- ترجمة: مارك دبوسي
ينشر موقع “درج” على حلقات كتاباً صدر هذا العام (2050) في نيويورك لكاتبه مارك دبوسي، وهو صحفي أميركي من أصل لبناني عاش في بيروت قرابة عشر سنوات. الكتاب، كما يقول عنوانه، يصف واقع الجمهوريات التي انقسم إليها ما كان يُعرف حتى العام 2040 بدولة لبنان.
هنا الحلقة الأولى
برغم مرور عشر سنوات كاملة على إنشاء الجمهوريات اللبنانية، فإن أوضاعها لا تبدو مستقرة على الإطلاق. والحقيقة أنّ زميلنا الباحث الأميركي رودي تايلور لم يخطىء في مقاله الشهير الذي نُشر العام الماضي (2049)، حيث رأى أن الجمهوريات اللبنانية “لا تزال تحيّر العالم كما كانت تحيره الجمهورية اللبنانية التي أُعلن تفكيكها في العام 2040”.
فجمهورية جبل لبنان المسيحية تواجه ثلاث مشكلات كبرى:
الأولى تطال العلاقة مع الجماعات غير المسيحية في داخلها. فهناك الحركة الانفصالية الدرزية في جنوبها (محافظة الشوف) التي تنوي وضع حد لما تسميه “إخضاع الطائفة الدرزية الصغيرة للهيمنة المسيحية”. أما السلطة المركزية في جونيه فتتهم “جبهة الموحدين الثورية” الدرزية وزعيمها كمال جنبلاط – وهو ابن حفيد أحد زعماء الدروز الذي حمل الاسم نفسه وقتل في أواخر سبعينات القرن الماضي – بتلقي الأسلحة والتمويل، بهدف شن عمليات عسكرية، من “وراء الحدود”، وهي تقصد بذلك على الأرجح دولة جبل الدروز في سوريا السابقة. وهذا مع العلم بأن هذه الدولة منخرطة هي الأخرى في صراع حاد ودموي مع دولة حوران السنية المجاورة لها.
وإلى جانب هذه الحركة، يشكو مسلمون، من السنة والشيعة، من منطقة جبيل، من أنهم يخضعون لتطهير عرقي ينفّذه حزب مسيحي متطرف يحمل اسم “خشب الصليب”. ففي هذا البلد العجيب لا يمضي الماضي وحتى الأسماء لا تتغير كثيراً، بدليل أن زعيم هذا الحزب يدعى جبران باسيل تيمناً بجده الراحل الذي عاش قبل عقود في محافظة البترون، شمالي جبل لبنان، وكان سياسياً معروفاً بالتعصب.
أما المشكلة الثانية والتي تنفجر على شكل اشتباكات موضعية بين وقت وآخر، فيكمن سببها في العلاقات المسيحية – المسيحية داخل جمهورية جبل لبنان المسيحية نفسها.
فبين محافظتي زغرتا وبشري، وبين محافظتي كسروان والمتن، تتزايد العداوات التي يبدو أنها لا تُحل إلا بالعنف، أو أن هذا على الأقل ما يراه قطاع عريض من السكان، خصوصاً الشبيبة التي تلتف وراء سياسي اسمه طوني فرنجية هو، مثل باقي السياسيين، حفيد لسياسي كان يحمل الاسم ذاته. ويطيب لفرنجية أن يصف نفسه بالمفكر، أما النظريات التي تُنسب إليه فأبرزها رفض توحيد زغرتا مع باقي جبل لبنان تبعاً لاختلاف الكبّة الزغرتاوية (نوع من الأطعمة يُصنع من اللحم والبرغل) عن باقي أنواع الكبّة.
لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد: فهناك جماعات أرثوذكسية المذهب تسمي نفسها “فرسان مار نقولا” ويقودها رجل غامض يُعرف باسم “أبو ناصيف”. ويتحدث هؤلاء عن مشروع غريب لإقامة دولة أرثوذكسية تضم محافظات الكورة والمتن الشمالي ومرجعيون، علماً باستحالة الربط الجغرافي بين هذه المحافظات التي تفصل بينها محافظات أخرى عديدة. وأغرب من ذلك أن هذه الدولة المقترحة ينبغي أن يربطها ممر بري بأرثوذكسيي عكار. لكن الاعتبارات الواقعية والجغرافية لا تدخل على ما يبدو في حسابات “الفرسان” الذين يوصفون بالتعصب الشديد ضد “الهيمنة المارونية”. ويُخشى أن يكونوا هم وراء العملين الأخيرين اللذين أطلقت عليهما سلطات جونيه وصف “العملين الإرهابيّين”، وهما الإقدام على خطف مطران ماروني في بلدة برمانا (المتن)، وإحراق مخفر الدرك في بلدة أميون (الكورة).
كذلك يبدو أنّ الفشل كان بالمرصاد للمفاوضات الجارية بين جونيه وحزب الطاشناق الأرمني الذي يطالب بلا مركزية إدارية موسعة لمنطقة برج حمود، ذات الأكثرية الأرمنية في شمال بيروت. وهناك اليوم من يتوقع أن يقدم الناشطون الأرمن، بنتيجة ذاك الفشل في تلبية مطالبهم، على أعمال مُخلة بالأمن، وإن كان لا يزال من الصعب توقع مداها وخطورتها. أما السلطة المركزية في جونيه فتتهم، من ناحيتها، أرمن برج حمود بأن ولاءهم الفعلي هو لجمهورية أرمينيا التي تحركهم وتتحكم بقراراتهم. وتبدي تلك السلطة مخاوفها من أن يجر ذلك إلى عمليات إرهابية ينفذها متسلّلون من “أشبال السلطان”، وهم تنظيم تركماني مسلح ينشط في عكار ضمن جمهورية طرابلس الإسلامية.
وتنبع المشكلة الثالثة من أوضاع المناطق الحدودية المتنازع عليها. فتنفيذ ضمّ مدينة جزين إلى جمهورية الجبل لا يزال مؤجلاً في انتظار جلاء العلاقات المسيحية – الدرزية المتوترة. وفي هذه الغضون تخضع المدينة لما يسميه الجزينيون “سلطة الأمر الواقع”، قاصدين بذلك جمهورية الجنوب الشيعي. أما مدينة زحلة فلم يصدر حتى الآن قرار لجنة التحكيم الدولي في جنيف بشأن ضمها إلى الجبل أو تثبيت ربطها بجمهورية البقاع الشيعية. من جهة أخرى تبدو الأمور مستتبة في جديدة مرجعيون وفي القرى الحدودية المحاذية لإسرائيل تبعاً للاتفاق الذي توصلت إليه الدولة العبرية مع كل من جمهوريتي الجبل والجنوب اللتين تربطهما علاقات ودية مع القدس. وكما بات معروفاً قضى هذا الاتفاق بمنح مسيحيي الجنوب حكماً ذاتياً يحول دون مغادرتهم إلى الجبل، علماً بأن جمهورية الجبل لم توافق على هذه التسوية إلا على مضض، ومقابل وعود لا تزال غامضة قدمتها لها حكومة القدس.
وعلى عكس الحال في الجنوب، فإن أحوال مسيحيي عكار وطرابلس تبدو مثيرة للقلق. فوفق إذاعة جونيه الرسمية، يتعرض هؤلاء لحملة تطهير تشنها “ألوية عمر بن الخطاب” التابعة لجمهورية طرابلس الإسلامية. ويبدو أن رئيس جمهورية الجبل جان بيار ريمون غاسبار الذي يتظاهر بالغضب لما يعانيه مسيحيو عكار وطرابلس مرتاح ضمناً إلى ما يجري. فهذا التطهير، بحسب بعض العارفين بأجواء حزبه “حزب الأرزة فوق رؤوسنا”، قد يدفعهم إلى اليأس من البقاء في الشمال ويشجعهم على الهجرة إلى جمهورية الجبل. وثمة من يتحدث أيضاً عن اتصالات سرية جرت بين الرئيس غاسبار ورئيس جمهورية طرابلس، الذي أطلق على نفسه اسم صهيب بن حذيفة بن أبي بكر، بهدف تبادل سكاني يؤدي إلى نقل أولئك المسحيين إلى الجبل مقابل انتقال السنّة الذين يقيمون في محافظتي جبيل والكورة إلى جمهورية طرابلس.
يزيد في صعوبات الحياة في جمهورية الجبل المسيحية الوضع الاقتصادي. فتساقط القذائف بين وقت وآخر من جهات لا يزال الجميع يمتنعون عن تسميتها بالاسم، يمنع افتتاح مطار حالات الواقع في محافظة جبيل. هكذا تبقى دولة الجبل محرومة من السياح، فضلاً عن حرمانها من استثمارات المستثمرين العرب والأجانب المتخوفين من أوضاعها الأمنية. لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد: فجمهورية الجبل ليس في حوزتها سهل معتبر، إذ بات سهل البقاع جزءاً من دولة البقاع، وسهل عكار جزءاً من دولة طرابلس. أما الحدود البرية التي تتيح تصريف السلع الزراعية فغالباً ما تنقطع بفعل التوتر الذي يربط جمهورية الجبل بالجمهوريات المجاورة في الشمال والجنوب والشرق.
من جهة أخرى، فإن عشرات آلاف المسيحيين العرب الذين لجأوا إليها من سوريا والعراق ومصر هم من الفقراء والمعدمين المسنين (اجتذبت أوروبا والولايات المتحدة وكندا أغنياءهم وشبانهم)، وعلى الدولة أن توفر لهؤلاء عدداً من الخدمات المكلفة وأولها الإسكان. وأما المهاجرون المسيحيون من ذوي الأصول الجبلية والذين عولت جمهورية الجبل على استثماراتهم وتحويلاتهم المالية، فأخبروا وزير الخارجية سمعان بولس بطرس سمعان بأنهم اندمجوا في البلدان التي هاجروا إليها ولم يعد تعبير مهاجر ينطبق عليهم. ويبدو، بحسب موقع “ميس الريم” الإعلامي، أن الوزير أجرى اتصالاً هاتفياً بأحدهم في الأرجنتين وقال له إن على المهاجرين أن يفتخروا بأصولهم، كما ذكّره بأن ما يفعلونه هو الانتشار في العالم ونشر الحضارة. لكن ذاك “المهاجر” شتمه بالإسبانية وأغلق تليفونه.
وإذ تهبط أعداد متزايدة من سكان جمهورية الجبل إلى ما دون خط الفقر، ويتأخر وصول المعونة المالية التي وعدت القدس بتقديمها إلى حكومة جونيه، شكل “يائسو جبل لبنان” لجنة تحمل هذا الاسم هدفها تسهيل سفر عدد من الرجال والنساء الجبليين إلى بلدان الفيليبين وسري لانكا وغانا وأثيوبيا والصومال وباقي البلدان الساعية للحصول على عمالة أجنبية رخيصة.
رغم ذلك، ومع كل هذين البؤس والكآبة، لا تبدو أوضاع الجمهوريات اللبنانية الأخرى أفضل حالاً. هذا ما ستتناوله الفصول اللاحقة.