ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الخرافة… سلاح “حزب الله” الوحيد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يعد الحزب يملك سردية انتصار يمكن تسويقها. فـ”المقاومة” التي كانت تُقدَّم كدرع للأمّة، تحوّلت إلى عبء داخلي، والجبهة التي يفاخر بها الحزب جنوباً، صارت مصدر موت يومي دون أفق سياسي. كلّ ذلك يجعل من الخرافة نوعاً من التعويض النفسي: فحين تخسر الأرض والسياسة، تربح الوهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الأزمنة القديمة، كان السحرة يصنعون دمى تمثّل أعداءهم، يطعنونها بالإبر أو يحرقونها بالنار، معتقدين أن الألم سينتقل إلى الأصل. تلك كانت ذروة الخرافة حين يختلط السحر بالسلطة والانتقام.

اليوم، وكأنما عادت الدمية ذاتها، لكن بأدوات حديثة: هاتف ذكي، كاميرا، وفيديو قصير يُبثّ على “تيك توك”. وها هو أحد “سحرة” أيّامنا، علي برّو، أحد أبرز الأصوات الشعبوية الموالية لـ”حزب الله”، يظهر في مقطع يهين فيه الإعلامية والوزيرة السابقة مي شدياق عبر دمية تمثّلها، داعياً سكّان الضاحية الجنوبية للسخرية منها. 

قبل برّو عمد منشد “حزب الله” علي بركات إلى السخرية من جسد شدياق، وتحديداً كيف سبّبت محاولة اغتيالها بتر يدها وساقها واستبدالهما بأخريين صناعيتين. وكأن العنف الرمزي بات جزءاً من العقيدة اليومية لكثير من جمهور الحزب ومفوّهيه.

مشهد الدمية التي تمثّل مي شدياق وتجول في الضاحية تتعرّض للإهانة والضرب، ببساطته وابتذاله، لا يخلو من الرعب. فشدياق ليست مجرّد إعلامية وسياسية قد يختلف معها جمهور الحزب في الموقف، إنها جريحة جريمة اغتيال استُهدفت فيها بعبوة ناسفة خلال سنوات الهيمنة السورية الحزب اللهية على لبنان. 

جريمة لم يُحاسب أحد عليها حتى اليوم، وها هو “جلاد” الأمس يواصل الاستهداف والإهانة عبر إعلامييه، بصورة رقمية هذه المرّة.

ويا للمفارقة، أن تصدر هذه السخرية عن شخصيّات بارزة في بيئة سقط فيها آلاف الجرحى، بسبب جريمة تفجيرات البيجرز التي نفّذتها إسرائيل وبين الضحايا والجرحى أطفال ونساء، نتابع فيديوهاتهم التي تروي آلامهم ومعاناتهم بعد أن فقد كثيرون منهم بصرهم وأطرافهم. كيف يمكن لشخصيّات تدّعي أنها تنطق باسم مجتمع أن تتماهى مع الألم حين يصيب بيئتها، ثم تحتفي به حين يصيب الخصم؟ أي خلل هذا في الوعي؟

ثمّة ما هو أعمق من الفيديوهات السخيفة. ثمة تحوّل في بنية الوعي العامّ لدى شرائح واسعة من جمهور “حزب الله”.

بعد “حرب الإسناد”، وامتداداً الحرب الإسرائيلية المدمّرة الأخيرة ضدّ لبنان، وجد هذا الجمهور نفسه بلا يقين، بلا نصر واضح، وبلا مشروعٍ، فكان أن لجأ إلى الخرافة بوصفها ملاذاً نفسياً، ووسيلةً لتسكين الألم والتغطية على الخسارة.

لم يعد الحزب يملك سردية انتصار يمكن تسويقها. فـ”المقاومة” التي كانت تُقدَّم كدرع للأمّة، تحوّلت إلى عبء داخلي، والجبهة التي يفاخر بها الحزب جنوباً، صارت مصدر موت يومي دون أفق سياسي. كلّ ذلك يجعل من الخرافة نوعاً من التعويض النفسي: فحين تخسر الأرض والسياسة، تربح الوهم.

الخرافة كبديل عن الحقيقة

في خطاب الحزب وإعلامه، يختلط اللا عقل باليقين. يُقدَّم كلّ فشل على أنه نصر مؤجّل، وكلّ ضربة على أنها امتحان إلهي. محلّلون ملأوا الشاشات لسنوات بالكذب والتضليل حول قدرات “حزب الله”، يخرجون اليوم بعد كلّ هذه الخسارات وبعد احتلال اسرائيل نقاطاً في الجنوب وقصفها اليومي، ليعلنوا أن الحزب “انتصر” وأنه “عاد إلى العمل السرّي”، وأن “تحرير الجليل” بات وشيكاً!

لكنّ الواقع أكثر قسوة: الحزب عاجز حتى عن ردّ مسيّرة إسرائيلية تقتل يومياً  في الجنوب، وعاجز عن حماية مزارع الزيتون أو السماح بجنازة في القرى الحدودية من دون إذن إسرائيلي. كلّ ذلك لا يُقال في إعلام الحزب، بل يُدفن تحت ركام الخطاب التعبوي الممتلئ بالملاحم والكرامات والرؤى والبذاءة.

الخرافة هنا لا تتوقّف عند الميدان العسكري، بل تمتدّ إلى تفاصيل الحياة اليومية.

في أحد البرامج، تحكي مذيعة من البيئة الحزبية عن شابّ تقدّم لخطبة حبيبته عند ضريح الزعيم الراحل للحزب، الذي اغتالته إسرائيل حسن نصرالله: “جايي أطلبك ليكون هو الشاهد على العهد”. في مشهد آخر، تُروى حكاية عن لصّ في إيران اكتشف أثناء محاولته سرقة منزل أن المنزل يحوي طائرات للموساد فاستيقظ ضميره الوطني واتّصل بالشرطة، حتى اللصّ يمكنه أن يكون وطنياً ومقاوماً! وفي فيديو ثالث، يُحتفى بحلّاق يقصّ شعر زبون يشبه نصرالله وكأنها لحظة تبرّك.

إنه دين جديد قائم على الطقوس الرمزية، على الخرافة وعلى وهم الحزب المعصوم الذي لا يُخطئ حتى لو أغرق شعبه.

بهذا المعنى، يتحوّل استخدام الخرافة إلى شكل من أشكال السيطرة الرمزية. فـ”حزب الله” الذي لم يعد قادراً على تبرير سلاحه سياسياً أو قانونياً، يلجأ إلى بناء درع نفسي حول نفسه، يقيه الأسئلة.

كلّ من يشكّك في جدوى “المقاومة” وسلاحها بعد كلّ ما أصاب المنطقة من تحوّلات كبرى، يُرمى بالعمالة أو يُستهدف بالسخرية، تماماً كما فُعل بمي شدياق، في ممارسة تُعيد إنتاج منطق “الدمية” ذاته: التنكيل الرمزي بمن يجرؤ على القول “كفى”.

في جوهره، خطاب “حزب الله” اليوم هو مقاومة جديدة، لكنّها ليست ضدّ إسرائيل بل ضدّ الواقع. فكلّ نقاش حول نزع السلاح يُقابَل بموجة من الخطابات الماورائية: نبوءات، رؤى، قصص كرامات، ونكات عن الأعداء “المرعوبين”. كلّ هذا لتفادي مواجهة السؤال الجوهري: هل هذا السلاح يخدم لبنان أم يدمّره؟
إنتاج الخرافة بهذا الشكل ليس مصادفة، بل استراتيجية دفاع نفسي وسياسي في آن واحد. لقد دمّر “حزب الله” المنظومة القيمية في لبنان، وشرعن العنف اللفظي والمعنوي باسم المقاومة، وخلق جيلاً لا يفرّق بين البطولة والمهزلة.
لكنّ التاريخ لا يرحم الخرافة طويلاً. فكلّ كذبة سياسية مهما اشتدّ سحرها، لا تصمد أمام جيل يبدأ بفكّ طلاسمها، وسؤال بسيط لا يزال يلاحق الحزب:
إن كنتم قادرين على احتلال الجليل فماذا تنتظرون؟

مطلب نزع السلاح ليس مجرّد شعار سياسي؛ إنه مطلب أمني واجتماعي مرتبط بحياة الناس. الإبقاء على ثقافة الخرافة والجهل كردّ فعل على الضغط، سيعيد وضع البيئات الشيعية واللبنانية مجدّداً لقمة سائغة لموت مجاني.

إدانة الممارسات السخيفة ليست مسألة ذوق وأخلاق فقط، إنها امتحان لوعي مدني لم يعد يملك رفاهية الابتذال. 

“حزب الله” فقد سيطرته على سردية النصر، وبات يتجه نحو الخرافة والانتقام والوهم! 

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
27.10.2025
زمن القراءة: 4 minutes

لم يعد الحزب يملك سردية انتصار يمكن تسويقها. فـ”المقاومة” التي كانت تُقدَّم كدرع للأمّة، تحوّلت إلى عبء داخلي، والجبهة التي يفاخر بها الحزب جنوباً، صارت مصدر موت يومي دون أفق سياسي. كلّ ذلك يجعل من الخرافة نوعاً من التعويض النفسي: فحين تخسر الأرض والسياسة، تربح الوهم.

في الأزمنة القديمة، كان السحرة يصنعون دمى تمثّل أعداءهم، يطعنونها بالإبر أو يحرقونها بالنار، معتقدين أن الألم سينتقل إلى الأصل. تلك كانت ذروة الخرافة حين يختلط السحر بالسلطة والانتقام.

اليوم، وكأنما عادت الدمية ذاتها، لكن بأدوات حديثة: هاتف ذكي، كاميرا، وفيديو قصير يُبثّ على “تيك توك”. وها هو أحد “سحرة” أيّامنا، علي برّو، أحد أبرز الأصوات الشعبوية الموالية لـ”حزب الله”، يظهر في مقطع يهين فيه الإعلامية والوزيرة السابقة مي شدياق عبر دمية تمثّلها، داعياً سكّان الضاحية الجنوبية للسخرية منها. 

قبل برّو عمد منشد “حزب الله” علي بركات إلى السخرية من جسد شدياق، وتحديداً كيف سبّبت محاولة اغتيالها بتر يدها وساقها واستبدالهما بأخريين صناعيتين. وكأن العنف الرمزي بات جزءاً من العقيدة اليومية لكثير من جمهور الحزب ومفوّهيه.

مشهد الدمية التي تمثّل مي شدياق وتجول في الضاحية تتعرّض للإهانة والضرب، ببساطته وابتذاله، لا يخلو من الرعب. فشدياق ليست مجرّد إعلامية وسياسية قد يختلف معها جمهور الحزب في الموقف، إنها جريحة جريمة اغتيال استُهدفت فيها بعبوة ناسفة خلال سنوات الهيمنة السورية الحزب اللهية على لبنان. 

جريمة لم يُحاسب أحد عليها حتى اليوم، وها هو “جلاد” الأمس يواصل الاستهداف والإهانة عبر إعلامييه، بصورة رقمية هذه المرّة.

ويا للمفارقة، أن تصدر هذه السخرية عن شخصيّات بارزة في بيئة سقط فيها آلاف الجرحى، بسبب جريمة تفجيرات البيجرز التي نفّذتها إسرائيل وبين الضحايا والجرحى أطفال ونساء، نتابع فيديوهاتهم التي تروي آلامهم ومعاناتهم بعد أن فقد كثيرون منهم بصرهم وأطرافهم. كيف يمكن لشخصيّات تدّعي أنها تنطق باسم مجتمع أن تتماهى مع الألم حين يصيب بيئتها، ثم تحتفي به حين يصيب الخصم؟ أي خلل هذا في الوعي؟

ثمّة ما هو أعمق من الفيديوهات السخيفة. ثمة تحوّل في بنية الوعي العامّ لدى شرائح واسعة من جمهور “حزب الله”.

بعد “حرب الإسناد”، وامتداداً الحرب الإسرائيلية المدمّرة الأخيرة ضدّ لبنان، وجد هذا الجمهور نفسه بلا يقين، بلا نصر واضح، وبلا مشروعٍ، فكان أن لجأ إلى الخرافة بوصفها ملاذاً نفسياً، ووسيلةً لتسكين الألم والتغطية على الخسارة.

لم يعد الحزب يملك سردية انتصار يمكن تسويقها. فـ”المقاومة” التي كانت تُقدَّم كدرع للأمّة، تحوّلت إلى عبء داخلي، والجبهة التي يفاخر بها الحزب جنوباً، صارت مصدر موت يومي دون أفق سياسي. كلّ ذلك يجعل من الخرافة نوعاً من التعويض النفسي: فحين تخسر الأرض والسياسة، تربح الوهم.

الخرافة كبديل عن الحقيقة

في خطاب الحزب وإعلامه، يختلط اللا عقل باليقين. يُقدَّم كلّ فشل على أنه نصر مؤجّل، وكلّ ضربة على أنها امتحان إلهي. محلّلون ملأوا الشاشات لسنوات بالكذب والتضليل حول قدرات “حزب الله”، يخرجون اليوم بعد كلّ هذه الخسارات وبعد احتلال اسرائيل نقاطاً في الجنوب وقصفها اليومي، ليعلنوا أن الحزب “انتصر” وأنه “عاد إلى العمل السرّي”، وأن “تحرير الجليل” بات وشيكاً!

لكنّ الواقع أكثر قسوة: الحزب عاجز حتى عن ردّ مسيّرة إسرائيلية تقتل يومياً  في الجنوب، وعاجز عن حماية مزارع الزيتون أو السماح بجنازة في القرى الحدودية من دون إذن إسرائيلي. كلّ ذلك لا يُقال في إعلام الحزب، بل يُدفن تحت ركام الخطاب التعبوي الممتلئ بالملاحم والكرامات والرؤى والبذاءة.

الخرافة هنا لا تتوقّف عند الميدان العسكري، بل تمتدّ إلى تفاصيل الحياة اليومية.

في أحد البرامج، تحكي مذيعة من البيئة الحزبية عن شابّ تقدّم لخطبة حبيبته عند ضريح الزعيم الراحل للحزب، الذي اغتالته إسرائيل حسن نصرالله: “جايي أطلبك ليكون هو الشاهد على العهد”. في مشهد آخر، تُروى حكاية عن لصّ في إيران اكتشف أثناء محاولته سرقة منزل أن المنزل يحوي طائرات للموساد فاستيقظ ضميره الوطني واتّصل بالشرطة، حتى اللصّ يمكنه أن يكون وطنياً ومقاوماً! وفي فيديو ثالث، يُحتفى بحلّاق يقصّ شعر زبون يشبه نصرالله وكأنها لحظة تبرّك.

إنه دين جديد قائم على الطقوس الرمزية، على الخرافة وعلى وهم الحزب المعصوم الذي لا يُخطئ حتى لو أغرق شعبه.

بهذا المعنى، يتحوّل استخدام الخرافة إلى شكل من أشكال السيطرة الرمزية. فـ”حزب الله” الذي لم يعد قادراً على تبرير سلاحه سياسياً أو قانونياً، يلجأ إلى بناء درع نفسي حول نفسه، يقيه الأسئلة.

كلّ من يشكّك في جدوى “المقاومة” وسلاحها بعد كلّ ما أصاب المنطقة من تحوّلات كبرى، يُرمى بالعمالة أو يُستهدف بالسخرية، تماماً كما فُعل بمي شدياق، في ممارسة تُعيد إنتاج منطق “الدمية” ذاته: التنكيل الرمزي بمن يجرؤ على القول “كفى”.

في جوهره، خطاب “حزب الله” اليوم هو مقاومة جديدة، لكنّها ليست ضدّ إسرائيل بل ضدّ الواقع. فكلّ نقاش حول نزع السلاح يُقابَل بموجة من الخطابات الماورائية: نبوءات، رؤى، قصص كرامات، ونكات عن الأعداء “المرعوبين”. كلّ هذا لتفادي مواجهة السؤال الجوهري: هل هذا السلاح يخدم لبنان أم يدمّره؟
إنتاج الخرافة بهذا الشكل ليس مصادفة، بل استراتيجية دفاع نفسي وسياسي في آن واحد. لقد دمّر “حزب الله” المنظومة القيمية في لبنان، وشرعن العنف اللفظي والمعنوي باسم المقاومة، وخلق جيلاً لا يفرّق بين البطولة والمهزلة.
لكنّ التاريخ لا يرحم الخرافة طويلاً. فكلّ كذبة سياسية مهما اشتدّ سحرها، لا تصمد أمام جيل يبدأ بفكّ طلاسمها، وسؤال بسيط لا يزال يلاحق الحزب:
إن كنتم قادرين على احتلال الجليل فماذا تنتظرون؟

مطلب نزع السلاح ليس مجرّد شعار سياسي؛ إنه مطلب أمني واجتماعي مرتبط بحياة الناس. الإبقاء على ثقافة الخرافة والجهل كردّ فعل على الضغط، سيعيد وضع البيئات الشيعية واللبنانية مجدّداً لقمة سائغة لموت مجاني.

إدانة الممارسات السخيفة ليست مسألة ذوق وأخلاق فقط، إنها امتحان لوعي مدني لم يعد يملك رفاهية الابتذال. 

“حزب الله” فقد سيطرته على سردية النصر، وبات يتجه نحو الخرافة والانتقام والوهم!