تشوّهات خلقيّة وأمراض مزمنة ستتركها الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة وقاطنيه، نتيجة الكميات الكبيرة من المتفجرات والصواريخ اليومية وقنابل الفوسفور الأبيض المحرّمة دولياً التي يستخدمها الجيش الإسرائيليّ. من ينجو من الموت المحتّم من القصف، لا ينجو من مخلفات هذه الأسلحة، حتى ولو لم يصب بها بصورة مباشرة، إذ تؤثر الأبخرة في الهواء على الجهاز التنفسي بشكل دائم، وقد يصل الأمر الى الأجنة في أرحام الأمهات اللاتي يتأثرن باستنشاق هذه المواد.
مع اقتراب انتهاء النصف الأول من الشهر الثالث من الحرب الإسرائيلية على غزة، أصبح كل متر في قطاع غزة مُستهدفاً، ولم يعد أي مكان آمناً في غزة، التي تعرضت إلى أكثر من 52,000 طن من المتفجرات دمّرت منازل المواطنين والمستشفيات والمدارس والمؤسسات المدنية، بحسب مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابته.
هل هي هيروشيما جديدة؟
أكد الثوابته في حديثه لـ”درج”، أن لا شك في أن الجيش الإسرائيلي يستخدم في هذه الحرب أسلحة فتاكة ذات قوة تدميرية عالية، ويتعمد إحداث أكبر قدر من الدمار ، قائلاً: “وكأنه يريدها هيروشيما جديدة”.
تابع الثوابتة قائلاً، إن الولايات المتحدة كانت تعهدت بتقديم أسلحة ومساعدات لإسرائيل تجاوزت قيمتها الـ 22 مليار دولار، ما يجعل أميركا شريكاً في الحرب، إذ قدمت الدعم العسكري من خلال تعزيزات بالجنود والدبابات والطائرات والصواريخ والقنابل. في وقت أطلقت الطواقم الفلسطينية المتخصصة تحذيرات عدة جلّها يتلخص في توفير أدنى الحماية للمواطنين من التعرض لمخاطر انبعاثات هذه الصواريخ، التي تؤثر سلباً على صحتهم، فيما انعدم الأمان وسبل السلامة الصحية في القطاع.
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحتى اليوم، ارتفعت حصيلة القتلى إلى حوالى 18412 شخصاً و50100 إصابة، كما شمل القصف كل مناطق قطاع غزة، بما فيها مدينة رفح التي يدّعي الجيش الإسرائيلي أنها منطقة آمنة.
وعلى رغم إنكار الجيش الإسرائيلي استخدامه قنابل الفوسفور الأبيض الذي سبق أن استخدمه في حرب 2008، إلا أن منظمة العفو الدولية أكدت حصول ذلك في كل من قطاع غزة ولبنان، وطالبت بفتح تحقيق دولي في كل هذه الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني.
واصف عريقات، الخبير والمحلل العسكري الفلسطيني، بيّن لـ”درج” أنواع الأسلحة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي خلال حربه على القطاع وما تسببت فيه، قائلاً: “استخدم قذيفة أم 107 شديدة الانفجار ومتشظّية إلى 1950 شظية وتنتشر على مساحة 1000 متر، تلقى لمسافة 18-19 كم، وقذائف أم 795، وقذائف التحصينات جي بي يو 72 وزن 2500 كغم، وقذائف جي بي يو 28 وزن 2270 كغم وفيها 286 كغم من المتفجرات، وقنابل بلو 109 خارق للتحصينات وزن 900 كغم فيها 250 كغم متفجرات تخترق 3.6 متر بالخرسانة وحتى عمق 60 متراً، قنابل م ك 84 والتي استخدمت في المستشفى المعمداني، صواريخ هيل فاير يوجّه بالليزر لاختراق الدروع، قنابل بنكر بسترس، وصاروخ سبايس الذي تم تطويره إسرائيلياً عن جي بي يو الأميركي، يطابق الصورة مع الهدف عند الإطلاق ويتفادى تشويش الأقمار الصناعية، يزن 1000-2000 رطل، خارق للتحصينات أو قنابل شديدة الانفجار”.
أكد عريقات أيضاً، استخدام قنابل الفوسفور الأبيض، و”هي قذائف مدافع 155 ملم، تحتوي كل قذيفة على 116 قطعة لباد منقوعة بالفوسفور، ما يؤدي الى احتراقه مع ملامسته الأوكسجين في الغلاف الجوي، وهو ينتشر في السماء أكثر من الأرض”.
استخدام مثل هذه القذائف والقنابل في أحياء سكنية مأهولة بالمدنيين في مختلف مناطق قطاع غزة؛ ينتهك القانون الإنساني الدولي (قوانين الحرب)، الذي يتطلب اتخاذ جميع الاحتياطات المستطاعة لتفادي الإضرار بالمدنيين، ويحظر الهجمات العشوائية التي لا تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية.
ويذكر أن الفوسفور الأبيض يعتبر سلاحاً حارقاً بموجب البروتوكول الثالث لاتفاقية “حظر استخدام أسلحة تقليدية”، إذ يحظر البروتوكول استخدام الأسلحة الحارقة ضد الأهداف العسكرية الواقعة بين المدنيين، لكن إسرائيل لم توقع على الاتفاقية وغير ملزمة بها.
على رغم إنكار الجيش الإسرائيلي استخدامه قنابل الفوسفور الأبيض الذي سبق أن استخدمه في حرب 2008، إلا أن منظمة العفو الدولية أكدت حصول ذلك في كل من قطاع غزة ولبنان، وطالبت بفتح تحقيق دولي في كل هذه الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني.
أضرار جسدية جسيمة
يوضح المدير الطبي في مستشفى شهداء الأقصى في غزة الدكتور إياد الجبري، لـ”درج”، ما تسبّبه هذه الأسلحة للمتضررين منها، إذ إنها تعرّض الغزيين للفوسفور الأبيض على مسافة 4 أمتار، وفي مناطق مكتظة وضيقة قد يؤدي إلى الموت السريع. ويضيف، “أما في حال تم القصف في مناطق واسعة، فإنه يسبب أضراراً كارثية واسعة على مناحي الحياة كافة، كونه مادة سامة وله تأثير على المديين القريب والبعيد”.
يشرح الجبري قائلاً، إن إصابة الجسم بالمواد الحارقة الخطيرة تؤدي على المدى القريب إلى احتراق الأنسجة في المناطق التي تلامسه، لافتاً إلى صعوبة إطفاء الفوسفور لتفاعله مع الأكسجين، ما يؤدي الى استمرار احتراق الأماكن والأنسجة الواقعة عليها إلى أن تصل إلى العظام، فينتج من ذلك بتر الأطراف أو المناطق المصابة بالمادة. أما على المدى البعيد، فهي تؤثر على الجهاز التنفسي والكبد والكلى والقلب، مع احتمالية الإصابة بأنواع السرطانات المختلفة، مثل سرطان الدم والكبد والرئتين، وتهيج منطقة الرئتين والتهابات شديدة قد تؤدي إلى تليفات وأمراض مزمنة لا يمكن علاجها.
تشكل هذه الأسلحة خطراً كبيراً على جميع مناحي الحياة عند الأطفال في حال تعرضوا لها، إذ إنها تؤدي إلى نقص المناعة والتهابات وتقرحات في الفم والتهابات شديدة في الصدر، وقد تؤدي إلى وفاتهم، بخاصة حديثي الولادة لضعف مناعتهم.
يوضح الجبري أن المخاطر تطاول النساء الحوامل، وأشدّها خطراً فقدان الجنين حياته، فضلاً عن انعكاس ذلك على الجهاز التنفسي والجهاز الدموي والتناسلي.
البيئة في خطر حقيقي
يقول رئيس جمعية التنمية للإنسان والبيئة الدكتور أحمد الشريدة، لــ”درج”، إن الفوسفور محرّم دولياً بالمعارك الحربية، في كل المواثيق والعهود لخطورته، فهو يحتوي على مواد كيماوية تقتل العمليات الحيوية في التربة وعملية الإخصاب المرافق لها، كما تقتل الناتج الحيوي للتربة بما يتضمن من عناصر كيماوية، إذ يتفاعل معها فتصبح التربة فقيرة بالعناصر المعدنية وبشكل خاص العناصر التي تحتاجها النباتات والمحاصيل الحقلية للإنبات، وبالتالي يحوّل هذه المحاصيل والأشجار المثمرة إلى محاصيل محروقة.
يوضح الشريدة أن التربة حتى تتخلص من آثار الفوسفور والغازات السامة والقنابل التي تطلق على المحاصيل الزراعية، تحتاج من 30-40 عاماً، يتم خلالها تطهير التربة منها بإدخال مواد كيماوية ذات خصائص معينة لضمان سلامة الخزان الجوفي. أما بالنسبة الى الغازات الموجودة في الغلاف الجوي، فهي تتطلب نحو 10 سنوات لتطهيرها، لا سيما إذا حصل تفاعل مع الأبخرة والأدخنة الناتجة، وطبعاً يتم ذلك كله من خلال تدخل علمي للحد من تأثير الفوسفور الأبيض على جميع مكونات النظام البيئي.
يتابع الشريدة قائلاً، إن لمادة الفوسفور الأبيض أو القنابل الحارقة، بخاصة “النابالم”، تأثيراً كبيراً على المياه سواء جوفية أو سطحية، إذ يتم التفاعل بين عناصر الفوسفور الأبيض والأدخنة والأبخرة مع كل من الهيدروجين والأكسجين، وبذلك تصبح المياه الجوفية غير صالحة للسقاية أو الشرب أو حتى الزراعة. أما بالنسبة الى مياه البحر، فتصبح حامضية تقتل جميع الكائنات البحرية، وبخاصة الأسماك والطحالب.
هذا التأثير يصل الى الحيوانات من الطيور والأسماك بفعل الأدخنة والأبخرة، إذ يدخل في السلسلة الغذائية ويعمل على إفسادها، وهذا كله يتراكم في الجسم ويولد الكثير من المشاكل، وعلى رأسها السرطانات.
في ما يخص عمليات التعقيم، يؤكد الشريدة أن المحاصيل الحقلية والمحاصيل الزراعية الملوثة بهذه المواد السامة لا يمكن تعقيمها، ما يعني أن الخضراوات ستكون فاسدة، ولا يجوز نهائياً تناولها نظراً الى احتوائها على عناصر ثقيلة، بخاصة الرصاص الذي يؤدي إلى مشاكل صحيه. أما المياه الملوثة فلا يمكن استخدامها لاحتوائها أيضاً على المواد الثقيلة، بخاصة “TDS”، وهي نسبة المواد الصلبة الكلية والتي ترتفع بنحو 400 في المئة عن المواصفات القياسية العالمية للشرب.
القنابل قد لا تنفجر!
بحسب “واشنطن بوست”، فإن الكثير من القنابل التي يعتقد أنها استُخدمت في غزة، مصمّمة بحيث لا تنفجر عند ملامستها، لكن بها فتيل يسمح لها بالانفجار تحت الأرض أو داخل المباني، وقد يكون من الصعب تحديد موقع مثل هذه الذخائر.
وحذرت الصحيفة من أن “الكثير من الأسلحة التي يقول المحللون إنها استُخدمت في غزة، بما في ذلك الفوسفور الأبيض، يمكن أن تتسرب إلى إمدادات المياه”.
ويبقى السؤال هنا، هل ستتحمل إسرائيل تبعات كل هذه الانتهاكات للحقوق والمعاهدات الدولية؟ وهل ستخضع لتحقيق دولي حقيقي كما طالبت الدول والمنظمات الحقوقية والأممية؟ ومن سيحيي غزة بعدما لحقها من دمار كارثي؟.
إقرأوا أيضاً: