مرة جديدة لبنان أمام محنة إنسانية تكشف هشاشة استعداداتنا في التعاطي مع الكوارث، ففي ظل غياب خطة طوارئ حكومية واضحة، تطوع الناشطون والناشطات لتقديم المساعدة التي يحتاجها النازحون/ات على رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة وانتفاء المقومات الأساسية لتأمين الاحتياجات الضرورية لمئات آلاف النازحين/ات.
أبعد من فتح أبواب بعض المدارس كمراكز إيواء، شهدنا غياباً واضحاً لخطةاستجابة منظمة، علماً أن الأشهر الماضية كانت تعج بأخبار اجتماعات واستعدادات وتصريحات عن خطة طوارئ لحالة الحرب المقبلة لا محالة.
هكذا وكما في كل مرة، تُرك الناس لمصائرهم، وتحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى أدوات لنشر المعلومات حول الدعم المتاح. قلة الحيلة وضعف الإمكانات المنظمة، دفعت بالكثير من الأصدقاء والصديقات إلى تداول معلومات حول خدمات متوافرة، ومشاركة عناوين وأرقام هواتف لشقق سكنية متاحة كمراكز إيواء، كما انتشرت نداءات لجمع الأموال والتبرع بمساعدات عينية للأسر النازحة. ربما ارتأى البعض أنها أفضل وسيلة للمساهمة، لكنها كانت أيضا فرصة سانحة للمتصيدين والسماسرة وتجار الحرب، للانقضاض على ناس أنهكتهم الصدمة فهربوا من بيوتهم من دون أي مقومات للحياة.
على رغم أهمية الاستجابة العفوية والحاجة الملحة لسد فراغ الحضور الرسمي، كجهة مفترض بها أن تكون ضامنة لأمن خطة الطوارئ وسلامتها، إلا أننا وفي كل مرة نشهد انجرافاً غير مدروس، قد يشكّل بحد ذاته خطراً إضافياً على سلامة النازحين وأمنهم لا سيما الأطفال والنساء.
منذ اللحظة الأولى لحركة النزوح الجماعية، انتشرت دعوات لمساعدة عائلات عالقة في منتصف الطريق وفي مناطق غير مأهولة، كما شهدنا تداولاً لتفاصيل دقيقة عن العائلات التي تحتاج مأوى. فهذه عائلة مع 7 أطفال، وهذه مجموعة من نساء مع أطفالهن، وهذه أم تلد، وهناك عائلة مع طفل حديث الولادة. كما جرى التداول بصور لأطفال وطفلات غير مصاحبين/ات. كلها تفاصيل قد تحث على المساعدة، ولكنها أيضاً قد تستجلب شبكات الاتجار والمستغلين، كونها شبكات نائمة تنشط خلال الأزمات والحروب، وتتعامل مع هذه المعلومات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي كإحداثيات، وهذا ما حصل، انتشرت أخبار وإشاعات عن عصابات خطف، لم يتم التأكد منها بعد، لكن سبق للبنان أن شهد هكذا نوع من تجارة الحروب.
وكأننا لم نتعلم مما حصل ويحصل في غزة ومن قبلها في تركيا على أثر الزلزال المدمر، ولم نتعلم من كارثة 4 آب/ أغسطس في لبنان وكل الكوارث التي مرت علينا، ومن المؤكد أننا لم نتعلم من تاريخنا خلال الحرب اللبنانية التي نتج عنها عنف منظم ضد الأطفال والنساء، كما أننا لم نتعلم من كل ما وثقناه عن الإتجار بالأطفال والطفلات لأغراض التبني الدولي خلال الحرب اللبنانية، حيث كانت شبكات الإتجار تتحرك لرصد عائلات وأمهات في ظروف صعبة، لكي تخطف الأطفال إما عنوة وإما عبر إغراءات لضمان مستقبل أفضل لهم.
وبعيداً عن الإتجار، هناك استحالة للتأكد من مصداقية المعلومات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى نشر معلومات غير دقيقة، بحيث لا تصل المساعدة إلى من هم/ن في أمسّ الحاجة إليها، وهذا يزيد من تعميق الأزمة ويترك الفئات الأكثر ضعفاً بدون دعم. كما أن مشاركة تفاصيل شخصية مثل أرقام الهواتف والعناوين من دون حماية، يُعرض الأفراد لسرقة الهوية والاستغلال.
مجدداً تبرز الحاجة إلى خطة استجابة طارئة منسقة تضمن حماية الأطفال/ات والنساء أولاً، حيث أن هذه الفئة هي الأكثر تعرضاً للمخاطر أثناء الحروب وحالات النزوح.
وفي حال توقفت الحرب اليوم، فإن النزوح قد يستمر لفترات طويلة نتيجة التدمير الممنهج للمساكن في الجنوب والبقاع، ولهذا هناك حاجة ملحة لإنشاء منصة مركزية وآمنة لتبادل المعلومات الموثوقة، مع وضع بروتوكولات صارمة للتحقق من العناوين والمعلومات، علاوة على ضمان حفظ سرية المعلومات حول أسماء النازحين والنازحات.
معالم خطط الطوارئ الآمنة معروفة، ولكن المعروف أيضاً أن لا ثقة بالجهات الحكومية، لأن الفساد ما زال قائماً، ولقد علمتنا التجارب أن الجهات الدولية والمنظمات الدولية لها أجندات وبالتالي لا حول ولا قوة…
النوايا الحسنة جيدة لكنها محفوفة بالمخاطر، حيث تصبح النساء والأطفال هدفاً سهلاً للمتاجرين بالبشر والمستغلين، لذلك علينا أن نمتنع عن زيادة الضرر عبر الانجراف للقيام بشيء ما، من دون أن نراعي بأن هناك دائما من يتربص بالأكثر ضعفاً، ولنتذكر أن مخاطر مشاركة المعلومات غير الموثوقة أو الحساسة، هي إحداثيات تحرك شبكات الإتجار، وأن لا شيء يبرر لنا أن نصبح شركاء بجريمة إضافية، ولو كانت نوايانا حسنة.
إقرأوا أيضاً: