fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الخيال الريعي للدولة المصريّة: من يشكر من؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تعاني مصر من حالة تأرجح مزمنة بين سياسات اقتصادية متناقضة. من ناحية، هناك ميل واضح نحو التحرير الاقتصادي وتقليص دور الدولة، بخاصة في ظل ضغوط المؤسسات المالية الدولية. ومن ناحية أخرى، هناك تمسك بالدور التقليدي للدولة في تقديم الدعم الاجتماعي والخدمات الأساسية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في المنيا، تفقّد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة المصري خالد عبدالغفار وحدة غسيل كلوي حديثة بمستشفى العدوة المركزي. أمامه اصطف مرضى يشتكون من طول فترات الانتظار قبل جلسة الغسيل. تململ الوزير من كثرة الشكاوى ليقاطعهم متسائلاً: “الدولة هي عاملة المكان الجميل ده ولحد دلوقتي مسمعتش كلمة متشكرين للدولة على المبنى الجميل”.

في هذا المشهد الخاطف، تتجلى صورة متكاملة لأزمة فكرية وهيكلية تعيشها الدولة المصرية. كان يمكن قراءة الموقف بسطحية واعتباره زلة لسان، لكنه في الحقيقة يكشف عن فلسفة متكاملة تحكم رؤية الطبقة الحاكمة لعلاقتها بالمواطن، وترسم ملامح تناقض جوهري في البنية السياسية والاقتصادية للدولة المصرية: خطاب يقدم الدولة بوصفها مانحاً يستحق الشكر، فيما تعتمد بشكل متزايد على أموال هؤلاء المواطنين أنفسهم.

العقلية الريعية: جذور تاريخية وواقع متغير

يقول عمرو عادلي، أحد المتخصصين في الاقتصاد السياسي المصري، إن نصيب القطاعات الريعية التقليدية (بترول وغاز طبيعي وعوائد قناة السويس) من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين 1990 و2012 لم يتجاوز الـ 11 في المئة. وحتى مع التوسع في تعريف الموارد الريعية لتشمل تحويلات العاملين بالخارج، فإن متوسط نصيب جميع أشكال الريع من الناتج المحلي في الفترة بين 1990 و2006 لا يتجاوز الـ 18.4 في المئة طبقاً لبيانات البنك المركزي المصري.

هذه الأرقام تقول بوضوح إن الاقتصاد المصري ليس اقتصاداً ريعياً بالمعنى التقليدي، إذ توضح أن القسم الأكبر من الناتج المحلي في مصر يأتي من قطاعات إنتاجية زراعية أو صناعية أو خدمية كالسياحة والاتصالات والخدمات العامة والمرافق. لكن المفارقة تكمن في أن وزن القطاعات الريعية في علاقة مصر بالاقتصاد العالمي لا يزال ضخماً بشكل غير متناسب. فصادرات الطاقة من بترول وغاز طبيعي مثلت ما يزيد على 50 في المئة من إجمالي الصادرات المصرية في الفترة ما بين 1980 و2011، ويتلقى قطاعا البترول والغاز ما يقرب من ثلثي الاستثمارات الأجنبية الإجمالية.

هذا الوضع أدى إلى ما يسميه عادلي “الريعية غير المتكافئة”، حيث يكون اعتماد الدولة في علاقتها الخارجية على موارد ريعية، بينما تأتي الغالبية العظمى من الناتج المحلي من قطاعات غير ريعية، هذا الانفصام ينعكس أيضاً على العقلية الإدارية للدولة، التي تتصرف وكأنها تمتلك موارد خاصة بها، منفصلة عن المجتمع، وتقدمها كمنح وعطايا للمواطنين.

وبينما تتحدث الدولة بلغة المانح الذي يقدم خدمات للشعب من موارده الخاصة، تكشف البيانات المالية الحديثة عن تحوّل جذري في هيكل إيرادات الدولة. فقد أظهرت بيانات وزارة المالية المصرية أن الإيرادات الضريبية تغذي نحو 87.9 في المئة من إجمالي الإيرادات في الموازنة العامة لمصر خلال الربع الأول من العام المالي 2024-2025. وارتفعت إيرادات الضرائب بنسبة 45 في المئة إلى 413.28 مليار جنيه مقابل نحو 285 مليار جنيه في الفترة نفسها من العام السابق.

هذه الأرقام تثبت أن الدولة المصرية اليوم هي في جوهرها “دولة ضرائب” وليست “دولة ريع”. وهنا يكمن التناقض الأساسي: الخطاب السياسي لا يزال يقدم الدولة بوصفها محسناً يمنح من موارده، بينما في الواقع تعتمد بشكل شبه كامل على جيوب المواطنين أنفسهم. المستشفى الذي يطلب وزير الصحة من المرضى شكر الدولة عليه لم تبنه الدولة من موارد منفصلة عن المجتمع، بل من أموال الضرائب التي دفعها المواطنون، أي أنها بنته من أموالهم هم.

يقول فواز طرابلسي في إحدى الندوات المتخصصة: “نبْذ الريعية وإعلاء شأن الاقتصاد الإنتاجي لم يكن موجوداً عندما كانت القسمة العالمية للعمل تتمحور حول بلدان تستورد المواد الطبيعية وتصدّر مواد مصنّعة وبلدان تصدّر المواد الطبيعية وتستورد السلع المصنّعة”. وهذا التحول في النظرة العالمية نحو الاقتصاد الإنتاجي لم يواكبه تحول مماثل في الخطاب السياسي المحلي.

إخفاقات السياسة الاقتصادية: الإنتاج الوهمي والتنمية المتعثّرة

يعاني الاقتصاد المصري من مشكلات هيكلية معقدة تتجلى في عجزه عن سد الفجوة الدولارية والاعتماد المتزايد على الاقتراض الخارجي بدلاً من التركيز على تعزيز الإنتاجية وزيادة تنافسية الصادرات. ترتبط هذه المشكلات بنمط الإنتاج وعلاقته بالخارج، ما يجعل الاقتصاد المصري عرضة لتقلبات الاقتصاد العالمي. كما أن غياب العدالة الضريبية وضعف قدرة الدولة على تحصيل الضرائب بشكل عادل يزيدان من تعقيد الأزمة الاقتصادية.

وفي السياق ذاته، يشير تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن مصر بحاجة ماسة إلى إصلاحات هيكلية لتحفيز النمو الاقتصادي بقيادة القطاع الخاص. تشمل هذه الإصلاحات تقليل هيمنة الدولة على الأنشطة الاقتصادية وتعزيز الأطر التنظيمية لدعم المنافسة العادلة. أما مركز العرب للأبحاث، فقد أكد أن الاقتصاد المصري يواجه تحديات عدة، أبرزها ارتفاع الدين العام، التضخم، والبطالة، إلى جانب الاعتماد الكبير على الواردات ونقص العملات الأجنبية، ما يؤثر سلباً على استقراره.

هذه التحديات الهيكلية تتطلب حلولاً جذرية تتجاوز السياسات الحالية القائمة على الاقتراض وإعادة تدوير الديون، وذلك من خلال تبني استراتيجيات تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات وتحقيق الاستدامة الاقتصادية.

يستمر هذا النمط على رغم تعاقب الحكومات، إذ تظهر الأرقام فشل سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتّبعتها الحكومة المصرية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بعد حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار. وبدلاً من معالجة الاختلالات الهيكلية، ركزت الدولة على مشاريع البنية التحتية والإسكان والعاصمة الإدارية الجديدة، وهي استثمارات قد تكون ضرورية، لكنها لا تعالج مشكلة الإنتاج الحقيقية.

هناك خمس أزمات رئيسية تعوق تطور القطاع الصناعي المصري: مشاكل تخصيص الأراضي الصناعية، والبيروقراطية في إصدار التراخيص، ونقص إمدادات الطاقة، وأزمة نقص الدولار، وضعف التشريعات المحفِّزة للاستثمار. وتشير الأرقام إلى أن نسبة توريد الغاز للمصانع لا تتعدى الـ 25 في المئة، والطاقة الإنتاجية للمصانع لا تتجاوز الـ 40 في المئة. هذا الوضع يعكس فشل الدولة في تحويل خطابها عن دعم الإنتاج إلى واقع ملموس.

خطابان متوازيان: خطاب سياسي يحاكي الماضي وواقع اقتصادي مختلف

ثمة مفارقة صارخة تتمثل في تمسّك الدولة بخطاب سياسي وإداري يعكس فلسفة الدولة الريعية، فيما تعتمد بشكل متزايد على الضرائب. وقد ازداد هذا التناقض حدّة مع تنامي دور القوات المسلحة في الاقتصاد المدني، إذ تتولى تنفيذ مشاريع ضخمة وتديرها، ما يعزز فكرة أن الدولة هي المنتج والمانح، وليست مجرد وسيط يعيد توزيع موارد المجتمع نفسه.

وقد كشفت دراسة نشرها مركز كارنيغي أن الحكومة المصرية، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي في العام 1991، لا تزال تتدخّل في الاقتصاد على نطاق واسع جداً من خلال القوانين والتنظيمات التي تسنّها. وقد دعا صندوق النقد الدولي في العام 2021 مصر إلى “تحقيق مركزية ملكية الدولة في كيان واحد”، والخروج من باقي الاقتصاد.

تعاني مصر من حالة تأرجح مزمنة بين سياسات اقتصادية متناقضة. من ناحية، هناك ميل واضح نحو التحرير الاقتصادي وتقليص دور الدولة، بخاصة في ظل ضغوط المؤسسات المالية الدولية. ومن ناحية أخرى، هناك تمسك بالدور التقليدي للدولة في تقديم الدعم الاجتماعي والخدمات الأساسية.

وتظهر هذه المعضلة في موازنة العام المالي 2024-2025، التي تستهدف نمواً بنسبة 4.2 في المئة ونمو الإيرادات غير الضريبية بنسبة 60 في المئة والضريبية 30 في المئة. وفي الوقت نفسه، وجه الرئيس المصري بزيادة مخصصات الصحة والتعليم بنسبة أكبر من 30 في المئة والدعم والحماية الاجتماعية إلى 636 مليار جنيه.

هذا التناقض ليس جديداً. فالحكومات المصرية المتعاقبة منذ السبعينات كانت تتبنى خطاباً يعكس قيم دولة الرفاه، بينما تتجه سياساتها الفعلية نحو التحرير الاقتصادي. وكانت النتيجة ما وصفه المحلل الاقتصادي إيهاب نافع بـ”المرض المزمن” الذي تعاني منه الحكومات المصرية، مثل عجز الموازنة والتضخم والبطالة.

تتطلب معالجة هذا التناقض إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، بحيث يعكس واقع التمويل الحقيقي للدولة. وتظهر الدراسات الحديثة أن مصر تحتاج إلى سياسات اقتصادية تعمل على توفير فرص عمل لائقة ومنتجة، وبناء اقتصاد متنوع وقادر على المنافسة، يعزز الاحتواء الاجتماعي ويرتفع فيه مستوى الثقة في الحكومة وعدالة توزيع الدخل والثروة.

ومن بين الإصلاحات المطلوبة، كما يقترح الخبراء، دعم استدامة النمو وضمان التقاسم العادل لثماره، وذلك من خلال العمل على زيادة الإنتاجية كأحد آليات زيادة معدل النمو والأجور الحقيقية، وإصلاح سوق المنتجات4. كما يحتاج دعم القطاع الخاص في مصر إلى بناء شراكات مبتكرة مع الحكومة، فبالنظر إلى حجم التحديات التي تواجهها مصر، سيكون من الصعب عليها توفير فرص عمل كافية في القطاع العام أو الحكومي للخريجين الجدد.

من يشكر من؟

عندما طلب وزير الصحة من المرضى في وحدة الغسيل الكلوي شكر الدولة على المبنى والأجهزة، كان يعبر عن رؤية متجذرة في الثقافة السياسية المصرية، وهي أن الدولة تقدم منحاً للمواطنين، وليست وكيلاً عنهم في إدارة مواردهم. لكن الحقيقة، كما تظهرها الأرقام، هي أن الدولة المصرية اليوم تعتمد بنسبة تتجاوز الـ 87 في المئة من إيراداتها على الضرائب، أي على أموال المواطنين أنفسهم.

في عالم تحكمه هذه الحقائق المالية، لا ينبغي للمواطنين أن يشكروا الدولة على خدمات ممولة من جيوبهم، بل يحق لهم أن يسألوا عن جودة هذه الخدمات وكفاءة الإنفاق العام. في المقابل، ينبغي للدولة أن تتحلى بالشفافية والمساءلة، وأن تنظر إلى نفسها كوكيل عن المواطنين في إدارة مواردهم، وليس كمالك لهذه الموارد.

هذا التحول الفكري ليس ترفاً فكرياً، بل شرط ضروري لتجاوز التناقضات التي تعوق التنمية في مصر. ففي عالم تحكمه تنافسية الإنتاج وكفاءة الأسواق، لم يعد هناك مكان للعقلية الريعية التي تعيق الإصلاح وتبرر استمرار أنماط الإدارة غير الكفوءة للموارد.

المفارقة الكبرى أن الدولة المصرية تواصل التمسك بالخيال الناصري الذي كان يقدمها بوصفها المنتج والمانح، فيما تتخلى عن الالتزامات الاجتماعية التي كانت ملازمة لذلك النموذج. وهو تناقض موروث من حقبة مبارك، يعوق تطور نموذج جديد للعلاقة بين الدولة والمواطن، نموذج يعترف بمسؤولية الدولة أمام دافعي الضرائب، ويقر بأن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي قبل كل شيء إدارة شفافة للموارد العامة.

09.04.2025
زمن القراءة: 7 minutes

تعاني مصر من حالة تأرجح مزمنة بين سياسات اقتصادية متناقضة. من ناحية، هناك ميل واضح نحو التحرير الاقتصادي وتقليص دور الدولة، بخاصة في ظل ضغوط المؤسسات المالية الدولية. ومن ناحية أخرى، هناك تمسك بالدور التقليدي للدولة في تقديم الدعم الاجتماعي والخدمات الأساسية.

في المنيا، تفقّد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة المصري خالد عبدالغفار وحدة غسيل كلوي حديثة بمستشفى العدوة المركزي. أمامه اصطف مرضى يشتكون من طول فترات الانتظار قبل جلسة الغسيل. تململ الوزير من كثرة الشكاوى ليقاطعهم متسائلاً: “الدولة هي عاملة المكان الجميل ده ولحد دلوقتي مسمعتش كلمة متشكرين للدولة على المبنى الجميل”.

في هذا المشهد الخاطف، تتجلى صورة متكاملة لأزمة فكرية وهيكلية تعيشها الدولة المصرية. كان يمكن قراءة الموقف بسطحية واعتباره زلة لسان، لكنه في الحقيقة يكشف عن فلسفة متكاملة تحكم رؤية الطبقة الحاكمة لعلاقتها بالمواطن، وترسم ملامح تناقض جوهري في البنية السياسية والاقتصادية للدولة المصرية: خطاب يقدم الدولة بوصفها مانحاً يستحق الشكر، فيما تعتمد بشكل متزايد على أموال هؤلاء المواطنين أنفسهم.

العقلية الريعية: جذور تاريخية وواقع متغير

يقول عمرو عادلي، أحد المتخصصين في الاقتصاد السياسي المصري، إن نصيب القطاعات الريعية التقليدية (بترول وغاز طبيعي وعوائد قناة السويس) من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين 1990 و2012 لم يتجاوز الـ 11 في المئة. وحتى مع التوسع في تعريف الموارد الريعية لتشمل تحويلات العاملين بالخارج، فإن متوسط نصيب جميع أشكال الريع من الناتج المحلي في الفترة بين 1990 و2006 لا يتجاوز الـ 18.4 في المئة طبقاً لبيانات البنك المركزي المصري.

هذه الأرقام تقول بوضوح إن الاقتصاد المصري ليس اقتصاداً ريعياً بالمعنى التقليدي، إذ توضح أن القسم الأكبر من الناتج المحلي في مصر يأتي من قطاعات إنتاجية زراعية أو صناعية أو خدمية كالسياحة والاتصالات والخدمات العامة والمرافق. لكن المفارقة تكمن في أن وزن القطاعات الريعية في علاقة مصر بالاقتصاد العالمي لا يزال ضخماً بشكل غير متناسب. فصادرات الطاقة من بترول وغاز طبيعي مثلت ما يزيد على 50 في المئة من إجمالي الصادرات المصرية في الفترة ما بين 1980 و2011، ويتلقى قطاعا البترول والغاز ما يقرب من ثلثي الاستثمارات الأجنبية الإجمالية.

هذا الوضع أدى إلى ما يسميه عادلي “الريعية غير المتكافئة”، حيث يكون اعتماد الدولة في علاقتها الخارجية على موارد ريعية، بينما تأتي الغالبية العظمى من الناتج المحلي من قطاعات غير ريعية، هذا الانفصام ينعكس أيضاً على العقلية الإدارية للدولة، التي تتصرف وكأنها تمتلك موارد خاصة بها، منفصلة عن المجتمع، وتقدمها كمنح وعطايا للمواطنين.

وبينما تتحدث الدولة بلغة المانح الذي يقدم خدمات للشعب من موارده الخاصة، تكشف البيانات المالية الحديثة عن تحوّل جذري في هيكل إيرادات الدولة. فقد أظهرت بيانات وزارة المالية المصرية أن الإيرادات الضريبية تغذي نحو 87.9 في المئة من إجمالي الإيرادات في الموازنة العامة لمصر خلال الربع الأول من العام المالي 2024-2025. وارتفعت إيرادات الضرائب بنسبة 45 في المئة إلى 413.28 مليار جنيه مقابل نحو 285 مليار جنيه في الفترة نفسها من العام السابق.

هذه الأرقام تثبت أن الدولة المصرية اليوم هي في جوهرها “دولة ضرائب” وليست “دولة ريع”. وهنا يكمن التناقض الأساسي: الخطاب السياسي لا يزال يقدم الدولة بوصفها محسناً يمنح من موارده، بينما في الواقع تعتمد بشكل شبه كامل على جيوب المواطنين أنفسهم. المستشفى الذي يطلب وزير الصحة من المرضى شكر الدولة عليه لم تبنه الدولة من موارد منفصلة عن المجتمع، بل من أموال الضرائب التي دفعها المواطنون، أي أنها بنته من أموالهم هم.

يقول فواز طرابلسي في إحدى الندوات المتخصصة: “نبْذ الريعية وإعلاء شأن الاقتصاد الإنتاجي لم يكن موجوداً عندما كانت القسمة العالمية للعمل تتمحور حول بلدان تستورد المواد الطبيعية وتصدّر مواد مصنّعة وبلدان تصدّر المواد الطبيعية وتستورد السلع المصنّعة”. وهذا التحول في النظرة العالمية نحو الاقتصاد الإنتاجي لم يواكبه تحول مماثل في الخطاب السياسي المحلي.

إخفاقات السياسة الاقتصادية: الإنتاج الوهمي والتنمية المتعثّرة

يعاني الاقتصاد المصري من مشكلات هيكلية معقدة تتجلى في عجزه عن سد الفجوة الدولارية والاعتماد المتزايد على الاقتراض الخارجي بدلاً من التركيز على تعزيز الإنتاجية وزيادة تنافسية الصادرات. ترتبط هذه المشكلات بنمط الإنتاج وعلاقته بالخارج، ما يجعل الاقتصاد المصري عرضة لتقلبات الاقتصاد العالمي. كما أن غياب العدالة الضريبية وضعف قدرة الدولة على تحصيل الضرائب بشكل عادل يزيدان من تعقيد الأزمة الاقتصادية.

وفي السياق ذاته، يشير تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن مصر بحاجة ماسة إلى إصلاحات هيكلية لتحفيز النمو الاقتصادي بقيادة القطاع الخاص. تشمل هذه الإصلاحات تقليل هيمنة الدولة على الأنشطة الاقتصادية وتعزيز الأطر التنظيمية لدعم المنافسة العادلة. أما مركز العرب للأبحاث، فقد أكد أن الاقتصاد المصري يواجه تحديات عدة، أبرزها ارتفاع الدين العام، التضخم، والبطالة، إلى جانب الاعتماد الكبير على الواردات ونقص العملات الأجنبية، ما يؤثر سلباً على استقراره.

هذه التحديات الهيكلية تتطلب حلولاً جذرية تتجاوز السياسات الحالية القائمة على الاقتراض وإعادة تدوير الديون، وذلك من خلال تبني استراتيجيات تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات وتحقيق الاستدامة الاقتصادية.

يستمر هذا النمط على رغم تعاقب الحكومات، إذ تظهر الأرقام فشل سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتّبعتها الحكومة المصرية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بعد حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار. وبدلاً من معالجة الاختلالات الهيكلية، ركزت الدولة على مشاريع البنية التحتية والإسكان والعاصمة الإدارية الجديدة، وهي استثمارات قد تكون ضرورية، لكنها لا تعالج مشكلة الإنتاج الحقيقية.

هناك خمس أزمات رئيسية تعوق تطور القطاع الصناعي المصري: مشاكل تخصيص الأراضي الصناعية، والبيروقراطية في إصدار التراخيص، ونقص إمدادات الطاقة، وأزمة نقص الدولار، وضعف التشريعات المحفِّزة للاستثمار. وتشير الأرقام إلى أن نسبة توريد الغاز للمصانع لا تتعدى الـ 25 في المئة، والطاقة الإنتاجية للمصانع لا تتجاوز الـ 40 في المئة. هذا الوضع يعكس فشل الدولة في تحويل خطابها عن دعم الإنتاج إلى واقع ملموس.

خطابان متوازيان: خطاب سياسي يحاكي الماضي وواقع اقتصادي مختلف

ثمة مفارقة صارخة تتمثل في تمسّك الدولة بخطاب سياسي وإداري يعكس فلسفة الدولة الريعية، فيما تعتمد بشكل متزايد على الضرائب. وقد ازداد هذا التناقض حدّة مع تنامي دور القوات المسلحة في الاقتصاد المدني، إذ تتولى تنفيذ مشاريع ضخمة وتديرها، ما يعزز فكرة أن الدولة هي المنتج والمانح، وليست مجرد وسيط يعيد توزيع موارد المجتمع نفسه.

وقد كشفت دراسة نشرها مركز كارنيغي أن الحكومة المصرية، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي في العام 1991، لا تزال تتدخّل في الاقتصاد على نطاق واسع جداً من خلال القوانين والتنظيمات التي تسنّها. وقد دعا صندوق النقد الدولي في العام 2021 مصر إلى “تحقيق مركزية ملكية الدولة في كيان واحد”، والخروج من باقي الاقتصاد.

تعاني مصر من حالة تأرجح مزمنة بين سياسات اقتصادية متناقضة. من ناحية، هناك ميل واضح نحو التحرير الاقتصادي وتقليص دور الدولة، بخاصة في ظل ضغوط المؤسسات المالية الدولية. ومن ناحية أخرى، هناك تمسك بالدور التقليدي للدولة في تقديم الدعم الاجتماعي والخدمات الأساسية.

وتظهر هذه المعضلة في موازنة العام المالي 2024-2025، التي تستهدف نمواً بنسبة 4.2 في المئة ونمو الإيرادات غير الضريبية بنسبة 60 في المئة والضريبية 30 في المئة. وفي الوقت نفسه، وجه الرئيس المصري بزيادة مخصصات الصحة والتعليم بنسبة أكبر من 30 في المئة والدعم والحماية الاجتماعية إلى 636 مليار جنيه.

هذا التناقض ليس جديداً. فالحكومات المصرية المتعاقبة منذ السبعينات كانت تتبنى خطاباً يعكس قيم دولة الرفاه، بينما تتجه سياساتها الفعلية نحو التحرير الاقتصادي. وكانت النتيجة ما وصفه المحلل الاقتصادي إيهاب نافع بـ”المرض المزمن” الذي تعاني منه الحكومات المصرية، مثل عجز الموازنة والتضخم والبطالة.

تتطلب معالجة هذا التناقض إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، بحيث يعكس واقع التمويل الحقيقي للدولة. وتظهر الدراسات الحديثة أن مصر تحتاج إلى سياسات اقتصادية تعمل على توفير فرص عمل لائقة ومنتجة، وبناء اقتصاد متنوع وقادر على المنافسة، يعزز الاحتواء الاجتماعي ويرتفع فيه مستوى الثقة في الحكومة وعدالة توزيع الدخل والثروة.

ومن بين الإصلاحات المطلوبة، كما يقترح الخبراء، دعم استدامة النمو وضمان التقاسم العادل لثماره، وذلك من خلال العمل على زيادة الإنتاجية كأحد آليات زيادة معدل النمو والأجور الحقيقية، وإصلاح سوق المنتجات4. كما يحتاج دعم القطاع الخاص في مصر إلى بناء شراكات مبتكرة مع الحكومة، فبالنظر إلى حجم التحديات التي تواجهها مصر، سيكون من الصعب عليها توفير فرص عمل كافية في القطاع العام أو الحكومي للخريجين الجدد.

من يشكر من؟

عندما طلب وزير الصحة من المرضى في وحدة الغسيل الكلوي شكر الدولة على المبنى والأجهزة، كان يعبر عن رؤية متجذرة في الثقافة السياسية المصرية، وهي أن الدولة تقدم منحاً للمواطنين، وليست وكيلاً عنهم في إدارة مواردهم. لكن الحقيقة، كما تظهرها الأرقام، هي أن الدولة المصرية اليوم تعتمد بنسبة تتجاوز الـ 87 في المئة من إيراداتها على الضرائب، أي على أموال المواطنين أنفسهم.

في عالم تحكمه هذه الحقائق المالية، لا ينبغي للمواطنين أن يشكروا الدولة على خدمات ممولة من جيوبهم، بل يحق لهم أن يسألوا عن جودة هذه الخدمات وكفاءة الإنفاق العام. في المقابل، ينبغي للدولة أن تتحلى بالشفافية والمساءلة، وأن تنظر إلى نفسها كوكيل عن المواطنين في إدارة مواردهم، وليس كمالك لهذه الموارد.

هذا التحول الفكري ليس ترفاً فكرياً، بل شرط ضروري لتجاوز التناقضات التي تعوق التنمية في مصر. ففي عالم تحكمه تنافسية الإنتاج وكفاءة الأسواق، لم يعد هناك مكان للعقلية الريعية التي تعيق الإصلاح وتبرر استمرار أنماط الإدارة غير الكفوءة للموارد.

المفارقة الكبرى أن الدولة المصرية تواصل التمسك بالخيال الناصري الذي كان يقدمها بوصفها المنتج والمانح، فيما تتخلى عن الالتزامات الاجتماعية التي كانت ملازمة لذلك النموذج. وهو تناقض موروث من حقبة مبارك، يعوق تطور نموذج جديد للعلاقة بين الدولة والمواطن، نموذج يعترف بمسؤولية الدولة أمام دافعي الضرائب، ويقر بأن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي قبل كل شيء إدارة شفافة للموارد العامة.

09.04.2025
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية