برهان غليون وماجد كيالي من المثقفين العرب المتميزين بمثابرتهم على محاولة فهم الحالة العربية ونقدها، بما في ذلك مسألة إسرائيل، منذ أكثر من نصف قرن، بالإضافة إلى انخراطهما يومياً في نقاشات سياسية ومبادرات عملية للخروج من حالة الهزيمة العربية عموماً والفلسطينية تحديداً.
من الصعب تعقّب كل ما كتباه ونشراه سابقاً. لكنهما وفرا لنا نافذة للنظر في عقليهما عبر ثلاثة مقالات نشرت حديثاً في “العربي الجديد” وفي “درج”. وفي رأيي، من المهم الاستمرار في هذا النقاش الذي يمسّ أهم أسس الكينونات العربية والفلسطينية، ومعها محاولة فهم إسرائيل ونجاحاتها العسكرية والمادية والعلمية مقابل أمة ودول تفوقها قدرات مالية ومادية وبشرية بعشرات المرات.
يتفق غليون وكيالي على أهمية هذا النقاش للمعرفة والوضوح، لكنهما ملتزمان في التفكير واستنباط طرق وأدوات مواجهة المستقبل. برأيي، يتفق الاثنان على أهمية العامل الدولي وجعله فوق كل التفسيرات الأخرى لضعف العرب. فبالنسبة الى غليون، تعيش إسرائيل والمنطقة الآن هزيمة بسبب إرادة دولية سابقة وحالية، وبالنسبة الى كيالي فإن “إسرائيل هي وضع دولي” ومن الأهمية أخذ ذلك في حساباتنا أولاً لفهم أوضاعنا العربية (والفلسطينية) ووضع إسرائيل.
قد يكون هذا التوصيف صحيحاً، إلا أنه يقلّل جدياً من أهمية عوامل أخرى لا تقل شأناً، مثل إرادة اليهود الأوروبيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فما أهمية الجهود الدولية التي يتحدث عنها الكاتبان لولا قوة منظمة وقادرة دفعتهم الى ذلك؟ وطبعاً الضعف والتفتت وانعدام الإرادة الموحدة العربية عموماً والفلسطينية بشكل خاص، هي كذلك تفسير منطقي ومهم لفهم الماضي ورسم صورة المستقبل، أو فهم إسرائيل وعوامل قوتها كعامل مستقل بذاته ولذاته.
صحيح أن السلاح الآتي من الغرب مهم لتفسير التفوق الإسرائيلي، كما تفاعل دول عربية تساهم في أمن إسرائيل، قبل النكبة وبعدها، لكن التقليل من الدور الإسرائيلي الذاتي هو إزاحة جدية لأهم عوامل النجاح الإسرائيلي كدولة منظمة وقبلها الصهيونية كحركة قوية ومنظمة كذلك. ولهذا فإنه من الأهمية أن نتعمق أكثر في فهم إسرائيلي لذاتها وقدراتها على تطويع الإرادة الدولية عموماً، والغربية بخاصة، كما العربية لإرادتها ولخدمة مصالحها.
بالنسبة الى غليون، هو بالتأكيد من أهم من كتبوا في المسألة العربية، لكنني حقيقة لا أفهم كيف يمكنه تقديم رأي جوهره الادعاء بأننا لا نستطيع التقدم من هنا ولا في أي اتجاه. فبحسبه، إسرائيل تتحكم بوضعنا العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، ولا نستطيع تغيير أوضاعنا وعلاقتنا بإسرائيل المتحكمة بنا من غير تغيير الولايات المتحدة التي تتحكم بإسرائيل. لكن مصالحها هي مع إسرائيل. تمام، إذا كان الوضع كذلك، أي أنه من الصعب تغيير إسرائيل ولا تغيير الولايات المتحدة، ولو قليلاً، ماذا نفعل بأنفسنا وبعلاقتنا مع الآخرين؟ هذه متاهة تجعل من كل ما نفعله غير ذي جدوى، إنها متاهة تحبط مسبقاً أي تفتيش عن طريق للمستقبل. هل فعلاً رئيس “المجلس الوطني السوري” بعد الثورة يعتقد ذلك، وأن إرادة السوريين والمصريين والتونسيين هي محكومة مسبقاً بالفشل؟ هذه متاهة تضع مستقبلنا ومقدراتنا في يد آخرين وتجعلنا عوامل ساكنة في التاريخ، وليس لها دور جدي، ومقولاته تنبئ عملياً بفشل أي حل داخلي عربي أو إسلامي أو فلسطيني يتطلع الى تغيير ذلك.
إقرأوا أيضاً:
بالنسبة الى غليون (العربي الجديد 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024)، فإن العالم العربي يفشل في الخروج من دائرة الفشل، بسبب مساعيه لـ”احتواء تفوق إسرائيل ودرء مخاطر سياساتها العدوانية الذي يشكل الهمّ الأكبر لحكومات المنطقة، وحوّل حياة شعوبها، منذ ثلاثة أرباع القرن، جحيماً يستعر بالانقسامات والنزاعات والحروب والهزائم والانقلابات العسكرية وحروب العصابات والميليشيات والانتفاضات وصراع المافيات، ما أرهق مجتمعاتها واستنزف جهودها وقضى على مستقبل القسم الأكبر من أبنائها”. وهذه بالذات فكرة محورية يقدمها غليون في مقاله السابق (العربي الجديد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2024)
وتلك الفكرة نفسها تتكرر مع تفصيل “حالة الاستثناء” الإسرائيلية وصولاً الى المقولة الغريبة “لن تخرج المنطقة من حالة الاستثناء والتنمية المعلّقة في جميع الميادين، بما فيها الديمقراطية، ما لم نجد حلّاً لحالة الاستثناء المفروضة على المنطقة بكاملها، حفاظاً على دولة الاستثناء الإسرائيلية أو على استثناء إسرائيل من حكم القانون”. يعني ذلك أن النجاحات التنموية الكبيرة في الخليج هي ليست مهمة أو أن فشل المغرب والجزائر والعراق وحتى الأردن وسوريا هو مرتبط أساساً بالحالة الاستثنائية لإسرائيل؟ هذا التحليل صحيح للفلسطينيين بشكل كبير ولكنه ليس شاملاً حتى في حالتهم. وقد يكون جزئياً صحيحاً لمصر وسوريا وربما الأردن حتى نهاية المواجهة الفعالة مع إسرائيل، لكن لا شأن جدي، كتفسير مركزي، لإخفاقات العالم العربي. التفسير لوضع العالم العربي المتردي والمستعصي على التغيير والتطور هو بالأساس بنيوي سياسي واجتماعي وثقافي وتنموي اقتصادي عربي، أكثر من كونه تداعيات لنجاحات إسرائيلي.
هنالك الكثير من البالغة وإلغاء الذات في تقديم إسرائيل وسياساتها كتفسير مركزي لفشل الدول العربية وأنظمتها. هنا أتفق مع كيالي في مقولته المركزية في مقاله (“درج” 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024)، فما علاقة إسرائيل بحالة المواطنة بالمغرب مثلاً أو بالأمارات والسعودية، وما علاقة إسرائيل في مكانة الأكراد في سوريا قبل الثورة، وما علاقة إسرائيل بالعمران الكبير في الإمارات وقطر؟ كيف يمكن ربط فشل إقامة دولة وطنية حقيقية وجديرة بشكل شبه كلي بسياسات إسرائيل ومراميها؟ أساساً وعموماً هنالك مبالغة جدية في دور إسرائيل وتضخيمه الى درجة تجعل من العربي العادي غير قادر على تصور مستقبل مختلف، وهو الوضع نفسه الذي يسمح للأنظمة استخدام إسرائيل والقضية الفلسطينية للتغطية على إخفاقاتها وعثراتها الكبيرة.
كما يذهب غليون الى أننا كعرب “لن نستطيع أن نغيّر من نوعية علاقتنا بإسرائيل ما لم ننجح في تغيير طبيعة علاقتنا بالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومعها وحدها يمكن التفاهم على حلول بنّاءة، فقد كانت السبب الرئيس لخراب الشرق الأوسط، وهي التي تملك اليوم مفتاح إنقاذه بمقدار ما أنها الشريك الأكبر والضامن الأول لوجود إسرائيل وتفوّقها العسكري والسياسي والدبلوماسي معاً. وهي وحدها التي تستطيع عقلنة إسرائيل بمقدار ما كانت سبب جنونها”، هذا التحليل مبني على منطق أثبتت السنوات، وخصوصاً السنة الأخيرة، عدم صوابه.
إرادة الولايات المتحدة شيء وإرادة إسرائيل شيء آخر، فالأخيرة لا تفرض إرادتها فقط، بل تجبر البيت الأبيض على إمدادها بالسلاح بتكلفة تصل الى عشرات مليارات الدولارات، وهنا من الأهمية الالتفات جدياً الى قوة اللوبي المساند لإسرائيل، وهو لوبي أميركي أساساً، والتفسير الثقافي الذي عبر عنه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش (الابن) علانية عندما قال عن الحرب في أفغانستان إنها “استمرار للحروب الصليبية” وسار على المنوال نفسه، ولو ضمنياً كل الرؤساء الأميركيين منذ إقامة إسرائيل، مع ازدياد مضطرد في العداء المتأصل ثقافياً في وعي غالبية الأميركيين، وصولاً الى الرئيس بايدن الذي أعلن جهاراً أنه “صهيوني غير يهودي” وتصريحات المعينين حديثاً من الرئيس المنتخب ترامب لحمل الحقائب المركزية في إدارته، والتي تعنينا كعرب، تحمل الكثير من هذا، ما يستدعي تفسيراً غير موضوع كون إسرائيل “عصا غليظة” أو “أداة في يد الغرب”، هذا التفسير لم يعد كافياً وحتى أنه قاصر جدياً في تفسير علاقة الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، بإسرائيل والعرب.
ومع أهمية “إنصاف الفلسطينيين” والبديهية التي تأكدت عشرات المرات بأنه لا يمكن القفز عن الفلسطينيين ولا يوجد عامل استقرار للشرق الأوسط أكثر من تسوية مقبولة على الفلسطينيين، فإنه من الغريب أن يحيلنا غليون مرة أخرى الى المبادرة العربية (بيروت 2002)، ويدعو الى إعادة طرحها كمشروع عربي، يتطلع الى إقناع الولايات المتحدة والذهاب الى تسوية الدولتين، وهذا طبعاً طرح بعيد عن رؤية الواقع في فلسطين وإمكانات التسوية بين الشعبين. وإذا كان الواقع في فلسطين وفشل العقود الأخيرة لم يقنعا غليون وغيره الكثيرين بفشل فكرة الدولتين، فإنني آمل بأن تتمكن تعيينات ترامب لأركان حكمه العتيد من إقناعهم بأن زمن الدولتين قد انتهى، وأن إعادة تدويره لا تقدم شيئاً للفلسطينيين ولا للعالم العربي.
بالعودة الى نقاش كيالي مع غليون حول العرب وإسرائيل والفلسطينيين، وهو موقف أتفق مع غالبيته، إلا أنني لا أرى في نقاش كيالي تعاملاً منصفاً مع الأسباب الفلسطينية الداخلية في تفسير تعقيدات وضع الفلسطينيين، وهذا طبعاً بما لا يشبه عشرات المقالات والكتب والمحاضرات التي انتقد فيها الكيالي القصور الذاتي للفلسطينيين. كما أنني أختلف معه في تفسير الوضع العربي بقمع الأنظمة وعدم شرعيتها وظلمها، وهذا صحيح، إلا أن هذا لا يكفي لتفسير القصور العربي، فالشعوب ولأسباب مختلفة، عميقة آنية، أصبحت راضية عن قياداتها غير الديمقراطية وغير الشرعية، وجزء كبير منها يدافع عن الأنظمة بشراسة وإرادة تبدوان غير منطقيتين، لكن مصالح الناس وقبولها شرعية قبلية أو دينية أو تحسين ظروف حياتها بشكل نسبي، جعلت غالبية الشعوب العربية راضية عن أنظمتها، وليست في حالة ثورية دائمة ضدها.
وأخيراً، فإنني أعتقد أن غليون والكيالي لم يلتفتا بشكل كاف الى مسألة الدولة الوطنية وأهميتها في تفسير الوضع العربي بعكس كتابات سابقة للاثنين. باختصار، أرى أن الدولة الوطنية والتي تتعارض مع فكرة الأمة الواحدة والدولة الواحدة، إسلامية أو قومية عربية، هي أقوى من أفكار الوحدة والاتحاد، والتسليم بها والعمل من خلالها وتحويلها الى دولة مدنية وديمقراطية حقيقية تمثل إيرادات شعوبها، في العالم العربي وتركيا وإيران وإسرائيل، ما يشكل مفتاحاً مهما للمستقبل وللخروج من متاهة الإخفاقات العربية عموماً، كما بالنسبة الى المستقبل الفلسطيني، بخاصة من خلال التطلع الى دولة ديمقراطية في عموم فلسطين وليس من خلال حل دولتين، عربية ويهودية، كما يقترح غليون.
كل ما سبق لا يلغي أهمية مساهمة الكاتبين وهما من رواد جيل المخضرمين من المثقفين العضويين، في فهم القضايا العربية عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً، في مقالاتهما الأخيرة ونقاشهما، كما في عشرات المناسبات السابقة التي ساهم فيها الاثنان في إفهامنا أوضاعنا ومستقبلنا. ومن المهم أن يستمر نقاشهما حتى نستطيع الوصول الى خلاصات تعيننا في فهم أوضاعنا واستشراف مستقبلنا.
إقرأوا أيضاً: