على رغم عدم مرور ثلاثين يوماً على المصادقة على قانون الجرائم الإلكترونية بتعديلاته الأخيرة حتى يدخل حيز التنفيذ ويصبح ساري المفعول، إلا أن مشاعر العجز، الشلل، التخبط، وحتى اليأس بدأت تجتاح صحافيين/ات أردنيين/ات، لم يتوحدوا في تلك المشاعر فقط، بل توحدوا أيضاً في طرح سؤال: “طب عن شو بدنا نكتب؟”.
بصرف النظر عن كثرة “التبريرات” التي لحقت بأسباب إقرار تعديل قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن من قبل الحكومة، وبغض النظر عن خطابات: “حماية المجتمع من الآفة الإلكترونية، وخطاب الكراهية، والتهديد، والابتزاز”، وبعيداً عن كل “حجج” أن القانون هو قانون جميع فئات المجتمع الأردني، إلا أن الحقيقة واحدة لمن هو مبصر للمشهد الأردني: تمت صناعة القانون وطبخه وهندسته ليستهدف فئة واحدة قبل أي فئة أخرى في الأردن، وهي الصحافة والصحافيين/ات.
لا شك في أن مواقع التواصل الاجتماعي نجحت إلى حد ما في “تهميش” مهنة الصحافة، واستطاعت أن تظهر أشخاصاً وناشطين دخلوا المهنة، وذلك “بفضل” سلسلة القيود المحيطة بالمشهد الصحافي الأردني خلال السنوات الماضية، إلا أنها فشلت في الوقت ذاته بالتفوق على بعض الصحافيين/ات الأردنيين/ات الذين تمسكوا برسالة مهنتهم/ن ضاربين بعرض الحائط أي قيد أمامهم/ن، إلا أنهم/ن اليوم أعلنوا صراحة ووفق ما جاء في أحاديث بعضهم لـ”درج”، رفعهم راية الاستسلام أمام قيد أكبر من أي قيد، وهو قانون الجرائم الإلكترونية.
وافقت الإرادة الملكية في الأردن يوم 12 آب/ أغسطس 2023، على إقرار قانون الجرائم الإلكترونية، لتحبط هذه الخطوة آخر معقل للأمل زرعه صحافيون/ات وحقوقيون/ات في الأردن لرد مشروع القانون الذي وُصف بمسميات عدة منها: “قاتل الحريات”.
ووفق مسير القوانين وتفعيلها على الأرض في الأردن، يعتبر صدور إرادة ملكية بالموافقة على تعديلات قانون الجرائم الإلكترونية، الحلقة الأخيرة التي “تشرع” أي قانون، وتتبعها ثلاثين يوماً من دخول قانون الجرائم الإلكترونية إلى حيز التنفيذ.
جاء إقرار القانون على رغم المطالبات الواسعة بضرورة سحبه لما يشكله من تقييد للحريات العامة بكل أشكالها. ومن بين مواد القانون، المادة الخامسة التي تنص على: “يعاقب كل من قام بإنشاء حساب أو صفحة أو مجموعة أو قناة أو ما يماثلها على منصات التواصل الاجتماعي ونسبها زوراً إلى شخص طبيعي أو معنوي، بالحبس مدّة لا تقل عن ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تقل عن 1500 دينار (2100 دولار) ولا تزيد عن 15 ألف دينار (21 ألف دولار) أو بكلتَي هاتين العقوبتين”.
يعتبر القانون الشخص المسؤول عن الإدارة الفعلية للصفحات والمجموعات عبر منصات التواصل الاجتماعي، مسؤولاً عن المحتوى غير القانوني، وبالتالي معاقبته عن الجرائم التي ترتكب خلافاً لأحكام قانون الجرائم الإلكترونية، وتجريم الأفعال التي من شأنها “اغتيال الشخصية”، إذ فرض عقوبة الحبس مدة لا تقلّ عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقلّ عن 25 ألف دينار (35 ألف دولار أميركي) ولا تزيد عن 50 ألف دينار (70 ألف دولار)، فيما رفض المجلس توضيح تعريف مصطلح “اغتيال الشخصية”.
يعتبر صدور إرادة ملكية بالموافقة على تعديلات قانون الجرائم الإلكترونية، الحلقة الأخيرة التي “تشرع” أي قانون، وتتبعها ثلاثين يوماً من دخول قانون الجرائم الإلكترونية إلى حيز التنفيذ.
الخوف من الانتقاد
“طب عن شو بدنا نكتب؟” سؤال يطرحه رئيس تحرير موقع “عمّان نت” الصحافي محمد عرسان مع صفوف صحافيين/ات في الأردن اليوم، والذي يقول لـ”درج”: “أصبح لدينا كصحافيين/ات قلق كبير من انتقاد أي مؤسسة حكومية وتسليط الضوء على الخلل في الأداء، وهذا بسبب قانون الجرائم الإلكترونية القديم والجديد، إذ تستطيع هذه المؤسسات بكل بساطة تقديم شكوى بحقك بسبب الكلمات المطاطة في القوانين الأردنية مثل ذم هيئة رسمية، وتعكير صفو المجتمع”.
ليست مشاعر القلق والعجز فقط التي تنتاب صحافيين/ات في الأردن بحسب عرسان، إذ “بدأت اليوم ترتفع الرقابة الذاتية لدى الصحافيين، وحسب تقرير لمركز حماية وحرية الصحافيين، بلغت هذه النسبة قبل سنوات 93 في المئة، وأعتقد مع القانون الجديد ستصل النسبة إلى 99.9 في المئة، هذا كله انتهاك للدستور الأردني والمواثيق الدولية”.
يستشهد عرسان بمثال حدث قبل نحو الأسبوعين، وهو الحكم على الصحافي الأردني خالد تركي المجالي بالحبس لمجرد أنه خرج ببث على موقع “فايسبوك” قائلاً: “الحكومة تتخوث”. ويوضح عرسان: “هذه الكلمة كلمة عامية أردنية تعني أن الحكومة غير جادة، وعليه تم توجيه تهمة ذم هيئة رسمية الى المجالي حركها الحق العام”.
وجاء الحكم على المجالي على خلفية دعوى حركها ضده “الحق العام” العام الماضي، خلال فترة ما عرف بـ”إضراب النقل” الذي حدث في المملكة أواخر العام الماضي. واللافت، أنه وقبل يوم من نطق المحكمة بصفتها الاستثنائية بحبس المجالي، أوقفت الأجهزة الأمنية الأردنية الصحافية الأردنية هبة أبو طه وحولتها الى المركز الأمني “المخفر”، إثر قرار قضائي سابق بحبسها ثلاثة أشهر، بتهمة “ذم هيئة رسمية”، ووافق مدعي عام عمّان بتكفيلها في اليوم الثاني من توقيفها.
كذلك، قرّرت محكمة صلح جزاء عمّان بصفتها الاستئنافية، يوم 9 آب 2023، الحكم بحبس الكاتب والصحافي الأردني أحمد حسن الزعبي سنة مع الغرامة، على خلفية دعوى رفعها ضدّه “الحقّ العام”.
تعود القضية إلى منشور كتبه الزعبي على صفحته إبان إضراب النقل، وجاء القرار بعدما كانت محكمة الصلح قد قرّرت حبس الزعبي شهرين، لكنّ النيابة العامة طعنت في الحكم، وتمّ قبول الطعن و”تغليظ العقوبة” على الزعبي فتقرّر حبسه سنة مع الغرامة.
تبحث الصحافية الأردنية (م.ح) كما جاء في حديثها معنا، عن قطاع آخر غير قطاع الحريات السياسية وحقوق الإنسان للكتابة عنه، إذ وكما تروي: “بدأت أتلقى ضربات القانون حتى قبل دخوله حيز التنفيذ، في المؤسسة التي أعمل فيها، حتى الآن تم رفض أربع مقترحات لمواد أكتب عنها، وتمت مراجعة مادتين قمت بكتابتهما مرات عدة قبل نشرهما، أشعر بالشلل!”.
يتكرر سؤال “عن شو بدنا نكتب” على لسان الصحافية (م.ح)، وتجيب نفسها متهكمة: “حتى لو فكرت ببديل عن ملف السياسة للكتابة عنه، كالأبراج مثلاً، فأنا وبفضل القانون لن أضمن ملاحقتي قانونياً، ربما لو نشرت أن اليوم سيكون سلبياً بالنسبة الى مواليد برج الجدي، سيلاحقني مولد من هذا البرج قانونياً بتهم عددي ولا حرج في القانون!”.
فيما يكشف رئيس تحرير موقع “جو 24” الصحافي الأردني باسل العكور لـ”درج”، عن عزم عشرات الصحافيين/ات في الأردن إغلاق حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي فور دخول قانون الجرائم الإلكترونية حيز التنفيذ، والذي سيكون في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر المقبل.
ويتابع،”لا نستطيع أن نتحمل نصوص القانون!” لافتاً إلى أن عزمه لن يتوقف عند إغلاق حساباته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، بل أيضاً سيغلق حسابات موقع “جو 24″، “لأننا لا نستطيع أن نتحمل نصوص القانون”.
يصف العكور تلك النصوص بأنها “تُدخل كل الأردنيين/ات في دائرة التجريم، وهذه مسائل تقلق العاملين/ات في مهنة الصحافة وتخيفهم. الضرر عميق وعميق جداً”، ويضيف: “نعم سيقولون هذا الي بدها إياه الحكومة، عند إغلاقنا لحساباتنا”، ويبرر في الوقت ذاته: “لا يستطيع أي صحافي/ة ولا حتى أي أردني/ة تحديداً المختلفين/ات عن الموقف الرسمي، مواجهة هذا القانون، كلنا نشعر بالخطر!”.
لم ينتظر الكاتب والمحلل السياسي الأردني الدكتور حسن البراري، مرور ثلاثين يوماً حتى يصبح قانون الجرائم الإلكترونية ساري المفعول، إذ يعلن لـ”درج” أنه أغلق حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، مبرراً ذلك بقوله: “أنا لست انتحارياً!”.
يقول البراري: “أعلم أن هناك أشخاصاً بعينهم سيستهدفهم القانون فور سريانه، وأعلم أيضاً أنني من ضمنهم، ولا أريد أن يتم سجني ولا أستطيع تحمل غرامات مالية مرهقة، وصدقيني لو كان الأمر محصوراً بمحاسبتي على ما أكتبه على مواقع التواصل الاجتماعي فإنني لن أغلقها، لكن عندما يصل الأمر أن تتم محاسبتي على التعليقات فهنا أعلن انسحابي من تلك المواقع”.
في ما يتعلق بجزئية محاسبة صاحب الصفحة على التعليقات، يتوقع البراري أنه “ليس ببعيد أن يتم زج من يوصفون بالذباب الإلكتروني ويكتبون تعليقات على ما يكتبه صحافيون/ان أو ناشطون أو كل من يغرد خارج سرب الحكومة، لذلك استبقت حدوث ذلك وأغلقت حساباتي”.
إقرأوا أيضاً:
لا آذان تصغي
خاطبت 11 منظمة حقوقية دولية من بينها “هيومن رايتس ووتش، أكسس ناو، وأرتيكل 19″، الحكومة الأردنية والملك وأصدرت بياناً مشتركاً دعت فيه إلى سحب قانون الجرائم الإلكترونية، واعتبرت أن من شأنه “أن يقوّض بشدة حرية التعبير على الإنترنت، ويهدد حق مستخدمي الإنترنت في إخفاء هويتهم، وإدخال هيئة جديدة للسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي من شأنها تمهيد الطريق لطفرة مقلقة في الرقابة على الإنترنت”.
وجاء في البيان: “نظراً الى الطبيعة القمعية والغامضة والمعقدة للقانون، ينبغي للمشرعين الأردنيين التشاور مع مجموعات المجتمع المدني لاستكشاف طرق بديلة تحترم الحقوق لمعالجة المخاوف المشروعة حول خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، والتي لا يواجهها الأردن وحده”، ونوه البيان أيضاً إلى أن القانون “لا يلبي المعايير والمبادئ الحقوقية الدولية الواردة في مختلف اتفاقيات الحقوق الرقمية، والتي سبق أن صادق عليها الأردن”.
خلال زيارة قصيرة لها الى الأردن، حذرت المديرة التنفيذية لـ “هيومن رايتس ووتش” تيرانا حسن، من تقلّص مساحة الحقوق المدنية وحرية التعبير، ووصفت “القمع والترهيب” من قبل الحكومة الأردنية بآثار “تقشعر لها الأبدان”، وقالت: “كان هناك تصاعد في القمع والترهيب، والنتيجة أننا نشهد قيوداً متزايدة على الحقوق والحريات في جميع أنحاء البلاد”.
وأشارت الى أن قانون الجرائم الإلكترونية “تم تمريره من خلال البرلمان بسرعة قياسية”، لافتة إلى أنه تم تجاهل جميع بواعث القلق العامة التي أثارتها “هيومن رايتس ووتش”، “بما في ذلك الاستئناف المباشر للملك عبد الله الثاني، وقد حاولنا مقابلة كبار المسؤولين الأردنيين لكن جميع طلباتنا رُفضت!”.
إقرأوا أيضاً: