العرض المذهل الذي قدّمه فريق جنوب أفريقيا، المنتدب من حكومته إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، يدفع إلى التفكير في طبيعة رد القاضي الإسرائيلي على هذا العرض، ذاك أن النية القصدية بالإبادة بدت في هذا العرض أمراً يصعب دحضه.
بدا واضحاً أن جهد الوفد الجنوب أفريقي انصبّ على إثبات أن النية بالإبادة تقف وراء أعمال القتل التي ارتكبتها إسرائيل في غزة. عشرات القرائن ساقها الوفد خلال كلمات أعضائه، وهي شملت أداء كل مؤسسات الدولة الإسرائيلية، من الرئيس إسحاق هرتزوغ الذي راح يوقع على القذائف التي أُطلقت على السكان، إلى رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو الذي افتتح الحملة العسكرية على غزة بالتوجه إلى الجنود بأن قال لهم إن عليهم أن يتذكروا أثناء القتال ما ارتكبه مقاتلو حركة “حماس”، مروراً بالمتحدث باسم الكنيست الذي دعا إلى محو غزة.
العرض بهدف إثبات النيّة لم يفته كل تفصيل في أداء آلة الحرب الإسرائيلية، وقد تضمّن فيديوات رافقت الكلمات، لعلّ أبرزها كان وصف أحد أعضاء الوفد الجنوب أفريقي، استجابة الجنود لدعوة نتانياهو لهم، عندما راحوا يرقصون ويغنون على ركام المنازل المدمرة التي خلّفها القصف. فيما تفاخر جندي آخر بأنه فجّر 15 مدرسة. وقد تكفّل أداء كل الوزراء الإسرائيليين بإثبات تلك النية، كلّ بحسب اختصاصه، إذ قال وزير الدفاع: “نحن نقاتل حيوانات بشرية”، ودعا وزير الطاقة إلى منع المياه والكهرباء، فيما شدّد وزير المالية على إيجاد أساليب أكثر إيلاماً.
ستكون أمام القاضي الإسرائيلي أهارون باراك غداً، مهمة تكاد تكون مستحيلة، وقد أجمعت الصحافة الإسرائيلية على ذلك. لكن العرض القانوني للفريق الجنوب أفريقي جعل من هذا التوقّع قدراً في ما يبدو، فالأداء العسكري والسياسي الإسرائيلي طوال الثلاثة أشهر الفائتة، وفّر لتهمة خرق اتفاقية منع الإبادة التي وقّعت عليها إسرائيل، عشرات الأدلة والقرائن. وهي بحسب ما يجمع القانونيون، تفوق تلك التي قدمتها غامبيا ضد ميانمار، والتي أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً اعتبر أن ميانمار أقدمت على إبادة جماعية بحق الروهينغا.
العرض المذهل الذي قدّمه فريق جنوب أفريقيا، المنتدب من حكومته إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، يدفع إلى التفكير في طبيعة رد القاضي الإسرائيلي على هذا العرض، ذاك أن النية القصدية بالإبادة بدت في هذا العرض أمراً يصعب دحضه.
إسرائيل أوفدت قاضياً ناجياً من جريمة إبادة (الجنوسايد) بهدف استحضار المحرقة للحدّ من اندفاعة قضاة محكمة العدل نحو قرار يجبر إسرائيل أولاً على وقف القتال، ولاحقاً على إصدار حكم يدينها بارتكاب إبادة جماعية. في المقابل، يبدو الوفد الجنوب أفريقي مشحوناً بطاقة موازية وبحقيقة أنه في صدد مهمة إدانة دولة وقفت إلى جانب نظام الفصل العنصري في بلده.
قد يكون ما يجري في لاهاي اليوم، الخطوة الأولى التي يمكن أن تشكّل انعطافة في الموقف الدولي حيال ما يجري في القطاع منذ ثلاثة أشهر. فواشنطن حين استبقت انعقاد جلسات المحكمة بأن لفتت إلى أن ما سيجري في لاهاي لا مبرر قانوني له، تقدر أن حليفتها تل أبيب ارتكبت ما لا يمكن أن تتغاضى عنه المحكمة، ونتانياهو حين اختار قاضياً من أشد خصومه الداخليين، فعل ذلك كمتجرّع لكأس من السم، والصحافة في إسرائيل أبدت خوفاً و”حزناً” على ما قالت إن “دولة الشعب الذي تعرّض للجينوسايد، ستكون عرضة للإدانة بما سبق وتعرّض شعبها له”! أما وزارة العدل الإسرائيلية، فقد توقعت بحسب “هآرتس”، أن يصدر قرارٌ غير ملزم لإسرائيل بوقف القتال!
القانونيون في لاهاي، يعتبرون أن قرار وقف القتال في غزة ليس الأهم، إنما ما يمكن أن يعقبه لاحقاً لجهة صدور حكم من محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة، وهو ما سيرافق سجلّها الحقوقي والسياسي في المحافل الدولية.
جنوب أفريقيا تقدمت أيضاً بالدعوى نفسها إلى الجنائية الدولية، وهي محكمة تشمل أحكامها الأفراد والمسؤولين، وليس الدول، وهذا مسار آخر للعدالة قد تسلكه قضية غزة.