“قمع المحتوى الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي لم يبدأ مع الأحداث التي تتصاعد على الأرض حالياً في فلسطين”، تقول الباحثة في الحقوق الرقمية منى شتيه لـ”درج”، وتُضيف : “القمع تاريخي متعمد وهناك انحياز خوارزمي وفي سياسات إدارة المحتوى الخاصة بشركات التواصل الاجتماعي، وبعضها تم إثباته حتى عن طريق تحقيقات تم إجرائها من أطراف ثالثة مستقلة قامت بتوظيفها شركة ميتا”.
تؤكد شتيه أن “سياسات شركة ميتا متحيزة ضد الفلسطينيين، وتحرمهم من حقوقهم بحرية الرأي والتعبير، والتجمع والتنظيم، وعدم التمييز والمشاركة السياسية”.
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبالتوازي مع تهافت الدول الغربية إلى حشد الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل في حربها الانتقامية على قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”، وانحياز مساحة واسعة من الإعلام العالمي للرواية الإسرائيلية بشكل يقوض كل الاعتبارات المهنية، تُشن حرب رقمية غير مسبوقة على المحتوى الداعم للحق الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي من تضييق وحذف وحجب. جميعها انتهاكات خطيرة للحقوق الرقمية الفلسطينية ولحرية التعبير، والحق بالوصول للمعلومات.
يتخذ تقييد المحتوى على تلك المنصات أشكالاً متعددة، منها: انخفاض عدد المشاهدات لقصص المؤثرين/ ات أي الـ Stories، بحيث يتم تأجيل عرضها تلقائياً وتفضيل قصص أخرى عليها أو ما بعرف بالـ”Shadow banning”، وحجب القدرة على التعليق، وإخفاء الصور الرمزية للعلم الفلسطيني واعتبارها رموزاً سلبية، والإبقاء على هاشتاغات عبرية تدعو لمحو غزة، بينما تمت ملاحقة وسم “طوفان الأقصى” باللغة العربية منذ اليوم الأول.
قامت منصة “فايسبوك” بالفعل بحذف صفحة شبكة “القدس الإخبارية”، وهي أكبر صفحة إخبارية فلسطينية وتضم 10 ملايين متابع، على الرغم من أن الشبكة مستقلة ومحتواها إخباري كغيرها من الصفحات الإخبارية، وفق “حملة”.
أما على تطبيق “واتساب”، ولدى محاولة المستخدمين البحث عن كلمات “فلسطيني” أو “طفل مسلم فلسطيني” تظهر لهم “ستيكر” أو صورة لطفل يحمل سلاحاً، أما إذا بحثوا عن كلمة “طفل إسرائيلي” ستظهر لهم صورة طفل يلعب، بحسب صحيفة الغارديان.
الأمر الذي تعتبره شتيه “تناقضاً صارخاً يساهم في تنميط الفلسطينيين وتطبيع صورة العنف على أنه فلسطيني، ويساهم أيضاً بتشويه صورة الفلسطيني على شبكات الانترنت خصوصاً لدى الأشخاص الذين لا ينتمون لأي من الطرفين، ولا علم لهم بالسياق التاريخي للقضية الفلسطينية”.
تربط شتيه هذا التنميط بتصاعد جرائم الكراهية التي تجاوزت الحدود الفلسطينية إلى عدد من دول العالم، ومنها جريمة مقتل الطفل الفلسطيني وديع الفيومي (6 سنوات) على يد جاره في الولايات المتحدة الأميركية والذي طعنه حتى الموت، وهو يصرخ “على المسلمين أن يموتوا”.
اعتقالات بسبب النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي
في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية الممثلة الفلسطينية ميساء عبد الهادي من منزلها في مدينة الناصرة، بتهمة “الترويج لخطاب الكراهية الذي يشيد بتنظيم محظور أي (حماس)”، وأرفقت الشرطة بيانها بصورة نشرتها الممثلة لعناصر من حركة “حمـاس”، وهم يحطّمون الجدار الإسرائيلي في حدود قطاع غزة حيث كتبت عبد الهادي “لنفعل ذلك على طريقة برلين”، في إشارة إلى هدم جدار برلين عام 1989.
اعتقال ميساء جاء ضمن حملة ملاحقة واعتقالات أطلقتها في صفوف العديد من عرب 48، بذريعة مشاركتهم في التحريض ضد الإسرائيليين ودعم حركة “حمـاس”، إذ سبق واعتقلت المغنية والباحثة الفلسطينية دلال أبو آمنة لتضامنها مع غزة في منشور لها على فايسبوك، واعتبرت السلطات الإسرائيلية أن منشور أبو آمنة الذي حمل عبارة “لا غالب إلا الله” مع علم فلسـطين، “تحريض على إسرائيل”.
“سنبقى كمدافعين عن الحقوق الرقمية نحاول التأثير على شركات إدارة المحتوى ودفع شركات التواصل الاجتماعي لاستثمار المزيد من مواردها لتعديل هذه السياسات، وجعل منصاتها مفتوحة بالفعل وآمنة وحرة لكل الأشخاص في كل مكان من العالم ليتمكنوا من رواية قصتهم”
منى شتيّة- باحثة في الحقوق الرقمية
وكانت دلال قد “واجهت حملة تحريض شرسة أطلقتها ناشطة إسرائيلية، ما اضطرنا لحذف جميع صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي للتخفيف من وطأة التهديدات ضدها وضد أسرتها، لأنها شعرت بالخوف والقلق على أطفالها”، بحسب ما أفادت محاميتها.
وثق مركز “عدالة”، ما لا يقل عن 161 حالة اعتقال أو استجواب أو توجيه تهم لمواطنين/ات فلسطينيين/ات من عرب 48 على خلفية منشورات تنتقد إجراءات الحكومة الإسرائيلية أو تدعم الحقوق الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي منها “فايسبوك” و”انستغرام” وغيرها. ووفقاً لمركز “حملة”، لا تقمع هذه الاعتقالات الحق الأساسي في حرية التعبير فحسب، بل تعيق المحاكمات العادلة وغالباً ما يواجه الأفراد فترات احتجاز طويلة ودون تهم واضحة.
ازدواجية معايير فاضحة ولا آليات للحماية
في تغريدة لها على موقع “إكس”، كتبت شتيه: “قامت شركة ميتا العام الماضي باتخاذ إجراءات لحماية الأوكرانيين، ولكن في حالة الفلسطينيين كل ما راقبناه كان سياسات وممارسات وتذرع بالأخطاء التقنية التي ساهمت بإسكات الصوت الفلسطيني”.
على سبيل المثال، استخدمت “ميتا” كلمة “مقاومة” لوصف مواجهة الأوكرانيين للاعتداءات الروسية، ولكن الكلمة نفسها كانت السبب وراء حذف منشورات فلسطينية من على المنصات التابعة للشركة.
تشرح شتيه أن الأمر “يتعدى كونه ازدواجية في المعايير في التعامل مع القضيتين، بل هو دليل على أن الشركة غير مهتمة باستثمار آلياتها لحماية الفلسطينيين رقمياً تماماً كما فعلت مع الأوكرانيين، رغم كل محاولاتنا كمدافعين عن الحقوق الرقمية في فلسطين مناشدتها لتأمين تلك الحماية نظراً لكوننا نعيش في ظل احتلال، وقد نشهد تصعيدات أمنية خطيرة في أي لحظة كما حدث مؤخراً، لكن الشركة لم تستثمر ولم تبذل جهداً كافياً لحماية المستخدمين/ ات ليس فقط الفلسطينيين حتى الصحفيين وحتى المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء حول العالم الذين قد يكون لهم رأي حول ما يحدث في فلسطين”.
منصات التواصل الاجتماعي تفشل أيضاً في محاربة المعلومات المضللة على منصاتها تقول شتيّة “هي ليست معلومات ينشرها مستخدمون عاديون بل معلومات تُعبر جزءًا من الهسبرة (الدعاية) الإسرائيلية التي تُنشر بهدف الترويج لرواية وقمع رواية أخرى”، وتضيف: “حتى الصور المفبركة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتي نُشرت على صفحات ساسة إسرائيليين أبقتها منصات التواصل الاجتماعي ولم تحذفهم رغم ثبوت عدم صحتها”.
محاولات للتحايل على التضييق
في محاولة للتحايل على خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، يحاول المستخدمون/ ات اتباع أساليب مختلفة في كتابة محتواهم/ن، كتقطيع الكلمات التي قد تتعرض للحظر أو إضافة أحرف لاتينية إليها أو الاستعاضة عنها بالصور أو الشعارات، إلا أن “تلك المحاولات قد لا تكون فعالة على المدى الطويل لأن الشركات ستطور آليات لكشفها وحذفها هي أيضاً كلما راقت رواجاً واستُخدمت بشكل كبير”، تقول شتيه.
كما أن تقطيع الكلمات المفتاحية يؤدي بشكل أو بآخر إلى حجب المحتوى وعدم ظهوره للمستخدمين في محركات البحث، ما يعني المزيد من تقويض للمحتوى وصعوبة في الوصول للمعلومات.
لكننا “سنبقى كمدافعين عن الحقوق الرقمية نحاول التأثير على شركات إدارة المحتوى ودفع شركات التواصل الاجتماعي لاستثمار المزيد من مواردها لتعديل هذه السياسات، وجعل منصاتها مفتوحة بالفعل وآمنة وحرة لكل الأشخاص في كل مكان من العالم ليتمكنوا من رواية قصتهم”، تؤكد شتيه.
نماذج من التضييق
“كل ما أردنا إضافة كلمة (فلسطيني/ة) إلى زاوية التعريف الشخصي بنا على منصة انستغرام، تُترجم الكلمة تلقائياً إلى (فلسطيني/ة إرهابي/ة)”. ردد ناشطون فلسطينيون للتعبير عن التضييق الذي يواجهونه كلما أرادوا التعبير عن تضامنهم مع غزة ودعمهم للحق الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي منذ اندلاع حرب إسرائيل الانتقامية على قطاع غزة.
منظمة العفو الدولية تحدثت عن “تقارير مقلقة تفيد أن منصات التواصل الاجتماعي قد تكون تفرض الرقابة على ما ينشره الفلسطينيون ومؤيدو حقوق الفلسطينيين في إطار رقابتها على المحتوى الذي قد يكون تمييزياً مع تكثيف إسرائيل لقصفها غير المسبوق وتوسعها في الهجمات البرية في غزة التي قتلت الآلاف، معظمهم من المدنيين، تقلقنا بشدة تقارير الحجب الجزئي والإزالة، أو ما يعرف بـ”الحظر الخفي”، للمحتوى الذي ينشره مؤيدو حقوق الفلسطينيين.
يتزامن ذلك، بحسب المنظمة، مع قيام إسرائيل بحجب الاتصالات والانترنت بشكل متعمد عن غزة، مما يؤدي إلى عرقلة استجابة خدمات الطوارئ وعدم الوصول إلى معلومات ضرورية حول المناطق الآمنة وعدم القدرة على التواصل مع العائلة داخل وخارج غزة وإلى جانب تزايد الصعوبة في توثيق الانتهاكات.
ما ذكرته العفو الدولية أكده تقرير لـ”حملة- المركز العربي الإعلام الاجتماعي”، وهو مركز يهتم بالحماية الرقمية للمحتوى الفلسطيني، بعنوان “إحاطة بشأن واقع الحقوق الرقمية الفلسطينية منذ السابع تشرين الأول/ أكتوبر 2023″، وفيه رصد لجملة من الانتهاكات المتزايدة للحقوق الرقمية الفلسطينية واستهداف للمحتوى الفلسطيني، والمحتوى المناصر للحقوق الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي.
ورصد التقرير أيضاً ازدياداً في تفشي خطــاب الكراهيــة والتّحريــض بحق الفلسطينيين/ات على تلك المنصات، وخصوصاً باللغــة العبريّة، الأمر الذي يغذيه انتشار الأخبار الكاذبة والمضللة التي استُخدمت لتبرير أعمال العنف والعقاب الجماعي بحق الفلسطينيين. خطاب الكراهية والتحريض يترجم بالفعل إلى عنف على الأرض من قبل المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، وهو واقع يعيشه سكان مدن الضفة الغربية بشكل متصاعد منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
خنق متعمد للأصوات الداعمة لفلسطين
بحسب تقرير “حملة”، ينشط مقص الرقابة لدى شركة “ميتا” في قمع الأصوات الفلسطينية والداعمة للقضية الفلسطينية فيما يتجاهل خطاب الكراهية والتحريض على العنف باللغة العبرية الذي يُترك على المنصات دون أي رقابة.
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وثق المرصد الفلسطيني لانتهاكات الحقوق الرقمية (حر) 1009 انتهاكات للحقوق الرقمية الفلسطينية، منها 411 حالة تعرضت للإزالة أو التقييد، و598 حالة موزعة ما بين خطاب كراهية وتحريض على العنف وأشكال أخرى من الاعتداءات على المنصات الرقمية.
ورصد “مؤشر العنف” انتشاراً واسعاً لخطاب الكراهية والتحريض على العنف باللغة العبرية. أكثر من 590,000 حالـة عـلى المنصـات الرّقميّـة صُنّفت عـلى أنّهـا خطـاب كراهيـة ومحتـوى عنيـف، وغالبية تلك الحالات كان على منصـة “إكس”، أي “تويتر” سابقاً والتي كانت قد تحولت إلى “مرتع لخطاب الكراهية والتحريض على الفلسطينيين منذ استحواذ ايلون ماسك عليها”.