fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الحسيمة..صوت ريف المغرب المنسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

“طحّن مو” كانت الصيحة التي أطلقها المتظاهرون في مدينة الحُسيمة شمال شرق المغرب، بعد مقتل بائع السمك محسن فكري في خريف عام 2016 بين أنياب مكابس سيارة نفايات وهو يحاول إنقاذ شحنة أسماك. وقال شهود إن ضابط شرطة أمر سائق شاحنة النفايات بتشغيل مفرمة عربته بينما كان فكري داخلها يُحاول إنقاذ الأسماك التي صادرتها سُلطات ميناء الحُسيمة بدعوى أنها من نوع مُحرم صيده في هذا الوقت من العام. وقال شهود آخرون أن الأسماك صودرت لأن فكري رفض دفع رشوة لأحد المسؤولين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“طحّن مو” كانت الصيحة التي أطلقها المتظاهرون في مدينة الحُسيمة شمال شرق المغرب، بعد مقتل بائع السمك محسن فكري في خريف عام 2016 بين أنياب مكابس سيارة نفايات وهو يحاول إنقاذ شحنة أسماك. وقال شهود إن ضابط شرطة أمر سائق شاحنة النفايات بتشغيل مفرمة عربته بينما كان فكري داخلها يُحاول إنقاذ الأسماك التي صادرتها سُلطات ميناء الحُسيمة بدعوى أنها من نوع مُحرم صيده في هذا الوقت من العام. وقال شهود آخرون أن الأسماك صودرت لأن فكري رفض دفع رشوة لأحد المسؤولين.
تسببت تلك الحادثة في إشعال نيران الاحتجاجات في مدينة الحُسيمة وإيقاظ جذوة الغضب في باقي مدن الريف – وهي المنطقة الواقعة شمال المغرب وتضُم الحُسيمة والناظور وبركان، ويتحدث أهلها اللغة الريفية وهي إحدى اللغات المشتقة من الأمازيغية بجانب الدارجة المغربية واللغة العربية.  
وبعد عام من مقتل فكري لم يكن من الصعب أن تندلع انتفاضة جديدة إذ لطالما عاني أهالي هذه المنطقة من أوضاع معيشية قاسية وقد استبقت السلطات المغربية تنظيم مظاهرات بالإعلان عن منعها بعد أن تم توجيه دعوات عبر الانترنت للتجمع. هذا فيما تعبر عائلة فكري عن خيبتها لأن التحقيق في مقتل فكري لم يكن شفافاً ونزيها بحسب تصريحات نقلتها الصحافة..
لكن الانتفاضة التي أطلقتها حادثة مقتل فكري لها صداها في تاريخ المنطقة..
“عاش الشعب عاش عاش .. الريافة ماشي أوباش”
بهذا الهتاف خرج المتظاهرون عقب مقتل فكري في شوارع مدن منطقة الريف، مسترجعين مسيراتهم منذ أكثر من ثلاثين عاما احتجاجا على خطاب الملك الراحل الحسن الثاني عام 1984 عقب انتفاضة الخبز التي أدت لمصرع ٤٠٠ شخص. وصف العاهل المغربي آنذاك المحتجين على ارتفاع أسعار سلع وخدمات أساسية قائلا: “وصلنا لهادا الحد بواسطة إما الأطفال أو الأوباش، الأوباش في الناظور، الحسيمة، تطوان، القصر الكبير، الأوباش العاطلين اللي عايشين بالتهريب والسرقة”. عدد الملك مناطق ريفية مما ترك أثراً سيئاً في نفوس أجيال متعاقبة كانت قد توارثت من أسلافها شعورا بالضغينة بسبب قمع انتفاضاتهم المتوالية بالرصاص والقصف الجوي بل وأسلحة كيماوية عندما قصفت قوات الاحتلال الاسباني المنطقة في عام ١٩٢٤ بغاز الخردل لإخماد انتفاضة قادها الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ولم يكن قمع المنطقة أقل حدة بعد الاستقلال وخاصة في انتفاضة ١٩٥٨ ثم عانت المنطقة من أهمال شديد في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي لم يقُم بزيارة المنطقة طوال حكمه.
أوضاع معيشية صعبة
عانت منطقة الريف من اضطهاد وتراجع في الأوضاع المعيشية والخدمات وهو ما يُرجعه بعض الناشطين في حراك الريف إلى خصوصيتها الثقافية والجغرافية والتاريخية حيث أنها كانت محتلة من قبل اسبانيا بينما كانت العاصمة وباقي المناطق في المملكة تحت احتلال فرنسي. وبينما قرر أهالي الريف الاحتجاج على التهميش والاحتلال فضلت بقية مناطق المغرب السياسة والانتظار. ولعل أكثر ما يقرب بين أهل الريف هو الهوية الامازيغية وخبرة التهميش والإفقار المشتركة. ويرفرف علم الأمازيغ وعلم جمهورية الريف القديمة أحيانا في التظاهرات في الريف.
ويضرب الناشطون الريفيون المثل بانتشار الأمراض السرطانية بنسب تفوق مرات عديدة باقي مناطق المملكة دليلا على التهميش الكبير للمنطقة. وتُقدر نسبة المُصابين بمرض السرطان في منطقة الريف بحوالي 80% من اجمالي المصابين بهذه الأورام الخبيثة في كل أنحاء المملكة وهو ما أرجعه بعض المتخصصين والباحثين إلى الغازات السامة التي ألقتها طائرات الاحتلال الإسباني في عشرينات القرن الماضي وترسبت في التربة إضافة الى إهمال معالجة هذه الآثار لعقود طويلة. ولا يوجد مستشفى متخصص في أمراض السرطان في منطقة الريف مما يضطر المرضى وذويهم إلى السفر إلى العاصمة. وترتفع نسبة البطالة في الريف بمقدار الضعف عن المعدل العام (19%  مقابل النسبة العامة في المملكة والتي تبلغ قرابة 9.2%). ولا توجد أية جامعات لطلاب الريف الذين يضطرون إلى السفر والالتحاق بالجامعات بالمدن الأخرى البعيدة عنهم، بجانب تجارة الكيف “المخدرات” المنتشرة والتي يرى الكثيرين أنها وباء عليهم يضطر الكثيرون للعمل فيها هرباً من البطالة.
مصالحة
عندما تولي الملك محمد السادس مقاليد حكم المملكة المغربية في ١٩٩٩ اتبع نهجاً مختلفاً عن والده داخلياً وخارجياً، وفور توليه شؤون المملكة قام بزيارة منطقة الريف ثم توالت زياراته للحُسيمة وتطوان كل عام، وهو ما اعتبره الريافة مُصالحة معهم بعد عقود من القطيعة. ولكن المنطقة لم تتلق مساعدات وإهتمام يذكر حتى عام ٢٠٠٤ عندما وقع زلزال مدمر فيها. وتوقع أهل الريف أن يتبع تلك المُصالحة تحسناً في أوضاعهم المعيشية وخاصة بعد حراك 20 فبراير 2011 ووعود ملكية بتغيير كبير في شؤون البلاد. وزاد أمل السكان بعد زيارة ملكية في شهر أكتوبر عام 2015 أُعلن خلالها عن مشروع ضخم لتطوير المنطقة وفك العُزلة عنها تحت مسمى “الحُسيمة – منارة المتوسط” ورُصد له 6.5 مليار درهم، نحو 685 مليون دولار تقريباً. وضم المشروع غرس 8700 هكتار بالأشجار المثمرة وتطوير البنية التحتية للإقليم من طرق وفضاءات عمومية وفضاءات خضراء ومنطقة الساحل، وبناء مستشفى إقليمي وتجهيز مركز لعلاج السرطان وخمسة مراكز صحية، وبناء مؤسسات تعليمية وملعب كبير لكرة القدم، ومسبح أولمبي، وعدة قاعات مغطاة وملاعب رياضية لفرق الهواة، وبناء مسرح ومعهد موسيقي ودار للثقافة. وأبتهج سكان المنطقة بهذه الخطط إلا أن الكثير لم يتحقق بعد من هذه المشاريع المُقرر إكتمالها عام 2019.
لا للحكرة
فضح مقتل فكري بائع السمك الكثير من الأوضاع التي تعيشها منطقة الريف وخاصة إقليم الحُسيمة، فخرج المتظاهرون يهتفون “لا للحكرة” (الاحتقار) حيث كان مصرع فكري كاشفا لمنظومة كبيرة من الفساد والظلم وخاصة في ملف صيد الأسماك. وقال أحد النشطاء من الريف إن الأمور في هذا الملف بالغة الفساد حيث يسمح المسؤولون بصيد بعض الأسماك المحظور صيدها في أوقات معينة مقابل رشاوي يدفعها الصيادون والبائعون، بجانب احتكار رُخص الصيد في أعالي البحار لبعض الكبراء والمتنفذين في الدولة وخاصة كبار العسكريين.

الموت ولا المذلة
استمرت المظاهرات والاحتجاجات داخل مدينة الحُسيمة وما حولها عدة أشهر. وعبر أهل الريف عن غضبهم بطرق سلمية مختلفة شملت العصيان المدني والاضراب العام والطرق على الأواني ليلا ومسيرات الشموع الصامتة. وقام وفد حكومي بزيارة المنطقة لتهدئة الأوضاع وإطلاق بعض المشاريع، إلا أن قيادات حراك الريف رفضوا زيارتهم بدعوى إنها شكلية وغير مجدية، وهو ما استتبعه قرار حكومي بمنع المظاهرات والمسيرات الكبرى التي كان قد أعلن عنها ليبدأ فصل جديد من المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.
وقال مقربون لملف الريف في المغرب إن اللجوء لمقاربة أمنية شديدة جاء عقب تقرير قُدم للجهات العُليا في الدولة يُفيد بتزعم بعض دُعاة الانفصال عن المغرب لتلك الاحتجاجات، وهو ما ينفيه قيادات حراك الريف والناشطين فيه. ولعل التاريخ يخيم ببعض ظلاله على تلك المخاوف حيث أعلن الزعيم عبد الكريم الخطابي جمهورية مستقلة في الريف منذ نحو القرن عام 1921 وضمت تلك الجمهورية التي عاشت خمس سنوات إقليم الحُسيمة والناظور وبركان. ولكن قادة التجمعات السياسية في الريف منذ عقود يؤكدون أن حراكهم أصبح منذ زمن طويل يركز على مطالب اقتصادية واجتماعية وخدمية مشروعة وليس من أجل الانفصال عن المملكة.
ومع موجة الاعتقالات في الريف لمع اسم الزعيم الريفي ناصر الزفزافي الذي كان من بين أشهر قيادات الحراك منذ بدايته. والزفزافي زعيم مفوه يتحدث امازيغية الريف بطلاقة وكذا الدارجة المغربية والعربية الفصحي، ويمزج الزفزافي مكونات هوية ريفية بين الإسلام والعلمانية والامازيغية والعربية، مركزا أكثر في خطبه العلنية على الحاجة للتنمية ومكافحة الفقر والفساد والبطالة. وقبض على الزفزافي وبعض المتظاهرين  بتهمة المساس بأمن البلاد بعد أن قام بمقاطعة خطيب الجمعة أثناء الخطبة داخل مسجد بالحسيمة معترضا على استخدام الدولة للدين في قمع الاحتجاج السياسي. وحُكم على بعض المعتقلين بأحكام متفاوتة بلغ أحدها السجن 20 عاماً، إلا أن الزفزافي لا يزال يخضع للمحاكمة ولم يتم الحكم عليه حتى الآن وربما بسبب مكانته المهمة في حراك الريف.
الحُسيمة تُطيح بالوزراء
وفي نهاية شهر يونيو الماضي طالب العاهل المغربي المجلس الأعلى للحسابات بالتحقيق فيما تم إنجازه من مشاريع قام بالإعلان عنها في زيارته للشمال عام 2015. وأوضح التقرير المرفوع للملك أنه من بين 644 مشروعاً تم الإعلان عنهم لم يُنفذ سوى خمسة مشاريع حتى نهاية عام 2016. وإثر هذه الفضيحة أُقيل أربعة وزراء من الحكومة بسبب فشلهم في انجاز تلك المشاريع. وبالرغم من استحسان كثير من أهل الريف لتلك القرارات إلا أنهم أعربوا عن أملهم في الاقدام على قرارات أخرى مثل العفو عن النشطاء المحكوم عليهم والذين هم تحت التحقيق وتوجيه موارد الدولة للنهوض بالمنطقة اقتصادياً واجتماعيا.
على عكس حراك ٢٠ فبراير ٢٠١١ الذي انتهى في المغرب إلى بعض الإصلاحات الدستورية ثم توارى وذاب فإن حراك الريف المغربي يبدو أكثر مرونة ووضوحا في مطالبه وتوجهه مباشرة الى مركز السياسة في المغرب أي القصر والمخزن بدلا من الدخول في أي تحالفات مع أحزاب سياسية. والخشية أن يؤدي تصلب الدولة في مواجهة هذا الحراك المستمر منذ عقود أاشكال مختلفة الى زيادة راديكاليته وإلى أن تظهر حقا دعوات انفصالية لمنطقة الريف فتتسبب الدولة هكذا بسياساتها في خلق ما تخشى من وجوده.
 
[video_player link=””][/video_player]

جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025

النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانيّة مجرّد صراع أهلي تمّ تجاوزه، بل أساس للنظام الذي تلاها، وبدل أن تكون لحظة تأسيس لذاكرة وطنية، أصبحت لحظة إنتاج لسياسة النسيان. كلّ ما يُذكّر بالحرب من محاكمات إلى مناهج دراسية، إلى أرشيفات، اعتُبر تهديداً يجب إسقاطه.
"درج"
لبنان
16.11.2017
زمن القراءة: 6 minutes

“طحّن مو” كانت الصيحة التي أطلقها المتظاهرون في مدينة الحُسيمة شمال شرق المغرب، بعد مقتل بائع السمك محسن فكري في خريف عام 2016 بين أنياب مكابس سيارة نفايات وهو يحاول إنقاذ شحنة أسماك. وقال شهود إن ضابط شرطة أمر سائق شاحنة النفايات بتشغيل مفرمة عربته بينما كان فكري داخلها يُحاول إنقاذ الأسماك التي صادرتها سُلطات ميناء الحُسيمة بدعوى أنها من نوع مُحرم صيده في هذا الوقت من العام. وقال شهود آخرون أن الأسماك صودرت لأن فكري رفض دفع رشوة لأحد المسؤولين.

“طحّن مو” كانت الصيحة التي أطلقها المتظاهرون في مدينة الحُسيمة شمال شرق المغرب، بعد مقتل بائع السمك محسن فكري في خريف عام 2016 بين أنياب مكابس سيارة نفايات وهو يحاول إنقاذ شحنة أسماك. وقال شهود إن ضابط شرطة أمر سائق شاحنة النفايات بتشغيل مفرمة عربته بينما كان فكري داخلها يُحاول إنقاذ الأسماك التي صادرتها سُلطات ميناء الحُسيمة بدعوى أنها من نوع مُحرم صيده في هذا الوقت من العام. وقال شهود آخرون أن الأسماك صودرت لأن فكري رفض دفع رشوة لأحد المسؤولين.
تسببت تلك الحادثة في إشعال نيران الاحتجاجات في مدينة الحُسيمة وإيقاظ جذوة الغضب في باقي مدن الريف – وهي المنطقة الواقعة شمال المغرب وتضُم الحُسيمة والناظور وبركان، ويتحدث أهلها اللغة الريفية وهي إحدى اللغات المشتقة من الأمازيغية بجانب الدارجة المغربية واللغة العربية.  
وبعد عام من مقتل فكري لم يكن من الصعب أن تندلع انتفاضة جديدة إذ لطالما عاني أهالي هذه المنطقة من أوضاع معيشية قاسية وقد استبقت السلطات المغربية تنظيم مظاهرات بالإعلان عن منعها بعد أن تم توجيه دعوات عبر الانترنت للتجمع. هذا فيما تعبر عائلة فكري عن خيبتها لأن التحقيق في مقتل فكري لم يكن شفافاً ونزيها بحسب تصريحات نقلتها الصحافة..
لكن الانتفاضة التي أطلقتها حادثة مقتل فكري لها صداها في تاريخ المنطقة..
“عاش الشعب عاش عاش .. الريافة ماشي أوباش”
بهذا الهتاف خرج المتظاهرون عقب مقتل فكري في شوارع مدن منطقة الريف، مسترجعين مسيراتهم منذ أكثر من ثلاثين عاما احتجاجا على خطاب الملك الراحل الحسن الثاني عام 1984 عقب انتفاضة الخبز التي أدت لمصرع ٤٠٠ شخص. وصف العاهل المغربي آنذاك المحتجين على ارتفاع أسعار سلع وخدمات أساسية قائلا: “وصلنا لهادا الحد بواسطة إما الأطفال أو الأوباش، الأوباش في الناظور، الحسيمة، تطوان، القصر الكبير، الأوباش العاطلين اللي عايشين بالتهريب والسرقة”. عدد الملك مناطق ريفية مما ترك أثراً سيئاً في نفوس أجيال متعاقبة كانت قد توارثت من أسلافها شعورا بالضغينة بسبب قمع انتفاضاتهم المتوالية بالرصاص والقصف الجوي بل وأسلحة كيماوية عندما قصفت قوات الاحتلال الاسباني المنطقة في عام ١٩٢٤ بغاز الخردل لإخماد انتفاضة قادها الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ولم يكن قمع المنطقة أقل حدة بعد الاستقلال وخاصة في انتفاضة ١٩٥٨ ثم عانت المنطقة من أهمال شديد في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي لم يقُم بزيارة المنطقة طوال حكمه.
أوضاع معيشية صعبة
عانت منطقة الريف من اضطهاد وتراجع في الأوضاع المعيشية والخدمات وهو ما يُرجعه بعض الناشطين في حراك الريف إلى خصوصيتها الثقافية والجغرافية والتاريخية حيث أنها كانت محتلة من قبل اسبانيا بينما كانت العاصمة وباقي المناطق في المملكة تحت احتلال فرنسي. وبينما قرر أهالي الريف الاحتجاج على التهميش والاحتلال فضلت بقية مناطق المغرب السياسة والانتظار. ولعل أكثر ما يقرب بين أهل الريف هو الهوية الامازيغية وخبرة التهميش والإفقار المشتركة. ويرفرف علم الأمازيغ وعلم جمهورية الريف القديمة أحيانا في التظاهرات في الريف.
ويضرب الناشطون الريفيون المثل بانتشار الأمراض السرطانية بنسب تفوق مرات عديدة باقي مناطق المملكة دليلا على التهميش الكبير للمنطقة. وتُقدر نسبة المُصابين بمرض السرطان في منطقة الريف بحوالي 80% من اجمالي المصابين بهذه الأورام الخبيثة في كل أنحاء المملكة وهو ما أرجعه بعض المتخصصين والباحثين إلى الغازات السامة التي ألقتها طائرات الاحتلال الإسباني في عشرينات القرن الماضي وترسبت في التربة إضافة الى إهمال معالجة هذه الآثار لعقود طويلة. ولا يوجد مستشفى متخصص في أمراض السرطان في منطقة الريف مما يضطر المرضى وذويهم إلى السفر إلى العاصمة. وترتفع نسبة البطالة في الريف بمقدار الضعف عن المعدل العام (19%  مقابل النسبة العامة في المملكة والتي تبلغ قرابة 9.2%). ولا توجد أية جامعات لطلاب الريف الذين يضطرون إلى السفر والالتحاق بالجامعات بالمدن الأخرى البعيدة عنهم، بجانب تجارة الكيف “المخدرات” المنتشرة والتي يرى الكثيرين أنها وباء عليهم يضطر الكثيرون للعمل فيها هرباً من البطالة.
مصالحة
عندما تولي الملك محمد السادس مقاليد حكم المملكة المغربية في ١٩٩٩ اتبع نهجاً مختلفاً عن والده داخلياً وخارجياً، وفور توليه شؤون المملكة قام بزيارة منطقة الريف ثم توالت زياراته للحُسيمة وتطوان كل عام، وهو ما اعتبره الريافة مُصالحة معهم بعد عقود من القطيعة. ولكن المنطقة لم تتلق مساعدات وإهتمام يذكر حتى عام ٢٠٠٤ عندما وقع زلزال مدمر فيها. وتوقع أهل الريف أن يتبع تلك المُصالحة تحسناً في أوضاعهم المعيشية وخاصة بعد حراك 20 فبراير 2011 ووعود ملكية بتغيير كبير في شؤون البلاد. وزاد أمل السكان بعد زيارة ملكية في شهر أكتوبر عام 2015 أُعلن خلالها عن مشروع ضخم لتطوير المنطقة وفك العُزلة عنها تحت مسمى “الحُسيمة – منارة المتوسط” ورُصد له 6.5 مليار درهم، نحو 685 مليون دولار تقريباً. وضم المشروع غرس 8700 هكتار بالأشجار المثمرة وتطوير البنية التحتية للإقليم من طرق وفضاءات عمومية وفضاءات خضراء ومنطقة الساحل، وبناء مستشفى إقليمي وتجهيز مركز لعلاج السرطان وخمسة مراكز صحية، وبناء مؤسسات تعليمية وملعب كبير لكرة القدم، ومسبح أولمبي، وعدة قاعات مغطاة وملاعب رياضية لفرق الهواة، وبناء مسرح ومعهد موسيقي ودار للثقافة. وأبتهج سكان المنطقة بهذه الخطط إلا أن الكثير لم يتحقق بعد من هذه المشاريع المُقرر إكتمالها عام 2019.
لا للحكرة
فضح مقتل فكري بائع السمك الكثير من الأوضاع التي تعيشها منطقة الريف وخاصة إقليم الحُسيمة، فخرج المتظاهرون يهتفون “لا للحكرة” (الاحتقار) حيث كان مصرع فكري كاشفا لمنظومة كبيرة من الفساد والظلم وخاصة في ملف صيد الأسماك. وقال أحد النشطاء من الريف إن الأمور في هذا الملف بالغة الفساد حيث يسمح المسؤولون بصيد بعض الأسماك المحظور صيدها في أوقات معينة مقابل رشاوي يدفعها الصيادون والبائعون، بجانب احتكار رُخص الصيد في أعالي البحار لبعض الكبراء والمتنفذين في الدولة وخاصة كبار العسكريين.

الموت ولا المذلة
استمرت المظاهرات والاحتجاجات داخل مدينة الحُسيمة وما حولها عدة أشهر. وعبر أهل الريف عن غضبهم بطرق سلمية مختلفة شملت العصيان المدني والاضراب العام والطرق على الأواني ليلا ومسيرات الشموع الصامتة. وقام وفد حكومي بزيارة المنطقة لتهدئة الأوضاع وإطلاق بعض المشاريع، إلا أن قيادات حراك الريف رفضوا زيارتهم بدعوى إنها شكلية وغير مجدية، وهو ما استتبعه قرار حكومي بمنع المظاهرات والمسيرات الكبرى التي كان قد أعلن عنها ليبدأ فصل جديد من المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.
وقال مقربون لملف الريف في المغرب إن اللجوء لمقاربة أمنية شديدة جاء عقب تقرير قُدم للجهات العُليا في الدولة يُفيد بتزعم بعض دُعاة الانفصال عن المغرب لتلك الاحتجاجات، وهو ما ينفيه قيادات حراك الريف والناشطين فيه. ولعل التاريخ يخيم ببعض ظلاله على تلك المخاوف حيث أعلن الزعيم عبد الكريم الخطابي جمهورية مستقلة في الريف منذ نحو القرن عام 1921 وضمت تلك الجمهورية التي عاشت خمس سنوات إقليم الحُسيمة والناظور وبركان. ولكن قادة التجمعات السياسية في الريف منذ عقود يؤكدون أن حراكهم أصبح منذ زمن طويل يركز على مطالب اقتصادية واجتماعية وخدمية مشروعة وليس من أجل الانفصال عن المملكة.
ومع موجة الاعتقالات في الريف لمع اسم الزعيم الريفي ناصر الزفزافي الذي كان من بين أشهر قيادات الحراك منذ بدايته. والزفزافي زعيم مفوه يتحدث امازيغية الريف بطلاقة وكذا الدارجة المغربية والعربية الفصحي، ويمزج الزفزافي مكونات هوية ريفية بين الإسلام والعلمانية والامازيغية والعربية، مركزا أكثر في خطبه العلنية على الحاجة للتنمية ومكافحة الفقر والفساد والبطالة. وقبض على الزفزافي وبعض المتظاهرين  بتهمة المساس بأمن البلاد بعد أن قام بمقاطعة خطيب الجمعة أثناء الخطبة داخل مسجد بالحسيمة معترضا على استخدام الدولة للدين في قمع الاحتجاج السياسي. وحُكم على بعض المعتقلين بأحكام متفاوتة بلغ أحدها السجن 20 عاماً، إلا أن الزفزافي لا يزال يخضع للمحاكمة ولم يتم الحكم عليه حتى الآن وربما بسبب مكانته المهمة في حراك الريف.
الحُسيمة تُطيح بالوزراء
وفي نهاية شهر يونيو الماضي طالب العاهل المغربي المجلس الأعلى للحسابات بالتحقيق فيما تم إنجازه من مشاريع قام بالإعلان عنها في زيارته للشمال عام 2015. وأوضح التقرير المرفوع للملك أنه من بين 644 مشروعاً تم الإعلان عنهم لم يُنفذ سوى خمسة مشاريع حتى نهاية عام 2016. وإثر هذه الفضيحة أُقيل أربعة وزراء من الحكومة بسبب فشلهم في انجاز تلك المشاريع. وبالرغم من استحسان كثير من أهل الريف لتلك القرارات إلا أنهم أعربوا عن أملهم في الاقدام على قرارات أخرى مثل العفو عن النشطاء المحكوم عليهم والذين هم تحت التحقيق وتوجيه موارد الدولة للنهوض بالمنطقة اقتصادياً واجتماعيا.
على عكس حراك ٢٠ فبراير ٢٠١١ الذي انتهى في المغرب إلى بعض الإصلاحات الدستورية ثم توارى وذاب فإن حراك الريف المغربي يبدو أكثر مرونة ووضوحا في مطالبه وتوجهه مباشرة الى مركز السياسة في المغرب أي القصر والمخزن بدلا من الدخول في أي تحالفات مع أحزاب سياسية. والخشية أن يؤدي تصلب الدولة في مواجهة هذا الحراك المستمر منذ عقود أاشكال مختلفة الى زيادة راديكاليته وإلى أن تظهر حقا دعوات انفصالية لمنطقة الريف فتتسبب الدولة هكذا بسياساتها في خلق ما تخشى من وجوده.
 
[video_player link=””][/video_player]

"درج"
لبنان
16.11.2017
زمن القراءة: 6 minutes
|
آخر القصص
المُعتقَل في الدراما التلفزيونية السورية… حساسية الجرح المفتوح
علاء الدين العالم - كاتب ومسرحي فلسطيني سوري | 12.04.2025
النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025
من سهول دونباس في أوكرانيا إلى بادية الشام… وثائق حصرية ومصادر مفتوحة تكشف تكثيف روسيا حرب المسيّرات في سماء سوريا 
محمد بسيكي (سراج) عبد القادر ضويحي، كريستسان مامو، أليكسينا كالونكي (osint for ukraine) | 11.04.2025

اشترك بنشرتنا البريدية