يضطر العشريني أحمد مصطفى إلى إخفاء صور جمهور فريقه “الزمالك المصري” وشعاراته من هاتفه، كلما صودف مروره في مكامن أمنية بين شوارع القاهرة، وذلك بعد أيام من إيقاف مجموعة منهم على أطراف العاصمة جراء فحص هواتفهم.
هي واحدة ضمن تدابير احترازية يتبعها أعضاء “رابطة الوايت نايتس”، وهي من فروع “الأولتراس المصرية”، للهروب من الملاحقات الأمنية، فلا يسلم شبابها هذه الأيام من التعقب الأمني في المنازل ومقار العمل والمكامن، لضبط المنتمين إليها.
واعتاد أعضاء الرابطات الرياضية في مصر الابتعاد من منازلهم في أعقاب أحداث شغب داخل المدرجات، أو قبيل حضورهم مباراة مهمة لفرقهم في الألعاب المختلفة.
انضم مصطفى، ذو الـ24 ربيعاً، إلى “الوايت نايتس” منذ 6 سنوات، قضى معظمها في مدرجات “الثالثة يمين”، معقل الفرسان البيض، لمؤزاة فريقه. أما الآن فهم محاصرون من قبل الأجهزة الأمنية، ومحرومون من تشجيع فريقهم في مدرج “بفرمان” بسبب رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور، عدوهم الأكبر.
يقول مصطفى بنبرة حزينة لـ “درج”: “حياتنا كانت متمحورة حول الاستادات (الملاعب الرياضية) ، نرتحل خلف فريقنا في كل مكان، نغني ونحتفل بالأهازيج والشماريخ، أما الآن فالحكومة لا ترحب بوجودنا، وأعضاؤنا مطلوبون في قضايا إثارة الشغب”.
لسنوات طويلة، ظلت كيانات “الأولتراس” بمختلف انتماءاتها تدافع عن رمزية وجودها في سردية مشهد التغيير أمام البطش الأمني، كظاهرة احتفى بها المجتمع المصري لشباب يشجع فريقه بحماسة طوال الـ90 دقيقة، قبل شيطنتهم إعلامياً كمخربين ومثيري للفتن. إلا أن الفترة الأخيرة سجلت أكثر لحظات الحركة انطفاءً منذ تأسيسها عام 2007، أسفرت عن تجميد مجموعة “أولتراس أهلاوي” نشاطها لأجل غير مسمى، واستمرار “الوايت نايتس” في الانزواء تحت تأثير الحصار.
تبدو هذه الأيام غير مألوفة تماماً على حركة بَنت فلسفتها على التمرد والاستقلال عن أي رمزية للسلطة، أكانت في شكل الحكومة أو مجالس إدارات الأندية، فالانتماء الأول للنادي، وهو بالنسبة إليهم وطنهم، ودستوره هو القواعد التي تحكم المدرج، هكذا وجد الشباب المصريون عام 2007 ضالتهم في وطن هو عبارة عن ملعب كرة قدم بوسعهم الصراخ فيه، بعدما أغلق نظام حسني مبارك جميع منافذ التعبير عن الرأي.
هكذا انتشرت “الأولتراس” آتية من الشمال الأفريقي إلى مصر، حتى إعلان تأسيس أول رابطة لجماهير الزمالك تحت اسم “وايت نايتس” أو الفرسان البيض تلاها “أولتراس أهلاوي” لمشجعي الشياطين الحمر.
“المدرج قبل الأولتراس ما هو إلا جماعة من الناس يؤازرون من دون عقيدة ويهتفون من دون تجديد، حتى أضافت الرابطة قواعد تنظيمية منها إنكار الذات وتشجيع الفريق طوال الـ90 دقيقة، وعدم الظهور الإعلامي لكسب الأموال والامتناع عن الاحتكاك بالأمن لأي مصالح شخصية، فتغير معها شكل المدرج تماماً”، كما يقول عضو “أولتراس أهلاوي” مصطفى تاج في حديثه عن التغيير الذي طرأ على شكل الحياة في المدرجات المصرية.
للأولتراس هيكل تنظيمي خاص يفرض النظام على أعضائه داخل المدرج وخارجه، وعلى رأسه 3 قادة يسمَّون “كابوهات”، يحركون المدرج بالهتافات ويتولون الأمور المالية وتنظيم العضوية مع رؤساء “السكاشن”، هؤلاء يتم توزيعهم بحسب الأحياء.
تتبنى حركة “الأولتراس” حول العالم عقيدة ثابتة في التعامل مع رجال الشرطة، وهي أن كل رجال الشرطة أوغاد، All Cops Are Bastards، نتج عنها وقوع خلافات بين المشجعين والشرطة المصرية.
غير أن ممارسات الأمن المستمرة للتضييق على نشاطهم وفرض محاذير على الأدوات واللوحات الفنية التي يصطحبونها معهم، ولدت احتقاناً أجبر أولئك الشباب على تحدي النظام في أغانيهم وزجت بهم في ملعب السياسة.
ولطالما نشبت مناوشات في المدرج بسبب إزالة رجال الأمن “بانر” المجموعة، الذي يعتبر أهم ما تملكه هذه الفئة، وبحسب عقيدة “الأولتراس”، إن غياب البانر عن أحد اللقاءات يعد إهانة في حق المجموعة، بينما تمثل سرقته أو إزالته مشكلة قد تؤدي إلى حلها.
“الدولة حاولت منذ بدايات تأسيس مجموعات الأولتراس، إخضاعها للإجراءات التنظيمية التي تراها السلطة كفيلة بتأكيد سطوتها وخضوع الجميع بلا استثناء لها حتى داخل المدرج، فعقلية السلطة قائمة على السيطرة على مساحات حركة الأفراد والفاعليات المجتمعية فى المجال العام”، وفق ما يفسر الباحث الاجتماعي محمد الجوهري، عبر “درج” رفض الدولة فكرة “الأولتراس” منذ البداية.
ومنذ نشأتها، تحرص مجموعات “الأولتراس” في مصر على تصدير صورة أنها حركة رياضية مخصصة لتشجيع فريقها وليست لها أي اتجاهات سياسة، لكنها فتحت الباب أمام أعضائها لممارسة السياسة بشكل مستقل، وجاء هذا التأكيد قبل تظاهرات 25 يناير لعدم الدخول في صدام مع أجهزة الأمن. إلا أن ميدان التحرير كان شاهداً على بطولات شباب “الأولتراس” في الدفاع عن المعتصمين وتصدرهم الصفوف الأولى في الاشتباكات مع الداخلية حينذاك.
يحكي أحمد شبرا، وهو من قيادات رابطة “الوايت نايتس”، أنهم خدعوا الأمن بإعلانهم عدم المشاركة في مظاهرات ثورة 25 يناير على رغم وجود محادثات مع شباب الحركات الثورية مثل “6 أبريل” و”كفاية” و”كلنا خالد سعيد” وأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، لكنهم فضلوا عدم المشاركة باسم الكيان اتساقاً مع عدم ممارستهم السياسة.
كحال الشباب المصري، تركت 25 يناير أثراً نفسياً في نفوس “الأولتراس”، استعصى استئصاله، فاصطبغت الحركة الرياضية المستقلة بطابع ميدان التحرير وهواه، حتى أصبحت أحد أهم روافده في العام اللاحق للثورة.
ويرى محمد الجوهري أيضاً أن ثورة يناير كانت بمثابة نقطة تحول كبيرة في علاقة مجموعات “الأولتراس” بالمجال العام فى مصر، بل سعت المجموعات إلى تأكيد وجودها وحضورها بخاصة في ما يتعلق بعلاقتها بالسلطة، كما أصبحت مفردات الثورة والحرية جزءاً لا يتجزأ من خطاب المجموعات في المجال العام، بعد أن كان النادي وحده هو مركز تعبير المجموعات عن نفسها.
بيد أن مشاركة “أولتراس” الفعالة في أحداث الثورة جعلتهم عرضة للاستقطاب من القوى السياسية الصاعدة بعد تنحي حسني مبارك، حيث رأوا فيهم “حماة الثورة” لما أظهروه من بسالة في معاركهم مع الداخلية في شارع محمد محمود. هذا إلى جانب دورهم في ترداد أغان معادية للنظام في مدرجات فرقهم، فألّف “وايت نايتس” “مش ناسيين التحرير يا ولاد الوسخة… الثورة كانت بالنسبة لكم نكسة”، وخرج “أولتراس أهلاوي” بـ”قولناها زمان للمستبد، الحرية جاية لا بد… يا حكومة بكرة حتعرفي بايدين الشعب حتنظفي”.
أما ظهور “أولتراس” الرسمي في ميدان التحرير فتمثل بإعلانهم المشاركة في مليونية 9 سبتمبر/ أيلول 2011 لمطالبة المجلس العسكري بتسليم الحكم، ونظراً إلى كثافة المشاركين من جانب الحركة أطلق عليها جمعة “الأولتراس”، لكن نزولهم هذا، كان رداً منهم على اعتداء قوات الأمن عليهم في مباراة الأهلي وكيما أسوان بملعب القاهرة.
كل هذه المؤشرات نبأت بدخول الأولتراس في صدام مع النظام، وتحديداً المجلس العسكري، بعدما دوت ملاعب القاهرة بهتافات “يسقط حكم العسكر”، إلى أن وقعت كارثة مجرزة بورسعيد التي راح ضحيتها 73 شاباً من رابطة “أولتراس أهلاوي” في اشتباكات دامية بين جمهور المصري والأهلي، وسط اتهامات للمشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري آنذاك، بتدبير تصفية شباب الرابطة.
مذبحة بورسعيد كانت مفصلية في حياة المدرجات المصرية، كمكان لتشجيع كرة القدم، وحياة أعضاء “أولتراس” الذين شاهدوا أشلاء أصدقائهم أمام أعينهم، فلم يعد شاغلهم الأول هو النادي، وطنهم الخاص، بل وضعوا القصاص نصب أعينهم، ينادون به في الميادين وداخل ساحات المحاكم ويحملون الشارات السود داخل مدرجاتهم، حتى صدرت الأحكام القضائية ضد بعض متهمي المذبحة في 2013.
يتحدث أحد أعضاء رابطة “أولتراس أهلاوي” عن استنئاف الحركة نشاطها عام 2014، قائلاً: “مطالبتنا بعودة المدرجات إلى شكلها القديم يعد من الخيال، حتى بعد الأحكام نشعر بأزمة لغياب أصدقائنا في ظل استمرار وجود رجال الداخلية داخل الاستادات”
غير أن “الأولتراس” حاولت خلع ثوبها الحزين موقتاً من أجل الالتزام داخل المدرج، فعادت لتؤازر فريقها بلافتات “الكرة للجماهير” التي أشاد بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في أولى سنوات حكمه، خلال مباراة الفريق الأحمر في نهائي البطولة الكونفدرالية في ديسمبر/ كانون الأول 2014.
حينها قال السيسي في رسالة إليهم: “أرسل تحياتي للأولتراس، لقد كنت سعيداً للغاية بالمباراة، لقد شاهدتها، ولقد كنت فخوراً باللافتات التي رفعها شباب الأولتراس، وكنت سعيداً بهذا المشهد، أتمنى منهم الاستمرار بالشكل ذاته لكي تستفيد البلاد، إذ إن هذا المشهد الجميل الذي تم نقله على كل شاشات العالم سيفيد وبلا شك مصر”.
وفيما فسر حديث السيسي بأنه بداية عهد جديد بين الدولة وشباب “أولتراس”، كانت الأقدار ترتب أمراً مغايراً تماماً أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، فوقعت مذبحة جديدة للشبان البيض في مباراة للزمالك وإنبي في 8 فبراير/ شباط 2015، عرفت بحادثة ستاد الدفاع الجوي، وراح ضحيتها 20 شاباً من أعضاء “وايت نايتس”.
هنا كان الجاني واضحاً، أي الشرطة المصرية التي أعدت ممراً خانقا تعبر منه الجماهير إلى أرض الملعب، وفي الكواليس يظهر رئيس النادي مرتضى منصور، الذي يكن عداء كبيراً لهؤلاء الشباب، فأعلن إمكان حضور المباراة مجاناً، ما أوقع الصدام الذي أزهق معه أرواحاً جديدة من “أولتراس”.
المحامي الحنجوري ذائع الصيت تكفل بإقصاء “الأولتراس” من الملاعب، فهو يصفهم دائماً بالصيع والإرهابيين، كونهم اعتادوا السخرية منه وتحميله فشل الفريق الأبيض، حتى قرر “قطع رجلهم” تماماً عن دخول النادي والمدرجات، وسارع إلى إصدار حكم قضائي بحظر أنشطتهم وإدراجهم ضمن قوائم الجماعات الإرهابية.
حولت هذه الوقائع رابطة “أولتراس” إلى جناة متطرفين يعملون وفقاً لأجندات جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، فتبارى الإعلاميون الرياضيون المستفيدون من استمرار إقامة مباريات كرة القدم في مصر على عملية تشويه الحماسيين بهدف إزاحتهم تماماً، من طريق الرياضة النظيفة التي اعتادوها قبل ظهورهم في 2007.
يوضح أحمد مصطفى أن “جميع دول العالم تعاني من شغب جماهير الكرة، لكن طريقة احتواء المواقف من أجهزة الأمن والمسؤول الرياضي مختلفة عن مصر، كلنا نرفض الشغب لكن هنا لا توجد طريقة آدمية للتعامل مع الشباب”.
تاج الذي قضى 6 سنوات في “أولتراس أهلاوي” يتفق مع مصطفى في وجود خروقات وأفعال صبيانية ساهمت في تشويه صورتهم عند الجمهور، فيؤكد لـ “درج” أن بعض الأفراد الموجودين على المدرج يقومون ببعض الأفعال غير اللائقة”، لكنه يرفض الحكم على أفعالهم لأن لكل قاعدة شواذاً.
حاولت “أولتراس” كثيراً في العامين الماضيين أن تجد مكاناً لها في دولة السيسي، تلك المنظومة الخشنة التي لا تسمح بالاعتراض أو بالخروج عن النص، فالرجل نفسه معجب بالأداء الحماسي ووجه لهم الدعوة إلى الحوار من قبل ودعاهم إلى اختيار ممثلين عنهم للمشاركة في تحقيق قضائي يكشف المتورطين في مذبحة بورسعيد.
لكن كل هذه الدعوات كانت تذهب مع الرياح مع حدوث أزمة جديدة في المدرج، وهو ما حدث في واقعتين، الأولى كانت في العام الماضي حين كسر مجشعو “وايت نايتس” مدرجات ستاد الجيش في برج العرب عقب خروج فريقهم من دوري الأبطال الأفريقي، وترتب عليه حبس أكثر من 200 مشجع لمدة طويلة.
والواقعة الأخرى التي زادت من التوتر، كانت حين ررد مشجعو الأهلي الأغنية الشهيرة “حرية.. يا نظام غبي” في مباراة مونانا الجابوني مارس/ آذار الماضي، وهي الواقعة التي شهدت اعتذار “الأولتراس” للمرة الأولى عن هتافات في مدرجه، والتنصل من أعضاء أفسدوا مخططهم بالعودة إلى المدرج.
هذه الأحداث أجبرت أعضاء كثراً على اعتزال العمل الحركي بسبب الحملات الأمنية، فتاج أبلغ زملاءه بالتوقف عن حضور الاجتماعات والمباريات لخوفه من الملاحقات الأمنية التي قد تطاول أعضاء الرابطة.
يقول الباحث الاجتماعي المختص في الشؤون الأمنية، لـ”درج”: “رابطة الأولتراس تتعرض دائماً لحملات قمع بهدف إرباك التنظيم الذي تخشاه الدولة، فهي تتعامل مع أعضائه باعتبارهم جيل الثورة الذين ثاروا على جهاز الشرطة قبل 7 سنوات”.
إلا أن اللافت حدوث انقسامات بين قيادات “أولتراس أهلاوي” بعد مناشدتهم السيسي، باعتباره أباً للعفو عن المحبوسين منهم، وهو ما عرضهم للانتقاد بسبب انخفاض سقف الخطاب بهذه الدرجة، إلى أن أعلنوا تجميد نشاطهم لأجل غير مسمى.
ويرى الباحث أن الأزمات الأخيرة أفقدت الأولتراس توازنها، وأفرزت تيارين متناقضين، أحدهما مع التصعيد ضد الأمن والحفاظ على كبرياء وإرث الرابطة والآخر مع التهدئة والتعامل ببراغماتية مع المناخ السلطوي في مصر الذي عرضهم للقمع في الفترات الماضية.
لا تنفصل أزمة “أولتراس” عن واقع حركات التغيير الاجتماعي التي تعاني من مشكلات تنظيمية والحصار الأمني الشديد على نشاطها، لكن على الرجال يتوقع عودة الحركة للعمل مستقبلاً بصيغة مختلفة في علاقتهم مع الدولة ومجالس إدارات أنديتهم، باعتبار أن الكرة لن تنتهي في مصر.
تبقى عودة “أولتراس” إلى المدرجات من جديد مرهونة بقبولها شروط الدولة في عدم إقحامها السياسة داخل المدرجات، إلا أن أحمد مصطفى، عضو “وايت نايتس”، يرى أنه لا يمكن أن تفصل الروابط السياسة عن التشجيع، خصوصاً أن “أولتراس” شريحة من المجتمع لها أفكارها السياسة التي تعبّر عنها.