على امتداد 13 عاماً هي عمر الحرب والأزمة السورية، واصل الطلاب السوريون مواجهة ظروف الحرب والأزمة الاقتصادية والقمع وضيق سبل الحياة.
جلسوا في المدرجات الخانقة في الصيف، ووقفوا لساعات تحت المطر بانتظار “مكرو” أي باص، يقلّهم إلى الجامعة.
في أيام انقطاع الوقود مشوا عشرات الكيلو مترات، وتعلّقوا بخلفيّات سيارات “السيزوكي” وشاحنات جمع القمامة ليصلوا قبل بدء الامتحانات، عانوا من نقص المصادر التعليمية، من انقطاع الإنترنت وحجب معظم المواقع الإلكترونية.
حاولوا من القليل المتاح بين أيديهم أن يضاهوا السباق العلمي العالمي، ليفرضوا مكانهم في أسواق العمل الخارجية اعتماداً على قدراتهم ومكتسباتهم الذاتية فقط.
لكن رغم جهدهم وصراعهم اليومي، تفاجأوا بمعدلات متدنية وغير منطقية ونسب رسوب عالية هذا العام، حيث لوحظ في معظم الكليات الجامعية انخفاض مستويات النجاح في غالبية المواد عن الحد القانوني المسموح به (أن لا يقل عن 20%) حيث وصلت نسب النجاح في كثير من الكليات إلى ما يقارب (5 وَ 2%) في إحدى الكليات وصلت نسبة النجاح إلى (1.82%) أي من أصل 385 متقدماً، نجح 7 طلاب فقط! وقد تدنّت إلى أقل من ذلك في كليات أخرى.
سبب هذا الاحتجاج الكبير من الطلاب، هو يقين كثيرين منهم بأن نتائج معدلاتهم لا تتوافق مع إجاباتهم الامتحانية، وأن كل معدل قد نقص عن توقعات الطالب ما يقارب الـ 10 درجات كحد أدنى، وهذا الأمر قد تقاطع في أقوال عدد من الطلاب.
يقول وائل (اسم مستعار) 34 عاماً، وهو أستاذ جامعي سابق في أحد كليات جامعة دمشق: “أثناء تصحيح بعض المواد، يتم حسم 10 درجات من نتيجة كل طالب، وعلى هذا المنوال إذا كانت نتيجتك 70 تصبح 60، وإذا كانت 60 تصبح 50 أي راسب”، ويضيف: “هذا الإجراء يتم بحجة تقليص عدد الطلاب في التعليم العام الذي لا يتناسب مع عدد المقاعد المتاحة، ولتقليص عدد الخريجين، كما يعتبر بعض المدرسين أن معدلات النجاح العالية تدل على استسهال للمادة وهذا انتقاص من مدرّسها، فبالنسبة لهم جدارة المدرّس تبدأ من صعوبة مادته”.
نسب الرسوب هذه تشير إلى مشكلة كبيرة!
منذ انتهاء العام الدراسي الفائت في سوريا، بدأت شكاوى طلاب الجامعات تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن استيائهم من النتائج الامتحانية المنخفضة جداً وبشكل ملحوظ في معظم الكليات الجامعية، في بادئ الأمر بدا المشهد مكرراً كما يحدث كل عام، إلا أن مشاركة النتائج في العلن شكّلت صدمة واستنكاراً كبيرين من قبل الرأي العام، فكيف يمكن للجامعات السورية التي تسعى إلى رفع تصنيفها العالمي أن تصدر محصلات متدنية وغير منصفة لجهود طلابها!
أن تكون طالباً سورياً
منذ بداية الأزمة السورية، شهد قطاع التعليم تحولات عدة لم تستطع أنظمته التعليمية مسايرتها بشكل فعّال، فالمناهج الجامدة بقيت قائمة على طرق التلقين التقليدية، بينما أخفقت الجهات المسؤولة في إدخال أية تحديثات أو تطويرات تواكب التغييرات، كل هذا جعل الطلاب عاجزين في ظل ظروف قاسية وشبه مستحيلة، وأصبح أي تدهور جديد ينعكس سلباً على مصلحة الطالب وتحصيله العلمي، فعدم توافر وسائل النقل العام، وانقطاع الكهرباء المستمر، وعدم جاهزية الكليات بالمواد التعليمية، وغلاء أسعار المحاضرات والأدوات الدراسية، ورداءة السكن الجامعي الذي أصبح كالمعتقلات الأمنية، كلها ظروف أحالت التعليم من “حق مجاني” إلى “من استطاع إليه سبيلاً”.
إقرأوا أيضاً:
الدورة التكميلية مطلب حق
أمام كل هذا الاستنكار، رفع طلاب سوريا صوتهم عالياً، وطالبوا بإحداث دورة تكميلية استثانية هذا العام، وأطلقوا حملة تحت هاشتاغ: “#الدورة_التكميليلة_مطلب_حق” لإيصال صوتهم إلى المعنين، حيث تسمح الدورة الامتحانية التكميلية بإعادة تقديم مواد الحملة التي من شأنها تغيير وضع الطالب ونقله من “الرسوب” إلى “الترفّع أو النجاح”، وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على مصالح الطلاب وأهاليهم في ظل عبء الظروف المادية، كما سيقلل من أعداد الطلاب حمَلة المواد، التي أصبحت أكبر من القدرة الاستعابية في معظم الكليات، وبدل من أن يخسر الطالب سنة دراسية كاملة من أجل إعادة 5 مواد، يصبح بإمكانه إعادتها في دورة امتحانية صيفية واكتساب عام دراسي من دون تأخير.
ما زالت وزارة التعليم العالي تلتزم الصمت من دون أي رد فعل اعتباري للطلاب ومناجاتهم المحقة؛ يُذكر أن وزارة التعليم العالي قد قامت بإلغاء الدورة التكميلية في الجامعات السورية منذ العام الدراسي 2018- 2019، وقد جاء هذا القرار بعد اجتماع تقرر فيه أنه لم يعد هناك حاجة للعمل بنظام الدورات التكميلية.
لكن هذه المرة ازدادت المطالبات باعتبارها حقاً مشروعاً أمام الظروف القاسية التي أحالت الطالب إلى ضحية للضغوطات النفسية والمادية والخدمية، فكيف يمكن لبلد مدمر أن يتطور وينمو من جديد، إن كانت كل الأشياء التي من شأنها التحسين مهملة وخاضعة لوجهات نظر فردية؟
لا مصداقية للتعليم العام
أدت الهجرة المستمرة من سوريا إلى نقص ملحوظ في عدد المدرسين الاختصاصيين، مما أفضى إلى ارتباط المتبقين بأكثر من كلية في الوقت نفسه، أو اضطرارهم إلى تدريس مواد خارج نطاق تخصصاتهم، وانعكس هذا سلباً على ساعات التدريس والمنتج العلمي المقدَّم للطلاب، إضافة إلى ذلك، دفعت الظروف المعيشية العديد من الأساتذة إلى التدريس في الجامعات الخاصة، وعند المقارنة بين طالب في التعليم العام وآخر في التعليم الخاص، سيظهر فرق واضح في المستوى العلمي مقابل الجهد المبذول لصالح طلاب التعليم الخاص، ولا ينبغي أن يُنظر إلى هذه المقارنة على أنها تقليل من قيمة التعليم الخاص، إنما هي إشارة إلى أن هذه المؤسسات تحرص على استيفاء متطلبات التعليم من دون تحيّز أو مصالح شخصية، مما ينعكس على نسب النجاح لديها.
اللجوء إلى العمل في الجامعات الخاصة سببه الأول ارتفاع الأجور، حيث تتراوح رواتب مدرسي الجامعات الخاصة قرابة 15 مليون ليرة سورية (1000 دولار) شهرياً، مقابل قرابة 700 ألف ليرة سورية (50 دولاراً) شهرياً في التعليم الحكومي، ولو أعدنا النظر في الفجوة بين الأجرين سنجد أنها قد تجسّدت فعلياً في مستويات الطلاب.
تدني أجور القطاع العام كان سبباً مباشراً في انتشار حالات بيع الأسئلة الامتحانية والرشاوى مقابل إنجاح الطلاب، الذي قد يعادل بعضها سعر قسط عام دراسي كامل في الجامعات الخاصة، ولعدم وجود رقابة كافية، فقد انتقلت هذه العملية من حالات فردية إلى ظاهرة في جميع الكليات من دون استثناء، ويمكن الحديث عنها في العلن، وأصبح من المعروف أن خفض معدلات النجاح ما هو إلا وسيلة للضغط على الطلاب وإجبارهم على شراء المواد، حيث أن معظم الشباب السوريين يضطرون إلى الدفع كي لا يُستنفذوا ويتم سحبهم إلى التجنيد العسكري.
وبشكل وسطي يبلغ سعر شراء المادة الواحدة في كليات دمشق “ليرة ذهب”، يقول محمد (اسم مستعار) 21 عاماً، من كلية الحقوق في جامعة دمشق: “سألت صديقاً منتسباً إلى الهيئة الطلابية عن طريقة للترفيع في مادة عالقة معي، فأعطاني رقم شخص، تواصلت معه وطلب ليرة ذهب مقابل النجاح، هذا الشاب يعمل سكرتيراً في مكتب خاص للدكتور، ويقوم بالتواصل مع الطلاب نيابة عنه لإبعاد الشبهات”، يكمل محمد: “ليس لدي القدرة حتى على دفع ربع المبلغ المطلوب! في حين استطاع من بإمكانه الدفع أن ينجح بسهولة من دون أي مجهود”.
وفي السياق نفسه، يقول جواد (اسم مستعار) 23 عاماً، من كلية الهندسة المعلوماتية في دمشق: “هناك دكتور يقوم بترفيع طلابه مقابل مليون ليرة سورية للمادة الواحدة، حيث يعطيهم أكواد سرية من أحرف وأرقام، ويطلب منهم أن يكتبوها على ورقة الإجابة، وفي حال تكرر الكود لدى طالبين، أي في حال قام أحدهم بمشاركة الكود الخاص به مع طالب آخر لم يدفع للدكتور، يرسب كلاهما”.
وقد تتعدى هذه الرشاوى المادية وتصل إلى التنازلات الجسدية والابتزاز الجنسي، وقد ساهم ارتباط نقابة اتحاد الطلبة بالجامعات بتشكيل شبكات دعارة مخفية تديرها أسماء كبيرة ترأس هذا الاتحاد في دمشق وحمص واللاذقية، وقد وُثّقت عدة حالات تحرش سابقاً على مواقع التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة، وأول سبيل إلى هذه التجاوزات يبدأ من طلاب اتحاد الطلبة، الذي يعمل معظمهم كسماسرة بين المدرسين والطلاب.
كل ما سبق يؤكد أن الجامعات السورية تستمر في تدهورها، فهل يمكن القول إنها دخلت رسمياً في عصر المافيات والانتماءات السياسية والحزبية؟