من مقر عمله الخاص في دبي، يحصي سعد الحريري آثار مقاطعة تياره الانتخابات النيابية المقبلة.
الشعور بالقوة وبحاجة حلفائه وخصومه المفترضين إليه، يبعث على الأرجح في نفسه شيئاً من الغبطة التي غالباً ما افتقد أسبابها الراهنة في ماضيه السلطوي.
ولحظة عزوفه عن هذه الانتخابات، وشت حال الحريري، وإذا ما سلَّمنا أن مراجعة سياسية لواقعه السياسي هي التي أملت عليه هذا العزوف، بإننا أمام رجل استثمر فيه خصومه كما حلفاؤه، ولحظة العزوف المتأخر ستتيح له الانتقام من وهنه السياسي كما من الخصوم والحلفاء.
لكن مترتبات العزوف، تُفضي إلى أمر شديد الغرابة. فسعد الحريري يبدو حالياً كمن ينتقم من الحلفاء لا من الخصوم إذا ما أحلنا عزوفه على النتائج المفترضة لهذه الانتخابات كما تشي استطلاعات الرأي. وهو ما يطرح سؤالاً جوهرياً عن مآل كهذا، لا شك في أن سعد الحريري يعرفه جيداً.
لماذا فعلها الحريري إذاً؟
الإجابة على الأرجح يملكها سعد الحريري، وهو ما يفترض بحثاً يُفضي إلى استخراج ما يضمره رجل يذهب إلى نقمته على حلفائه والعاصين من أهل بيته بهذه العزيمة.
كان سعد الحريري سلطوياً ضعيفاً بقدر ما كان مهادناً أمام إهانات ووقائع كثيرة تنكبها من الخصوم. لكن ضعفه ومهادنته لم تنسحبا على اقترافات وقعت عليه من الحلفاء على ما يعتقد، وأغلب الظن أن ليلة العاصمة السعودية عام 2011 تشي بالكثير.
هنا تماماً تستدرجنا نفس سعد الحريري إلى مكاشفة بين أذيتين وقعتا عليها، الأولى نفسية، والثانية نفسية وجسدية في آن.
في السابع من أيار/ مايو 2008 اجتاح “حزب الله” بيروت بمساعدة حلفائه إيذاناً بمباشرة قهرية على سعد الحريري من خصوم، لم يلبث الأخير أن ابتلع نتائجها. ثم جاءت استقالة 11 وزيراً من حكومته عام 2011، وهو يهم بدخول البيت الأبيض، بوصفها فعلاً قهرياً آخر افضى إلى استقالة قسرية لحكومته. وبين الحدثين وبعدهما خضع الحريري للكثير من المشقات النفسية، تصدرها غالباً رئيس “التيار الوطني الحر” ووزراؤه ونوابه، وشتات من الممانعين. لكن مشقات نفسية كهذه تداخل فيها السياسي بالشخصي، ظلَّ سياقها يغرف من الذم والتحقير، وظلَّ ضعف الحريري قادراً على تسييلها في نفسه مكرهاً على الأرجح، وبدافع شهوة السلطة.
قيل الكثير عما حصل مع سعد الحريري في المملكة العربية السعودية بين ليل الجمعة وصباح السبت في الثالث والرابع من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. وقائع اليومين المذكورين كانت أقسى ما عاشه الحريري نفسياً، وكانت حال الرجل وهو يتلو استقالته في السادس من الشهر ذاته، تشي بما هو أبعد من الوضع النفسي. جسد الحريري على الأرجح كان أيضاً مسقطاً آخر لأذى وقع عليه بين جدران احتجازه في المملكة.
وفي عقل الحريري على ما احتملته الوقائع اللاحقة للاعتقال، كان رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع حاضراً في المشهد. الأخير كان مُحرِّضاً على الحريري على ما افترض الأخير. لكن ما كان افتراضياً يبدو راهناً كما لو انه مُسلّمة حريرية، تماماً كما تشي معاقبة سمير جعجع انتخابياً ولو لمصلحة الخصوم، بأن فرضية مشقة جسد الحريري في الرياض هي مُسَّلمة أخرى.
بين المشقتين المذكورتين، يبدو سعد الحريري راهناً ضنيناً بنفسٍ تدَاول على قهرها الخصوم والحلفاء، لكنه غير ضنين بجسد خضع لمشقة ليل الرياض الطويل.
على مسافة أقل من أسبوعين من الانتخابات النيابية، يعتقد سعد الحريري انه يصنع من ضعفه قوة تجاه الحلفاء والخصوم. وأغلب الظن أنه سيستثمر في مآل هذه الانتخابات بالرهان على المقاطعة السنية المفترضة، كما في النتائج.
سيقرأ الحريري في ارتفاع منسوب هذه المقاطعة كما لو أنه في رصيده، وكمُعطى لتسييله سياسياً بعد الانتخابات، ومع خصومه المفترضين تحديداً. وهذا مآل غير دقيق بالضرورة عند جمهور سني يقيم في إحباط هو صنيعة سعد الحريري قبل غيره، والعودة إلى الانتخابات الأخيرة عام 2018، والتي كان هو في صلبها، تبدو كمؤشر لمباشرة هذا الإحباط.
إقرأوا أيضاً: