بعد أيام على انهيار نظام الأسد في سوريا، والذي نأمل بأن يكون بداية النهاية الحقيقية لفصول الحرب التي مزّقت البلاد، بدأت تتكشف تدريجياً حقائقٌ طُمِست لعقود، وإن كان أبشعها على الإطلاق ما حصل في الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة، وبالتحديد منذ آذار/ مارس 2011 حتى 30 آب/ أغسطس 2024 بحسب بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إذ قُتل على يد قوات النظام 201290 مدنياً سورياً، قضى منهم 15102 تحت التعذيب، واعتُقل وأخُفي 136614 آخرين قسرياً. وقد بلغت حصيلة القتلى من الأطفال على يد قوات النظام 23045 طفلاً.
لكن، إلى جانب هذه الأرقام المروّعة، بدأت تبرز الى العلن، مع تكشف التطورات الأخيرة، مؤشرات عدة حول وجود شبكاتٍ معقدةٍ من المصالح والأنشطة غير المشروعة، وبخاصة الجريمة المنظمة، والإتجار بالمخدرات، وتجارة الأعضاء البشرية – بعضها موثّق، وبعضها لا يزال قيد الكشف والتحقيق. وعلى الرغم من أن الصورة الكاملة لم تظهر بعد، إلا أنه أصبح بالإمكان أن نزعم أن نظام الأسد الإبن هو عبارة عن كارتيل ضخم راسخ في الجريمة المنظمة.
المخدرات والكبتاغون: أدلة قاطعة
يبدو أن طبيعة العلاقة بين نظام بشار الأسد والأنشطة الإجرامية التي تشكل شريان حياته المالي، متشابكة ومتكاملة، بل حتى عضوية. وتتجاوز هذه العلاقة مجرد تبادل المصالح مع عصابات قائمة بذاتها من أجل البقاء، فهي تكشف عن تكامل متوطن في نسيج وجود النظام ذاته. وتشير عشرات مقاطع الفيديو التي بدأت تظهر تباعاً بعد سقوط النظام، إلى وجود معامل لتصنيع المخدرات على أنواعها، ومستودعات لتخزينها، في منازل وسيارات وأملاك خاصة لأقرباء الأسد، و“رجال الأعمال” المحيطين به، بل حتى في مقرات ومرافق أمنية كمطار المزة العسكري، ومقرات الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد.
هذه البنية التحتية المعقدة لإنتاج وتخزين المخدرات وتصديرها، خصوصاً حبوب الكبتاغون الشهيرة، لا يمكن أن تكون فقط نتاج فترة العقوبات والعزلة الدولية. كما أن حجم العمليات والأنشطة الإجرامية يتجاوز مجرد التحايل والالتفاف على العقوبات، فيما يستفيد بشار وماهر الأسد ودائرتهما الداخلية من الأقارب و”رجال الأعمال” بشكل مباشر من تحقيق أرباح ضخمة لا تعود إلى خزينة الدولة السورية، بل تُستَثمر في توسيع البنية التحتية للجريمة المنظمة، من تجهيزات ومعامل تصنيع ووسائل نقل وأنفاق تحت المنازل، كالنفق الضخم الذي اكتُشِف تحت منزل ماهر الأسد، إلى توسيع شبكة علاقات التصدير، والتي تسبب نشاطها بقيود كثيرة على استيراد المنتجات الزراعية والصناعية من لبنان منذ سنوات قليلة فقط.
راكم الأسد وحاشيته “الأرباح”، على رغم أن البنية التحتية لهذه الأنشطة الإجرامية أنشئت بأموال الشعب السوري الذي يعاني من الحرمان الاقتصادي الشديد.
إقرأوا أيضاً:
تجارة الأعضاء البشرية: أدلّة متزايدة
هناك أدلة متزايدة حول استغلال الشبكات الإجرامية الأسدية الثغرات في قانون تنظيم عمليات نقل الأعضاء وزرعها، القانون رقم 30 للعام 2003، لتحقيق مكاسب مالية إضافية عبر المتاجرة بالأعضاء. وقد كان الحصول على أدلة ملموسة للمزاعم حول تجارة الأعضاء الممنهجة في سوريا أمراً صعباً للغاية بسبب القبضة الأمنية الشديدة. لكن بعد سقوط النظام واقتحام الأهالي السجون والمستشفيات، بدأت بالظهور فيديوهات تدل على وجود عمليات ممنهجة لتجارة الأعضاء، كان ضحاياها الأسرى المعدمين أو المقتولين تحت التعذيب أو في ظروف السجن القاتلة، حيث خضعت جثث لاستئصال الأعضاء الداخلية والعيون.
أشار شاهد يُدعى محمد يونس الحمود، وهو معتقلٌ سابق في سجن صيدنايا، في حديثٍ لموقع “عربي 21”، إلى أن قوات النظام السوري اعتقلته “أثناء ذهابه لاستلام مرتبه الشهري كونه موظفاً سابقاً في بريد محافظة إدلب”، بتاريخ 10 كانون الثاني/ يناير 2017. وأوضح أنه أُطلق سراحه بتاريخ 17 تموز/ يوليو 2017 بعد إجباره على التبرع بإحدى كليتيه “فداءً للوطن وإثباتًا لحسن النية”.
يقول الحمود: “هناك العشرات من المعتقلين تم استئصال كُلاهم، وقد تبين في ما بعد أن عمليات بيع الكلى والأعضاء البشرية باتت تجارة رابحة بين ضباط النظام في الفروع الأمنية والمعتقلات، حيث يتمّ بيع كل أعضاء السجين إن أرادوا ذلك، ومن يوشك على الموت تُجرى له عمليات جراحية عدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه قبل أن تتم تصفيته بحقنة وريدية داخل المستشفى ثم ينقل إلى المحرقة أو مزابل نجها”.
يفيد تقرير لـ “آرام ميديا” بتاريخ 24 أيلول/ سبتمبر 2020، بازدهار تجارة الأعضاء في مناطق سيطرة النظام “تحت غطاء التبرع”، ومسؤولية كل من حافظ منذر الأسد، وأيمن جابر، وتاجر يلقب بـ “محمد بوز العسل”، في إدارة هذه العملية وبيع الأعضاء في أوروبا عن طريق اليونان. ومن المرجح أن يكون عشرات الآلاف من المخفيين قسرياً ضحايا لهذه التجارة في سجون الأسد ومستشفياته.
تجارة الاعتقالات التعسّفية وابتزاز الأهالي
مارس نظام الأسد الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع بحق المدنيين السوريين، حتى صار كل سوري يخشى المرور على حواجز الجيش، بخاصة السوريين من المناطق الخاضعة شكلياً لسيطرة النظام، أو التي أبرمت اتفاقيات مصالحة لوقف القتال، مثل درعا والغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وعدد من أحياء حلب وحمص وريف حمص الشمالي وبعض مناطق ريف إدلب وريف دمشق. لكن النظام يُعتبر نموذجاً صارخاً للاعتقالات التعسفية تاريخياً، قبل الثورة بكثير، بل منذ فترة حكم حافظ الأسد، وقد اختبر اللبنانيون هذا النوع من الاعتقالات مراراً وتكراراً، بخاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية والسنوات الخمس عشرة التي تلتها قبل خروج القوات السورية من لبنان.
كشف تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2024، أن النظام السوري مسؤول عن 88 في المئة من إجمالي حصيلة الاعتقالات التعسفية المسجلة في النصف الأول من عام 2024، فيما تشارك كلّ من قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام وقوات الجيش الوطني السوري في مسؤولية 12 في المئة المتبقية.
هذه الممارسات ليست مجرد انتهاكات لحقوق الإنسان، بل هي أيضاً أدوات تُستخدم لصناعة الأرباح المالية من خلال نظام السجون، إذ إن معظم ضحايا هذه العملية اعتُقلوا من دون مبرر أو محاكمة عادلة.
يثير تقرير حديث لقناة “الجزيرة” بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024 هذه المسألة، وتُذكَر فيه أسماء متورطة بهذه التجارة كزوجة اللواء الركن الراحل جامع جامع، ومدير إدارة المخابرات العامة علي مملوك.
تتضمن هذه العملية الانتقال المتكرر للسجناء بين سجون متعددة، غالباً في أوقات متقاربة ومن دون أي إشعار. تُساهم هذه العملية في تعزيز أرباح ضباط النظام ومديري السجون، من خلال استغلال الوضع المأساوي للمعتقلين، والوضع النفسي المتدهور لأهاليهم، ومن دون خسارة “الرهائن” التي تدرّ عليهم الأرباح باستمرار. كما أن الإلقاء بهم في سجون تفتقر إلى أدنى مقومات الإنسانية، وتضج بالتعذيب الجسدي والنفسي، هي وسيلة اتبعها ضباط النظام لإجبار عائلات المعتقلين على دفع مبالغ مالية مضاعفة.
إمبراطورية الجريمة المنظمة في الشرق الأوسط
بينما تتكشف الحقائق حول شبكات الجريمة المنظمة في سوريا بعد انهيار نظام الأسد، فإنها ليست سوى جزء من صورة أكثر اتساعاً تعكس الانتهاكات الجسيمة. بالإمكان وصف هذا النظام بـ “إمبراطورية الجريمة المنظمة في الشرق الأوسط”، فهو عبارة عن شبكة إجرامية واسعة ومعقدة، تتخذ من الحكم السياسي غطاءً للأنشطة غير القانونية، وفي الوقت نفسه تشكل الأجهزة الأمنية والقضائية إحدى أدواتها المتعددة.
تحت ستار “الشرعية” انتشرت الجريمة المنظمة، ومن أموال الشعب السوري المفقر موِّلت العمليات الإجرامية بحقه. وبالإضافة إلى تجارة المخدرات والإتجار بالأعضاء البشرية، تبرز قضايا خطيرة أخرى، مثل تجارة السلاح وشبكات الدعارة المنظمة التي انتشرت بكثافة في مناطق سيطرة النظام، كما أشارت تقارير متعددة صادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ عام 2016.
تتطلب هذه الصورة القاتمة التي خلّفها نظام الأسد، من السوريين جميعاً وقفة حازمة، وملاحقة المسؤولين عن شبكات الجريمة المنظمة المرتبطة به، بغض النظر عن مواقعهم، ومحاكمتهم بشكل عادل. فلا يمكن إنصاف الشعب السوري بمجرد إسقاط نظام الأسد، من دون هدم ما بناه هذا النظام من شبكات إجرامية. كما لا يمكن إعادة بناء ما هدمه هذا النظام على مستوى الاقتصاد والقانون والسياسة من دون التخلص من الإرث الإجرامي الثقيل.