fbpx

الثورات العربية: بين الكرامة والهوية والسياسة المفقودة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حدّد الثوار السوريون شعار “الكرامة” هدفاً مركزياً. فلا يوجد سوريٌ إطلاقاً، ما عدا الطاغية، لم تكن له تجربة مهينة لكرامته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في آذار/ مارس 2011 حدّد الثوار السوريون الشبان شعار “الكرامة” هدفاً مركزياً، استطاع استقطاب الناس من حوله، فهؤلاء اعتمدوا على خبراتهم الحية المشتركة والكونية. ولا يوجد سوريٌ إطلاقاً، ما عدا الطاغية، لم تكن له تجربة مهينة لكرامته، وخبرة في انعدام “الحق باعتراف الآخرين” به. وتدهورت مركزية الشعار بعد ذلك بالتدرج إلى مستوى الهويات المتنافرة، الدينية والطائفية والقومية والمناطقية والعشائرية، فغابت معالم الثورة الأولى وراء حجابٍ سميك، بل نقاب أو جلباب يكاد لا يستثني أحداً. وتستعيد موجة الربيع العربي الثانية بعض حصانتها حالياً في مواجهة ذلك التحول واحتمالاته المعقدة.

يقول إدوارد غيبون في سفره “انحدار وسقوط الأمبراطورية الرومانية”، إنه “من الحماسة إلى الدجل، يمكن للخطى أن تكون خطيرة وزَلِقة. ويقدم صوت سقراط الداخلي مثالاً للذكرى حول كيف يمكن شخص حكيم أن يخدع نفسه، وكيف لرجل طيب أن يخدع الآخرين، وكيف بإمكان الوعي أن يكون في قيلولة وفي حالة مختلطة ومتوسطة ما بين الوهم الذاتي والزيف الطوعي”. ولم تكن تحوّلات كثر من السياسيين والمثقفين والشبان السوريين خلال الأعوام السابقة سوى مثال آخر على ذلك.

ومع متغيرات العالم التي جاءت خصوصاً بعد نشر مقالته الشهيرة “نهاية التاريخ”، التي تواقتت مع انتهاء الحرب الباردة، وما بدا وكأنه انتصار نهائي للديموقراطية الليبرالية، يبدو أن المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما استدرك مرتبكاً استعجاله في ذلك الاستنتاج، وعاد في 2018، في كتابه “الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسة الاستياء”، ليفاجأ بقوة القبائل المعاصرة بكل تجلياتها، وليرى في حراك الهويات خطراً على ما كان قد افترضه مستعجلاً- غالباً- حول نهاية التاريخ. ونشرت مقالة ممتازة في “نيويوركر” تحت عنوانٍ ساخر “فرانسيس فوكوياما يؤجل نهاية التاريخ”.

طور فوكوياما بين المرحلتين انعكاساً ذاتياً لتطورات العالم، وبالنسبة إلينا نحن في هذه المنطقة، وفي سوريا بشكل ملموس، هو انعكاس لتحولاتنا التي آلت إلى كوارث حتى الآن.

بدأ الربيع العربي، وسوريا جزء منه، بالتركيز على الكرامة مع الحرية.

بدأ الربيع العربي، وسوريا جزء منه، بالتركيز على الكرامة مع الحرية. والكرامة الإنسانية هدف كوني عام، خصص له الدستور الألماني مادته الأولى، من بين المواد التي لا يمكن المساس بها أو تعديلها. والكرامة منذ أرسطو وهيغل إلى عصرنا هذا، هي التمثيل الفعلي لموضوعة “الرغبة بالاعتراف”، التي هي من محركات الإنسان الفرد والعام عبر التاريخ. تبدأ هذه الرغبة العارمة بالفرد الطامح إلى أن يكون له احترامه ومكانته، وتنتهي إلى الليبرالية الحديثة التي تنطلق بقيمها الأولية من هذا الاعتراف. لذلك حدّد هيغل رؤيته لنهاية التاريخ البشري، أو استقراره بتعبير آخر، بنيل الفرد حقه في الاعتراف به وتحقيق “رغبته” تلك، وكذلك فوكوياما في حماسته الملحمية لطرح نهاية التاريخ مع انتهاء الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة، وتصوره حول ما حدث هو علامة أساسية لاستقرار العالم على النهاية الليبرالية للتاريخ.

بعد ذلك، انفجرت “الهويات” كحامل فيزيائي للشعبوية، في الشرق الأوسط والهند والبرازيل وأوروبا، وفي الولايات المتحدة أيضاً. تراجعت قيمة “الهوية” من تلك التي يحملها الفرد إلى تلك التي يحملها “مكوّن” قومي أو ديني أو طائفي أو قبلي، وتغيب فيها ملامح الفرد، بل تتقدّم آليات محو هذه الملامح، في الموقف من اللاجئين والمهاجرين، ومن المهمشين عموماً، وفي الموقف القومي- الديني كما حصل ويحصل في الهند وغيرها، وفي نموّ الحركات اليمينية المتطرفة، التي يبدو أن من أكثرها انكشافاً ما حدث في الولايات المتحدة وانبعاث عنصرية الرجل الأبيض في ترامب وسياساته.

في منطقتنا، ظهرت الثنائيات القاتلة- اشتقاقاً من أمين معلوف- بين الشيعة والسنة عموماً وفي العراق خصوصاً، بما في ذلك بين السنة والعلويين في سوريا، وبين العرب والأكراد في أكثر من مكان، وبين المسلمين والمسيحيين، بل بين الزيديين- الحوثيين وبقية اليمنيين أيضاً، وانتعشت القبلية بشكل كبير في ليبيا والعراق وسوريا واليمن وغيرها، بل ظهر من يرى في القبائل ظاهرة خيرٍ، بالمقارنة مع العصبية الدينية والطائفية العنيفة. إضافةً إلى ذلك، ظهرت عصبية المناطق الجزئية وانتقل الشعور “الوطني” إلى الأقاليم والمناطق، بل القرى والأحياء أحياناً.

لم تعد سهلةً أو يسيرةً مقاومة ذلك الاتجاه من أبراج “المواطنة” والرابطة الإنسانية وكرامة الفرد، واضطر بعضنا إلى التراجع التكتيكي- على الأقل- نحو التسليم بحقوق “المكونات”، ومتابعة كل حالة بذاتها ومقوماتها، واستعادة ملامح تكوين المجتمعات والدول في القرنين الماضيين، مع دساتيرها التي تنوعت في درجة نجاحها في ردم المنطقة العاتمة بين حدود الأفراد والجماعات. فانبعث حق تقرير المصير من إرث لينين ووودرو ويلسون حتى شرعة عصبة الأمم فالأمم المتحدة، مع ما رافق ذلك من غيمة بيضاء أضاعت بعض ملامح الأفراد. كما تمكن الإشارة إلى تطور ما زال خفياً باتجاه القبول بأفكار لها علاقة باللامركزية أو الفيدرالية هنا وهناك. وكان ذلك جيداً لتخفيف التوتر القومي في سوريا وغيرها، ولكن ذلك لم يُعد المكانة لقضية المواطنة، ولا للفرد والقيم الإنسانية العليا الحديثة.

أعادت الموجة الجديدة الحالية من الربيع العربي الحالة إلى بعض توازنها النسبي، مع دعوات الوطنية والمواطنة في لبنان والعراق والسودان والجزائر. وارتبط ذلك أيضاً باستعادة “الاجتماع” وعلومه، دورها الأصلي، بتحويل اتجاه الحراك الشعبي إلى المسائل المتعلقة بالاقتصاد والحاجات المعيشية والاعتراض على الفوارق الاقتصادية الهائلة، التي بُني الكثير منها على الفساد والنهب، أو على البنى الدولتية المنخورة.

وكان لذلك أن يحظى بإمكانات نجاحٍ أكبر بكثير، لو استطاع العالم أن يدعم ذلك الاتجاه بموجات أكثر قوة في وجه المدّ الشعبوي اليميني هنا وهناك. يؤكد هذا أهمية استعادة “الأممية” على شكلٍ جديد ومختلف، والبناء على منجزات العولمة لاعتراض تقدم نفاياتها في أكثر من موقع. كما يؤكد كذلك ضرورة استعادة طاقة الاقتصاد على تحريك السياسات، وما يلحق بذلك من مهمات تتعلق بدفن اليسار القديم وبناء يسار جديد أكثر انفتاحاً و”ليبرالية” وقدرةً على تعديل توازنات العالم، وتوازنات المجتمعات والدول والكيانات أيضاً. وليس ذلك سهلاً بالمناسبة، وهو ينطبق على المحركات السياسية الأخرى أيضاً، وليس على اليسار وحده. هناك تطورات كبرى لم تلاقها قيمٌ وبرامج وأدوات جديدة.

الكرامة الإنسانية هدف كوني عام، خصص له الدستور الألماني مادته الأولى، من بين المواد التي لا يمكن المساس بها أو تعديلها.

يرى فوكوياما- بنياته الطيبة- أن الخروج من الهوية إلى الكونية ممكن إذا انتقلنا من مفهوم “التجربة المَعيشة” (Erlebnis) كما يُعَبّر عنها بالألمانية، إلى مفهوم “الخبرة المشتركة” (Erfahrung)- ولم أكن لأقدر على استيعاب ذلك لولا معرفتي الجديدة والمحدودة جداً بالألمانية-  فالأولى إقصائية بذاتها لأنها جزئية وتفرّق وفق الانحيازات، في حين أن الثانية عامة تضم وتدمج المكونات. لذلك ارتبطت الحال بالحرب والتجهيل اللذين تمارسهما مع عزلها النخب والثقافة. 

ليس ذلك بسهل أبداً بعدما عُزلنا عن مفهوم السياسة الحديثة لعقود طويلة، ثم قُذفنا إلى الوراء قروناً من قبل أمراء الحرب والنهب، سلاطين الاستبداد والجهل… ولكن التاريخ ماكر، خصوصاً إذا وَقَر مكره في القلب، وصدّقه العمل الثقافي – السياسي.

21.01.2020
زمن القراءة: 5 minutes

حدّد الثوار السوريون شعار “الكرامة” هدفاً مركزياً. فلا يوجد سوريٌ إطلاقاً، ما عدا الطاغية، لم تكن له تجربة مهينة لكرامته.

في آذار/ مارس 2011 حدّد الثوار السوريون الشبان شعار “الكرامة” هدفاً مركزياً، استطاع استقطاب الناس من حوله، فهؤلاء اعتمدوا على خبراتهم الحية المشتركة والكونية. ولا يوجد سوريٌ إطلاقاً، ما عدا الطاغية، لم تكن له تجربة مهينة لكرامته، وخبرة في انعدام “الحق باعتراف الآخرين” به. وتدهورت مركزية الشعار بعد ذلك بالتدرج إلى مستوى الهويات المتنافرة، الدينية والطائفية والقومية والمناطقية والعشائرية، فغابت معالم الثورة الأولى وراء حجابٍ سميك، بل نقاب أو جلباب يكاد لا يستثني أحداً. وتستعيد موجة الربيع العربي الثانية بعض حصانتها حالياً في مواجهة ذلك التحول واحتمالاته المعقدة.

يقول إدوارد غيبون في سفره “انحدار وسقوط الأمبراطورية الرومانية”، إنه “من الحماسة إلى الدجل، يمكن للخطى أن تكون خطيرة وزَلِقة. ويقدم صوت سقراط الداخلي مثالاً للذكرى حول كيف يمكن شخص حكيم أن يخدع نفسه، وكيف لرجل طيب أن يخدع الآخرين، وكيف بإمكان الوعي أن يكون في قيلولة وفي حالة مختلطة ومتوسطة ما بين الوهم الذاتي والزيف الطوعي”. ولم تكن تحوّلات كثر من السياسيين والمثقفين والشبان السوريين خلال الأعوام السابقة سوى مثال آخر على ذلك.

ومع متغيرات العالم التي جاءت خصوصاً بعد نشر مقالته الشهيرة “نهاية التاريخ”، التي تواقتت مع انتهاء الحرب الباردة، وما بدا وكأنه انتصار نهائي للديموقراطية الليبرالية، يبدو أن المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما استدرك مرتبكاً استعجاله في ذلك الاستنتاج، وعاد في 2018، في كتابه “الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسة الاستياء”، ليفاجأ بقوة القبائل المعاصرة بكل تجلياتها، وليرى في حراك الهويات خطراً على ما كان قد افترضه مستعجلاً- غالباً- حول نهاية التاريخ. ونشرت مقالة ممتازة في “نيويوركر” تحت عنوانٍ ساخر “فرانسيس فوكوياما يؤجل نهاية التاريخ”.

طور فوكوياما بين المرحلتين انعكاساً ذاتياً لتطورات العالم، وبالنسبة إلينا نحن في هذه المنطقة، وفي سوريا بشكل ملموس، هو انعكاس لتحولاتنا التي آلت إلى كوارث حتى الآن.

بدأ الربيع العربي، وسوريا جزء منه، بالتركيز على الكرامة مع الحرية.

بدأ الربيع العربي، وسوريا جزء منه، بالتركيز على الكرامة مع الحرية. والكرامة الإنسانية هدف كوني عام، خصص له الدستور الألماني مادته الأولى، من بين المواد التي لا يمكن المساس بها أو تعديلها. والكرامة منذ أرسطو وهيغل إلى عصرنا هذا، هي التمثيل الفعلي لموضوعة “الرغبة بالاعتراف”، التي هي من محركات الإنسان الفرد والعام عبر التاريخ. تبدأ هذه الرغبة العارمة بالفرد الطامح إلى أن يكون له احترامه ومكانته، وتنتهي إلى الليبرالية الحديثة التي تنطلق بقيمها الأولية من هذا الاعتراف. لذلك حدّد هيغل رؤيته لنهاية التاريخ البشري، أو استقراره بتعبير آخر، بنيل الفرد حقه في الاعتراف به وتحقيق “رغبته” تلك، وكذلك فوكوياما في حماسته الملحمية لطرح نهاية التاريخ مع انتهاء الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة، وتصوره حول ما حدث هو علامة أساسية لاستقرار العالم على النهاية الليبرالية للتاريخ.

بعد ذلك، انفجرت “الهويات” كحامل فيزيائي للشعبوية، في الشرق الأوسط والهند والبرازيل وأوروبا، وفي الولايات المتحدة أيضاً. تراجعت قيمة “الهوية” من تلك التي يحملها الفرد إلى تلك التي يحملها “مكوّن” قومي أو ديني أو طائفي أو قبلي، وتغيب فيها ملامح الفرد، بل تتقدّم آليات محو هذه الملامح، في الموقف من اللاجئين والمهاجرين، ومن المهمشين عموماً، وفي الموقف القومي- الديني كما حصل ويحصل في الهند وغيرها، وفي نموّ الحركات اليمينية المتطرفة، التي يبدو أن من أكثرها انكشافاً ما حدث في الولايات المتحدة وانبعاث عنصرية الرجل الأبيض في ترامب وسياساته.

في منطقتنا، ظهرت الثنائيات القاتلة- اشتقاقاً من أمين معلوف- بين الشيعة والسنة عموماً وفي العراق خصوصاً، بما في ذلك بين السنة والعلويين في سوريا، وبين العرب والأكراد في أكثر من مكان، وبين المسلمين والمسيحيين، بل بين الزيديين- الحوثيين وبقية اليمنيين أيضاً، وانتعشت القبلية بشكل كبير في ليبيا والعراق وسوريا واليمن وغيرها، بل ظهر من يرى في القبائل ظاهرة خيرٍ، بالمقارنة مع العصبية الدينية والطائفية العنيفة. إضافةً إلى ذلك، ظهرت عصبية المناطق الجزئية وانتقل الشعور “الوطني” إلى الأقاليم والمناطق، بل القرى والأحياء أحياناً.

لم تعد سهلةً أو يسيرةً مقاومة ذلك الاتجاه من أبراج “المواطنة” والرابطة الإنسانية وكرامة الفرد، واضطر بعضنا إلى التراجع التكتيكي- على الأقل- نحو التسليم بحقوق “المكونات”، ومتابعة كل حالة بذاتها ومقوماتها، واستعادة ملامح تكوين المجتمعات والدول في القرنين الماضيين، مع دساتيرها التي تنوعت في درجة نجاحها في ردم المنطقة العاتمة بين حدود الأفراد والجماعات. فانبعث حق تقرير المصير من إرث لينين ووودرو ويلسون حتى شرعة عصبة الأمم فالأمم المتحدة، مع ما رافق ذلك من غيمة بيضاء أضاعت بعض ملامح الأفراد. كما تمكن الإشارة إلى تطور ما زال خفياً باتجاه القبول بأفكار لها علاقة باللامركزية أو الفيدرالية هنا وهناك. وكان ذلك جيداً لتخفيف التوتر القومي في سوريا وغيرها، ولكن ذلك لم يُعد المكانة لقضية المواطنة، ولا للفرد والقيم الإنسانية العليا الحديثة.

أعادت الموجة الجديدة الحالية من الربيع العربي الحالة إلى بعض توازنها النسبي، مع دعوات الوطنية والمواطنة في لبنان والعراق والسودان والجزائر. وارتبط ذلك أيضاً باستعادة “الاجتماع” وعلومه، دورها الأصلي، بتحويل اتجاه الحراك الشعبي إلى المسائل المتعلقة بالاقتصاد والحاجات المعيشية والاعتراض على الفوارق الاقتصادية الهائلة، التي بُني الكثير منها على الفساد والنهب، أو على البنى الدولتية المنخورة.

وكان لذلك أن يحظى بإمكانات نجاحٍ أكبر بكثير، لو استطاع العالم أن يدعم ذلك الاتجاه بموجات أكثر قوة في وجه المدّ الشعبوي اليميني هنا وهناك. يؤكد هذا أهمية استعادة “الأممية” على شكلٍ جديد ومختلف، والبناء على منجزات العولمة لاعتراض تقدم نفاياتها في أكثر من موقع. كما يؤكد كذلك ضرورة استعادة طاقة الاقتصاد على تحريك السياسات، وما يلحق بذلك من مهمات تتعلق بدفن اليسار القديم وبناء يسار جديد أكثر انفتاحاً و”ليبرالية” وقدرةً على تعديل توازنات العالم، وتوازنات المجتمعات والدول والكيانات أيضاً. وليس ذلك سهلاً بالمناسبة، وهو ينطبق على المحركات السياسية الأخرى أيضاً، وليس على اليسار وحده. هناك تطورات كبرى لم تلاقها قيمٌ وبرامج وأدوات جديدة.

الكرامة الإنسانية هدف كوني عام، خصص له الدستور الألماني مادته الأولى، من بين المواد التي لا يمكن المساس بها أو تعديلها.

يرى فوكوياما- بنياته الطيبة- أن الخروج من الهوية إلى الكونية ممكن إذا انتقلنا من مفهوم “التجربة المَعيشة” (Erlebnis) كما يُعَبّر عنها بالألمانية، إلى مفهوم “الخبرة المشتركة” (Erfahrung)- ولم أكن لأقدر على استيعاب ذلك لولا معرفتي الجديدة والمحدودة جداً بالألمانية-  فالأولى إقصائية بذاتها لأنها جزئية وتفرّق وفق الانحيازات، في حين أن الثانية عامة تضم وتدمج المكونات. لذلك ارتبطت الحال بالحرب والتجهيل اللذين تمارسهما مع عزلها النخب والثقافة. 

ليس ذلك بسهل أبداً بعدما عُزلنا عن مفهوم السياسة الحديثة لعقود طويلة، ثم قُذفنا إلى الوراء قروناً من قبل أمراء الحرب والنهب، سلاطين الاستبداد والجهل… ولكن التاريخ ماكر، خصوصاً إذا وَقَر مكره في القلب، وصدّقه العمل الثقافي – السياسي.