أثار اعتماد تطبيق خرائط غوغل اسم “الخليج العربي” بدلاً من “الخليج الفارسي”، موجة غضب واسعة في إيران، على الصعيدين الرسمي والشعبي، ولدى السلطة والمعارضة على حدّ سواء، وفور ظهور التسمية الجديدة في غوغل، لجأ مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي الإيرانيين؛ بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية، إلى تنظيم حملة افتراضية على متجري Google Play وApp Store، هدفت إلى خفض تصنيف التطبيق، من خلال تسجيل تقييمات متدنيّة، وكتابة تعليقات احتجاجية تدعو إلى “استعادة الاسم التاريخي والرسمي للخليج”، ورفض ما وصفوه بـ”الاسم المزوّر”.
وضاعف تأجيج الغضب الإيراني، انتشار تقارير إعلامية تشير إلى أن إدارة البيت الأبيض تميل إلى اعتماد صفة العربي للخليج محلّ الفارسي، تبعه استخدام الرئيس الأميركي دونالد ترامب تسمية “الخليج العربي” بدلاً من الخليج الفارسي في أحد خطاباته مؤخراً، مما دفع بعض الغاضبين إلى وصف تصريحات ترامب بأنها مجرّد “ثرثرة”، شأنها شأن ادّعاءاته حول ضمّ كندا وغرينلاند أو السيطرة على قناة بنما، باعتباره “التاجر الذي دخل عالم السياسة بضربة حظّ، ويتعامل مع الدول كأنها عقارات قابلة للبيع والشراء”، على حدّ زعم الغاضبين.
كان تطبيق خرائط غوغل، قد أجرى تبديلاً آخر في الفترة الزمنية نفسها، استهدف خليج المكسيك، حيث بات يظهر باسم خليج أميركا في الولايات المتّحدة وباسم خليج المكسيك داخل المكسيك، مما استدعى احتجاجاً غاضباً أيضاً من الحكومة المكسيكية، التي هدّدت رئيستها كلوديا شينباوم باللجوء إلى القضاء، فردّ غوغل على لسان كريس تيرنر نائب رئيس الشؤون الحكومية والسياسات العامّة، بأن سياسة التسمية لدى الشركة “تعتمد على بيانات جغرافية تأتي من بلدان متعدّدة، وأن نهج الشركة محايد ومتّسق”.
نقاش هوياتي و”مجاملة أمريكية للحكام العرب”
ورغم مرور أسابيع على ما فعله غوغل، لم تهدأ الحملة الإيرانية بعد، ويواصل المستخدمون الإيرانيون دعوتهم إلى توثيق الاعتراض، داعين الشعوب والقبائل الناطقة باللغة الفارسية مثل الأفغان، إلى تسجيل احتجاجهم، زاعمين أن تغيير اسم موثّق رسمياً ودولياً على خريطة العالم، هو “تزوير للتاريخ والحاضر والمستقبل”، وشكل من أشكال الاعتداء على تاريخ المنطقة وهوّيتها بشكل عامّ، واستباحة للسيادة الإيرانية بشكل خاصّ، فيما حمّل بعضهم النظام الإسلامي الذي استبدل الأيديولوجيا بالوطنية، مسؤولية تسهيل هذا الاعتداء أو هذه الاستباحة، في حين برزت فئة أكثر تسييساً اعتبرت أن التغيير صفعة تأديبية للحرس الثوري، الذي يتباهى بالسيطرة على أربع عواصم عربية، والذي حول الخليج من ممر مائي حيوي إلى منصّة لتهريب الصواريخ والمخدّرات.
كما تحوّل تغيير اسم الخليج إلى نقاش فكري نقدي على مستوى النخب الثقافية والسياسية الإيرانية، فأهملوا نقطة الخلاف على الهوّية الجغرافية والتاريخية، وأبرزوا فكرة أن الخليج الفارسي لم يعد يمثّل الهوّية القومية الفارسية كما في السابق، لأنه في ظلّ هيمنة النظام الثوري الإسلامي، أصبح يُنظر إليه باعتباره “خليج الملالي”، ورمزاً لتمدّد نفوذ جماعة دينية تستخدم الدين والثارات المذهبية، لتبرير سياساتها التوسّعية واعتداءاتها على دول المنطقة، مما أفقده رمزيته التاريخية، وجعل اسمه محلّ استفزاز للشعوب الجارة، وهكذا، بحسب رأيهم، يصبح تغيير الاسم ليس مجرّد “مجاملة أميركية للحكّام العرب”، أو “صفقة سياسية عربية أميركية” كما يدّعي النظام الإيراني، بل ردّة فعل طبيعية على سياق سياسي صدامي شوّه صورة إيران في أعين جيرانها والعالم، ولأن النظام أدلج حياة الإيرانيين الخاصّة والعامّة من التعليم إلى الثقافة، إلى الفنّ، إلى العلاقات الإنسانية، لم يعد بالتالي الجهة القادرة على الدفاع عن رموز الهوّية القومية، مما سمح لترامب وغوغل بالتجرؤ على تغيير الاسم.
تهديد للحضارة الفارسية ؟
يبقى التيار القومي؛ وإن كانت التسمية غير رسمية، الجهة الأكثر شراسة في الاعتراض على تغيير اسم الخليج، شراسة نابعة من شعور فوقي يجد في العرب وقوميّات أخرى من حوله، أقل شأناً وتأثيراً منه في التاريخ وأحداثه.
ويعتبر القوميون أن تغيير اسم الخليج، ليس مجرّد استبدال اسم بآخر على خريطة العالم، بل حقد على الدول الفارسية ما قبل الإسلامية (الإخمينية والساسانية) ومحاولة هدم للشخصيّة الإيرانية المتفوّقة، وطمس للإرث الحضاري الإيراني، وتهديد وجودي للهوّية الفارسية، إرضاء لدول الخليج، ويرون أن إلحاق صفة العربي بالخليج، منحة أميركية فضفاضة لعرب الخليج لا تتناسب وحجمهم الحضاري ودورهم لا في الماضي ولا في الحاضر، ومحاولة لإضعاف حضور القومية الفارسية في المنطقة، وبالتالي، هو بمثابة إعلان عن بداية صراع جديد على تعريف هوّية المنطقة، بين عربية مستجدّة وفارسية عريقة.
يعكس رأي التيار القومي في مسألة تغيير اسم الخليج، خيالات وتصوّرات شريحة واسعة من الشعب الإيراني عن جيرانه العرب، بكلّ تجليّاتها العنصرية. فالهبّة القومية الفارسية التي تشهدها إيران، خاصّة في العقد الأخير، لم يعد من الممكن اعتبارها مجرّد غيمة عاطفية عابرة، أو حنيناً إلى ماضٍ مجيد، وبات ينبغي التعامل معها كحركة يمينية عنصرية منسّقة وموجّهه ضدّ كلّ مظهر عربي في إيران وفي محيطها.
واللافت أن هذه الهبّة تطورت من نزعة ثقافية نخبوية، إلى تيّار شعبي جماهيري، يعمل على العودة بإيران إلى ما قبل الإسلام، ويمكن رصد نموّه في المظاهر الاحتفالية والمسيرات المليونية التي تشهدها إيران، في احتفالات ذكرى ميلاد كوروش الكبير، والمبالغة في ممارسة طقوس عيد النوروز، وتنظيم الزيارات الدورية لمواقع تاريخية تعود إلى العصر الساساني مثل قلعة بابك، والتي بدأت تخرج تدريجياً عن كونها طقوساً رمزية، لتتحوّل إلى ممارسات عمدية مدروسة، هدفها إحياء الشخصيّة القومية الفارسية ما قبل الإسلامية، عبر استحضار الأسماء والسير والبطولات التي تعزّز شعورها بالفخر والتمايز. فالقوميون الإيرانيون يُعادون الإسلام ليس لأنه دين فحسب؛ فهم يعملون على إحياء الإيمان الزرادشتي، بل لأنه دين عربي، ويشكّل اعتناقه أو فرضه على الإيرانيين وانتشاره تهديداً لهوّيتهم القومية.
إعادة انظر في التاريخ
من نافل القول إن اهتمام الإيرانيين بتاريخهم القديم، حديث العهد، ويعود إلى أوائل القرن التاسع عشر. وقد بدأوا بقراءة تاريخهم خارج رواية الدولة الإسلامية، في كتب لمستشرقين أوروبيين اهتمّوا بحضاراتهم وتمكّنوا من فكّ رموز الكتابة المسمارية الفارسية في خمسينيات القرن الماضي، وفي هذا السياق، ينقل الباحث الإيراني فشين مرعشي أن الإيرانيين حين تمكّنوا من فهم لغتهم القديمة المكتوبة، بدأوا بإعادة اكتشاف حضارتهم ما قبل الإسلامية، ما شكّل منعطفاً تاريخياً في وعيهم الجمعي، لكن ما لم يكتبه مرعشي أن هذا الوعي اكتسى ثوباً من الحدّة والكراهية تجاه العرب أولاً، ثم عزّزه الصراع مع النظام الإسلامي ثانياً، الذي اشتدّ في العقدين الأخيرين، وصار يُعرف بوصفه صراعاً بين هوّية فارسية أصيلة، وهوّية دينية (عربية) مفروضة.
وعليه، لا يقتصر احتجاج الإيرانيين بمختلف مستوياتهم، على تغيير اسم الخليج على التسمية فقط، بل يتعدّاها إلى اعتباره تحدّياً وجودياً لتاريخهم وهوّيتهم وذاكرتهم، فضلاً عن أن تمسكّهم بالتسمية الفارسية، يعكس استحالة تنازلهم عن الهيمنة، وعدم تصالحهم مع فكرة وجود صاحب حقّ آخر. في المقابل ترى الشعوب العربية التي تعيش على الضفّة الأخرى للخليج، أن الإصرار على استخدام الاسم الفارسي حصراً، تجاهل لحضورها ووجودها التاريخي في المنطقة، لذلك يمكن اعتبار ما أقدم عليه غوغل إعادة قراءة جغرافية مستحقّة للمنطقة، وأحد تجليّات الانسجام الهادئ بين الديمغرافيا والسياسة.
إقرأوا أيضاً:











