تتنوع الأنواع الفيلمية التي تتناول القضايا الكويرية والجندرية بين الوثائقي والقصصي، وبينما تصدر لبنان قائمة الدول العربية، فإن دولاً أخرى شاركته حيوية الإنتاج، ومنها مصر، فلسطين، تونس، والأردن. وهكذا، وُظِّف الفن السينمائي للتعبير عن قضايا وحقوق حكايات الجنسانية المغايرة والعابرة والكويرية، من المخرجين والمخرجات العرب.
الفيلم الوثائقي كوسيط لاكتشاف ماضي المثلية العربي
يتطابق فيلم (شاي مع أدونيس، 2022، سليم مراد، لبنان)، بالخصائص السينمائية والموضوعاتية، مع ما اعتُبر الفيلم العربي الكويري الأول “سينما فؤاد، محمد سويد، 1993″، إنه وثائقي بطريقة الحوار المباشر بين صانع الفيلم والشخصية الرئيسية، أما الحكاية، فهي تبدأ مع رغبة المخرج “أمير” في الثلاثينيات من العمر، بصناعة فيلم عن الرجل السبعيني الكويري “أدونيس”، والذي من خلاله يرغب في أن يكتشف ماضي الحركة الكويرية في لبنان منذ السبعينيات. وهكذا، تتكرر لقاءات التصوير والأسئلة المطروحة أمام الكاميرا: “كيف كان الوضع في السبعينيات؟ ما هي الأماكن الرموز التي كنتم تسمعونها؟”، وهكذا يظهر الفارق الثقافي والممارساتي بين جيلين يتشاركان الميول الجنسانية ذاتها.
يروي أدونيس عن الحقبة التي عايشها، حيث كان يصعب التعرف على أصحاب الميول المثلية، وكان يسود الخوف من الممنوع والمحظور، ويتوقف عند خصوصية الحرب التي تفرض نفسها على كل ميل جنسي أو ممارسة حميمية: ” في الحرب كان في ناس عم تموت، عم تتعذب، عم تزت حالها بالبحر، الحرب ما منها مهرب”.
يجعل المخرج من الفيلم، وسيلة لاكتشاف الماضي، ومساءلته وتحليله، والفيلم السينمائي عن حالة أدونيس الفردية، وثيقة تاريخية من حكايات يرويها هذا الشاهد عن الجنسانية والحرب، وفقدان التوعية التي تؤدي إلى انتشار الأمراض الجنسية بالإضافة إلى غياب وسائل الحماية والوقاية في هذا النوع من العلاقات الجنسية. ورغم ذلك كله، يتحدّث عن جرأة الكثير من أفراد مجتمع الميم على كسر الخوف، يقول: “بين الموت واللذة اختاروا اللذة، هرباً من الحقيقة”.
تجسيد رقابة الحي العربي على الجسد الراقص
فيلم (عيب، 2023، هادي موصلي، 5 د، لبنان) خاص بالسياق الثقافي العربي، وهو يسعى الى إعادة التفكير بكيفية فرض المجتمع والعادات والتقاليد مفاهيم العيب على الجسد الراغب في الرقص، وإن كان الفيلم السابق وثائقياً فإن “عيب” فيلم تشكيلي وفني بامتياز، صورت لقطاته المحدودة على شكل لوحات مسرحية. وعلى خلفية مشاهد أعيد إنشاؤها من القرن التاسع عشر من منطقة بلاد الشام، تظهر كل لقطة في الفيلم باعتبارها سرداً منفصلاً – متصلاً، لوحات- تتفاعل بما يجري في كل منها. أما الحكاية فهي عن “سلمى زاهور”، الفتاة التي تهوى الرقص وتمارسه في غرفتها وحيدة، لكن اللقطات التالية تظهر لنا الأزواج في الحي، أو العائلات الجارة وهم يعيبون على سلمى هوايتها. إنها شخصيات مختلفة تمثل أنماطاً أو آراءً تعكس القيم المحافظة والموانع الأخلاقية.
عبر هذه الحكاية البسيطة، والأسلوب السردي المسرحي، يجسد الفيلم كيفية تشكل مفهوم العيب الاجتماعي، وكيف تُفرض المعايير التقليدية عن طريق تكرار مفاهيم العيب في العائلة والمجتمع، يكتب المخرج: “من خلال هذا الاستكشاف الفني، يدفع الفيلم المشاهدين إلى إعادة النظر في فهمهم للعار، والتوقعات المجتمعية، والطبيعة المتطورة للهويات الثقافية”.
يصوّر الفيلم فكرة العار كأداة للسيطرة الاجتماعية مع الاحتفال بالفردية والتعبير المتنوّع عن الهوية البشرية. ويقدّم الفيلم أزياءً وفضاءات ديكور تلتزم بالجماليات والأساليب التي كانت سائدة في دمشق في تلك الفترة، ما يجعله فيلماً عن التراث الثقافي والاجتماعي بالآن عينه. إنه يوحي بالمنشأ العميق لتهمة العيب عند رغبة الجسد الفردي في التحرر.
الرقص فوق رافعات المدينة
يأخذنا فيلم (ورشة، 2022، دانيا بدير، 18 د، لبنان) إلى طبقات المهاجرين والعمال السوريين في لبنان. الشخصية الرئيسية شاب سوري يعمل في البناء، ويعيش في غرفة مكتظة بالعمال تحت الأرض، في المشهد الأول نراه يخسر خلوته الخاطفة في الحمام، إنه الصباح وكل سكان الشقة يريدون الدخول إلى الحمام قبل الذهاب إلى العمل. وبينما كان يتأمل صورة صغيرة مهترئة وضعها على مرآة الحمام، تقتحم وحدته الأجساد الذكورية الضخمة لعمال البناء.
خلال المشاهد الأولى المتتالية، يشكّل الفيلم العالم الكامل الذكورية، العمال والقوة، التبجح بالتحمل، بينما تلاحق الكاميرا الصمت الذي يعيشه “محمد، تمثيل خنسا”، من دون أن ينسى السيناريو أن يتطرق إلى حقوق العمال السوريين في لبنان، ظروف العمل من دون حماية، البارحة سقط زميلهم “يحيى” وهو يقود الرافعة، ولم يحصل على تعويض.
على محمد أن يحل محل قائد الرافعة المتوفى. بواقعية، تتبع الكاميرا عملية صعوده الطويلة والمضنية، والخطيرة، ليصل إلى غرفة قيادة رافعة البناء فوق كامل المدينة، غرفة معزولة، لكنها ما تلبث أن تتحول إلى مملكته الخاصة، أغنية أم كلثوم (أعطني حريتي أطلق يدي ترافق الفيلم)، ليتحول محمد بين جنسانيتين، ويرقص ببراعة بين عالمين، السماوي والأرضي، الفردي والجمعي، الانضباط والحرية، إن الأداء الكريوغرافي المصمم للرقص على عيدان الرافعة، يصنع مشهداً سينمائياً وحكائياً مكثف الجمال والشاعرية. وينتهي الفيلم بينما يدور محمد خنسا مع عيدان الرافعة، برقصة التعبير عن الكبت، والمتعة من الحركة والموسيقى في الآن عينه. لحظة الحلم، ولحظة تكشف الذات عن رغباتها.
التنكّر خوفاً من الرقابة
تمهّد كل الموانع الاجتماعية المذكورة في الأفلام السابقة، الأرضية لحكاية فيلم (صاحبتي، 2022، كوثر يونس، 17 د، مصر)، فلا يمكن إمضاء الوقت بين الحبيب والحبيبة، في المرحلة الجامعية، إلا بتنكر جندري. فالزائرة (عليا) التي تدخل إلى غرفة (سارة) للدراسة معاً، ليست إلا الحبيب (علي) متنكر بالأزياء، بالحركة، وبالصوت.
نحن أمام تحايل جندري على العائلة في الخارج، ما يلبث أن يصطدم بالقبلة والأدوار الجنسية بين الحبيبين. يتعانقان، يتبادلان القبل، لكن أي تلكؤ في تيار الشهوة، يدفع (علي) إلى التذمر من هويته الأنثوية، ويستعيد دور الشاب في الغضب والتدخين.
الهوية المغايرة، والتي دخلت إلى ذهنه وجسده باعتبارها حيلة، بدأت تطرح على ذهنه أسئلة سلوكية. نراه أمام المرآة وحيداً يتأمل هيئته النسائية، يلمس أصابعه الملونة بالمنيكور، ويسرح شعره المضبوط بربطة أنثوية، وحين يدخل إلى الحمام ليدخن سيجارة، ينغلق تحت الدوش، بينما والد سارة ينتظره في الخارج.
صباح اليوم التالي، قبل الخروج إلى الجامعة، يختلي أب سارة مع المتنكر (عليا)، يضيفه سيجارة سراً، بكل ما يحمله الفعل من رمزية الدعوة إلى الجنس، ويلمسه متحرشاً عند الذراع، ويتركنا الفيلم بصمت مع المشاعر الممتدة لعلي-عليا في ما عايشه من تنكّر جندري بسيط. طالما قدمت حبكات كوميدية في تاريخ المسرح، تعيش فيها الشخصيات أنواعاً من التنكّر الجندري الدافع للهلو والتسلية، بينما تسمح الكاميرا القريبة من تعابير الشخصيات بمساحة من تأمل المتلقّي انعكاسات الأحداث على مشاعرها ووجدانها.
الجثة العابرة
يشكّل فيلم (وذكرنا وأنثانا، 2022، أحمد اليسير، 11 د، الأردن)، حكاية نموذجية للقيم الجنسية التي تحكم الجسد العربي حتى بعد الموت. فالسيناريو يروي حكاية أب وأم في حيرة مع طقوس التغسيل والدفن لجثة ابنهما/ابنتهما العابرة جنسياً.
يرفض مغسل الجثث أن يتابع الرجل تغسيل الجثة حين يكتشف وجود نهدين، وكذلك الأمر معكوساً، فغسالة الموتى المرأة تنفجر غاضبة حين تلمس يدها عضواً ذكرياً، تصرخ: “خربتوا البلد”.
الحكاية المكثّفة تبيّن لعنة القيم الأخلاقية التي تلاحق الجسد العربي بعد موته، أما حضور الجثة وطقوس التغسيل والدفن، فيضفي على الفيلم جواً دينياً إسلامياً، وهو ما يركز عليه العنوان. يستعيد الأب غضبه بين الحين والآخر، مصمماً أن ابنه، ذكر. بينما تتلو الأم باستمرار آيات قرانية، تدعو إلى التسامح، فيما يتصاعد غضب الأب، وهو يردد: “ابني زلمة وبغسلوش إلا زلمة”.
يدخل الوالد إلى الجثة المسجّاة، يقتلع منها النهدين، ويقطع الأب بيديه الأعضاء الجسدية التي يرفض وجودها في جثة الإبن. ومن بعد البتر والتشويه، يرتاح الأب للتعامل مع جسده ابنه/ابنته كجسد ذكوري، بينما تتابع الأم تلاوة آيات قرآنية عن الرحمة. ويصور المشهد السينمائي فعل التشويه وقطع النهدين، في مقابل السكينة والرحمة التي تمثلها الآيات القرانية التي ترددها الأم. ويوحي عنوان الفيلم، بأن الآيات الدينية أكثر رحمة بالهويات الجنسانية من العادات والتقاليد.
إعادة إحياء الحياة الزوجية
في فيلم (رغبات مشروطة أو تصعيد، 2023، حسام سلولي، 15 د، تونس)، نتابع الثنائي أحمد وسلمى يعايشان تجربة جسدية، حسية، وجنسية لزوجين، ما يلبثان أن يقعا في أسر الحركات والأفعال اليومية، وفقدان التواصل، والحياة الرتيبة عاطفياً وجنسياً. ويظهر أن الحلول الممكنة، هي في بحث كل منهما عن رغبته منفرداً، في نطاق علاقات أخرى، ستنقلهما من الجنسانية الغيرية إلى التجارب الجنسية المثلية. يحمل الفيلم عناوين عدة (تصعيد، رغبة مشروطة) وهو يروي العلاقة بين جسدي هذين الشريكين.
تروى العلاقة تلك سينمائياً عن طريق حركات كريوغرافية يقوم بها كلا الجسدين، يصعدان السلالم، يتبادلان قبلة، نعيش معهما الانتقال المنهك بين السرير والحياة اليومية، الخالية من الإغراء والتواصل. حين يكون جسد أحدهما وحيداً، فهو يبدي شهواته ورغباته، ولكن في حضور جسد الثنائي، فإن حالة من الحركة والعمل المستمر والأفعال المكرورة تطغى على العلاقة.
أحمد رسام، وسلمى تعيش لحظات تأمل في المنزل وحدها، تتبرج. وتصور الكاميرا بين جدران الغرفة المشتركة مشاعر الفعل الجنسي، برود لحظة القبلة، كاميرا مرآتية تذكرنا بمنابع السينما الكويرية في أفلام راينر فاسبندر. في مجريات الأحداث التالية، يكشف الفيلم عن العلاقة المثلية التي يعيشها (أحمد)، وكما ظهرت العلاقة المثلية الذكورية في حالة من السكون، فإن العلاقة المثلية التي تعيشها سلمى لن تظهر حتى اللقطة الأخيرة.
إنه فيلم عن ثنائي غيري يعيش حالة من فقدان التواصل، والبرود الجنسي، ما يؤدي بكل منهما، أي الرجل والمرأة، إلى الشروع في علاقة جنسية مثلية. كما يصعب على المتلقي إدراك المراد معالجته أو سرده في هذا الفيلم، خصوصاً أن العلاقات تبدو غامضة، وكذلك مشاعر الشخصيات وأفكارها.
فن الدراغ: الجمال والسلام والاحتفاء بالحياة
يتبع فيلم (سلطانة زمانها، 2023، هادي موصللي، 10 د، فرنسا لبنان فلسطين) أسلوب الوثائقي الحواري في الشريط الصوتي للفيلم، لكن اللقطات السينمائية تسعى الى تصوير الشخصية الرئيسية (فارس، سلطانة) في حالات من الجمالية، والبهرجة، والفنية ما أمكن. فيبدأ الفيلم بسلطانة وهي في وضعية الاستلقاء، يرسمها الرسام الأردني RIDIKKULUZ: “الرسام الموهوب للغاية أظهر انفعالاتي، وكأني أتذمر من كل شيء، وهذا الرسم يعبر عني للغاية، هذا البورتريه يعبر عن الحقيقة”، وبينما تتشكل صورة سلطانة في البورتريه تقدم لنا شخصيتها باعتبارها مناضلة لأجل أن ينعم الشرق الأوسط بتقبل التنويعات الجنسانية، والفنية، ويسود فيه السلام.
تقول سلطانة: “أعرف نفسي بأني دراغ كوين، وفنانة أداء، ورسامة، ولدت في نيويورك 1968، وكنت الدراغ كوين الوحيدة التي تقدم عروض الرقص الشرقي. أنا أحارب بوجودي، أحارب لأكون نفسي، أحارب لأظهر للعالم ما أنا عليه. وكل ما تتضمنه شخصيتي من تعقيدات. وأنا مناضلة لأجل الشرق الأوسط، ومؤيدة للسلام”.
تتقاطع في الفيلم حكاية سلطانة الشخصية مع الأحداث التاريخية والسياسية، بين مصر، الأردن في حادثة أيلول الأسود، لبنان بين أعوام 1970-1975 بين النهضة الثقافية ومرحلة الحرب الأهلية. لكن أيضاً تعيدنا آراؤها وذكرياتها إلى الفنون العربية في تلك الفترة: “كانت القاهرة مركز الاستعراض والترفيه للشرق الأوسط، فتروي عن تأثرها بالأفلام العربية في فترة الستينيات والسبعينيات، وإعجابها بالممثلات المثيرات مثل هند رستم، سعاد حسني، فاتن حمامة”.
تقول: “الدراغ هو فن، عبارة عن تحية إلى نجمات هوليوود في العصر الذهبي، في الأعوام التي كانت مبهرة لحد يفوق الخيال. أعشق “فيروز، صباح، داليدا”، وقد حضرت حفلاتهن في البيكاديلي – الحمرا. أدائي الأول في بيروت كان في فترة السبعينيات، حيث ارتديت فستاناً وأديت أغنية (جيجي العاشق، Gig Lamoroso). الرقص هو طريقتي في التعبير عن الذات، كنت أحب الرقص على أنغام أغنية “حرمت أحبك، وردة الجزائرية”. شعرت وكأني أنشر السلام عبر الرقص”.
ترى سلطانة أن فن الدراغ المثير للغاية بطبيعته، يدفع الناس الى اعتباره نوعاً من البغاء، لا سيما في الشرق الأوسط. لكن الحقيقة برأيها أنه فن يتعلق بالبهرجة، بالفرح، بالمكياج الخلاب، والملابس الجذابة، وهي تتناوب بين شخصيتين لا غير، إما الفارس الذي يلبس كما الباشا، أو المثيرة سلطانة. وتعتبر سلطانة أن الاستقلال المادي هو الذي يمكن الأفراد المغايرين والعابرين من التمتع بالحرية: “الاستقلال المادي هو عين الحرية. الاستقلال يساعدنا على الإفصاح عن هوياتنا وميولنا. لقد صنعت نفسي بنفسي، لقد كنت خائفة للغاية من والدي، ولم أفصح عن ميولي إلا بعد وفاته، وهو رجل شرقي فلسطيني كرس نفسه للعائلة، ومن ثم أقدم على الانتحار. ذهبت للكثير من الأطباء النفسيين لأكون غيرية الميول، لكن ذلك لم يكن سوى مضيعة للوقت. أحب أن يتذكرني الناس بأني فنانة استعراضية تعبر عن نفسها، وعن حبها للحياة، والاحتفال، هناك دوماً احتفال صغير بداخلي”.
النسويات الشرقيات الطليعيات: وثائق وصور وحكايات
تدور أحداث فيلم “النهضة الجديدة، 2023، مي زيادة، 12 د، مصر وبريطانيا” حول منى، وهي شابة تعيش في لندن، تجد صوراً أرشيفية لنساء عربيات يرتدين ملابس رجالية منذ العشرينيات من القرن العشرين. فتنطلق في رحلة صناعة فيلم أو كتاب عنهن، وفي مكان ما بين خيالاتها وواقعها، تبدأ منى رحلة محمومة لكشف التاريخ المفقود وهويتها الخاصة.
يطلعنا الفيلم على أرشيف من صور النسويات الشرقيات الطليعيات في العشرينيات من القرن العشرين، لنكتشف عالماً نسوياً مبكراً في كل من لبنان، فلسطين، مصر. وتذكر الوثائق (صالون هدى شعراوي، وصالون مي زيادة، وصالون مريانا مراش).
يحرص الفيلم على إعادة تجسيد الأزياء والأماكن والإضاءة التي كانت سائدة في تلك الفترة، وعرض تسجيلات صوتية ومحاضرات تعود إلى تلك الحقبة، ويبرز صوراً أرشيفية موثقة، منها (ماري الخازن ترتدي رداء رجل، لبنان، 1927)، (مارغريت، ترتدي رداء رجل، فلسطين القدس 1935)، و(صورة أخرى لامرأة تسمى “باشاشا” وهي تقبل صديقتها، لبنان-صيدا، 1950-1959)، (وصورة أخرى لرجلين يرتديان ملابس نسائية تحمل عنوان “نجم وأسمر”، لبنان – صيدا، 1950-1959).
لا يترك الراوي في فيلم (الكاسكيت، 2022، هادي موصللي، 4 د، فرنسا لبنان) المونولوج الداخلي الذي يلقيه، ويشرح فيه هواجسه ومخاوفه، من دون مستوى سردي ثانٍ، فبالإضافة إلى صوت الشخصية الرئيسية التي تروي، تتخلل الفيلم مقتطفات من نشرات الأخبار، أو من حوارات من الإعلام الفرنسي، تعمق مقولات الشخصية.
يكتب المخرج للتعريف عن المستوى الأول المتعلق بمقولاته: “إنه فمي الذي أفتحه للتعبير عن تعبي أمام التمييز والتحيزات التي تثقل كاهلي طوال اليوم. أرتدي ملابسي، كما أفعل كل صباح. هل أعتبر عربياً، أو رجلاً مثلياً، أم أنا فقط، هادي؟ أشعر بالفزع من التحرر المتزايد لخطاب الكراهية وتفتيت المجتمع إلى فئات أصغر وأصغر. يريد الجميع أن يرى فقط نوعهم، من دون السعي إلى الدخول في حوار مع الآخر، في التسامح. قررت أن أفتح فمي للمطالبة بمجتمع من الحياة المتعاطفة حيث سيكون لكل شخص مكانه، من دون الحاجة إلى تبرير نفسه. أريد أن أرسل رسالة أمل إلى جميع الأشخاص الذين يتعرضون للتمييز من خلال إثبات أن هذه القبعة، على الرغم من ثقلها، يمكن ارتداؤها بفخر. الأمر متروك لنا لاستعادة السيطرة عليها”.
أما المستوى الثاني فهو مقتطفات من خطابات عنصرية أو هوفوبية تظهر في الميديا والإعلام: “رغم أننا في مدينة أوروبية نشعر وكأننا في العراق أو أفغانستان”، “يجب أن نحافظ على هجرة عالية الجودة لكي نستفيد منها”، “أين أصبحنا، هل تتخيل أن الرئيس السابق فرانسوا ميتران يلتزم بتعلميات مجموعة المثليين جنسياً؟”، “إننا لا نتحدث هنا عن سوريين هاربين من فلاديمير بوتين، بل أوروبيين أوكرانيين يشاركوننا فضاءنا الحضاري”.
في قلق العنصرية والهوموفوبيا
مقولات “هادي” الشخصية الرئيسية تشرح المشاعر الدقيقة للعيش ضمن احتمال التعرض اليومي للهجوم على أساس العنصرية أو على أساس التمييز الجنسي: “لا أدعي أن الجميع مصاب برهاب المثلية أو العنصرية، لكنني أعيش في حالة من الرهاب المستمر أن يخاطبني أحد ما بطريقة سيئة على أساس العنصرية أو الهوموفوبيا، وربما لا يكون التهجم أو تكون الشتيمة واضحة، وأحياناً لا يمكنني أبداً إثباتها، لكن يمكنني الشعور بها”.
يرى هادي أن العنصرية لم تتزايد، لكنها أصبحت أكثر تحرراً بسبب تفوه السياسيين المستمر بعبارات معادية للمثلية، وتشجع على العنصرية، وبذلك ينطلق الأشخاص الكارهون والعنصريون بلا خوف بالتعبير عن أنفسهم.
يروي هادي عن مواقف في الأماكن العامة يعايشها بسبب مثليته وجنسيته العربية، كما في المطارات: “لقد سئمت من القيام بعمليات تفتيش “عشوائية” في المطار، لأنني عربي، لكنني لاحظت بمجرد أن أرتدي ملابس أنيقة إلى حد ما، غريبة الأطوار مع قرط، أبدو أكثر “مثلياً”، لذا سيسمحون لي بالمرور. أنا متأكد من أنهم يفكرون: الرجل لن يفجر قنبلة، لكنه سيفجر مؤخرته!”، وحادثة أخرى في المحلات التجارية: “ولكن في بعض الأحيان يكون أسوأ شيء هو عندما أرى حارس أمن عربياً يوقفني، أفكر بجدية أن الرجل عربي، وهو ويعتقد أن العرب والسود هم الذين يسرقون. هذا محزن للغاية”.
أما على مستوى الحدث السياسي، وكما ورد في العبارات العنصرية في الحوار الإعلامي، فإن هادي يتناول التمييز الذي مارسه الأوروبيون بين اللاجئ العربي واللاجئ الأوكراني: “بالإضافة إلى ذلك اليوم في أوكرانيا. من المحزن أن نرى ما يحدث في هذا البلد، ومن السعيد أن نرى هذا التضامن الدولي مع ما يحدث من خلال الترحيب باللاجئين بأذرع مفتوحة، بطريقة جميلة ومؤثرة. ولكن من ناحية أخرى من المحزن أن العالم مستعد لاستقبال اللاجئين ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، ولكنه لا يقبل اللاجئين من الدول “غير المتحضرة” كما يسمونها”.
يحصل ذلك كله خلال الدقائق الأربع التي تشكل زمن الفيلم، وبينما تتقاطع مقولات الإعلام العنصري والهوموفوبي، مع مقولات هادي الداعي إلى انتصار الحب على الكراهية والخوف، فإن الحدث الوحيد الذي يحصل أمام الكاميرا، هو عملية ارتداء هادي ملابسه، وخصوصاً الكاسكيت التي تحدد هوية هادي أو تخفيها، بحسب الرموز التي يحملها الزي الذي يرتديه، إنها لحظة اختيار ملابس الصباح لشخصية تخشى الاحتكاك بالحياة اليومية المليئة بالعنصرية والهوموفوبيا، جعل منها المخرج مونولوجاً وتجربةً يشاركها مع المتلقّي.
إقرأوا أيضاً: