالسلطة والمكانة المطلقة، ما أشبع لديهم الإحساس بالحصانة وتضخم الذات فوق القوانين والمعتقدات، حتى المعتقدات التي يروّجون هم لها كمسلمات.
ما فعلته المدّعيات على الرجال الثلاثة حتى وإن لم تُحسم إدانتهم، هو كسر لكل التبريرات والبنى الذكورية والأبوية التي تعتبر النساء وسيلة وأداة وجزءاً من الملكية.
يقول روجيه غارودي في كتابه “مستقبل المرأة”: “عالم الملكية الرجالي هو نفسه عالم السلطة والمراتب، ينزعان إلى تكثيف ومركزة الحكم نحو بنى أكثر ذكورية”.
كلما زادت السلطة أصبح من حق من يظنون أنفسهم “العقل الأقوى” أن يمتلكوا من هم “أضعف”! حتى تنقلب الموازين ويصبح من ظنوه “الأضعف” هو الخيط الفارط والقادر على نزع النسيج كله، لنرى بوضوح أصحاب السلطة الذكورية يتوسلون البراءة أملاً في استرداد المكانة المفقودة.