fbpx

الدراما السوريّة… محاولات تفسير الرغبة في “الشبيح”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تعد المسلسلات السوريّة أسلوباً تبيحه السلطة كي يفرّغ المواطنون غضبهم، بل أصبحت وسيلة لتطبيع العلاقة بين الضحية والجلاد، الشبيح والمواطن، تاجر المخدرات وأزلامه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأت قبل أشهر في سوريا التجهيزات للموسم الرمضاني المقبل، وانطلقت عمليات التصوير داخل سوريا وفي لبنان والإمارات، وحُسمت شؤون التمويل المحلي والخليجيّ، وضُبطت المسلسلات وكيفية استعراض الحكاية السورية الرسمية بأطيافها، بدءاً من المباشرة والفجاجة في استعراض صور الدمار وتبنّي السردية الرسمية بحذافيرها، انتهاء بتلك التي توارب أسباب الخراب وتتجاهلها، تتخلل ذلك، إن كان التصوير في الإمارات العربية المتحدة، لقطات دعائية تستعرض دبي وعماراتها اللماعة.

يلبي “استهلاك” المسلسلات رغبة الجماهير العربية عموماً وبخاصة السورية في سلوى آمنة، هي نوع مرضٍ من الفنون التي يبحث عنها “الإنسان الممزّق” وفق تعبير لوكاش، إذ تحقق إثارة ومتابعة آمنة ومحايدة، والحديث عنها “داخلاً” لا يسبب مشكلات، بعكس القراءة الناقدة، التي تقدمها صحف وأكاديميات، ترى المسلسلات كعلامات على البروباغندا والسطوة السياسيّة ضمن ما يُسمى تقنيات إنتاج الطاعة.

يمكن أن نصنف المسلسلات السوريّة كفنّ يقوم على التقليد، ولا نقصد بالتقليد هنا طريقة نجيب محفوظ في ابتداع صورة فنية لتناقض اجتماعي واقعي، بقدر ما هو انتقاء لأكثر حالات الواقعية لا أخلاقية  وجعلها فناً معاشاً ومقبولاً.

إن كان الفن في أحد أوجهه الكلاسيكية تقليداً للواقع، فالدراما السورية في غالبيتها إنتاج لأبشع ما عاشته سوريا في السنوات الأخيرة. 

ما يثير الدهشة هو الانجذاب الجماهيري إليها، خصوصاً أن بعض هذه المسلسلات، بعكس تلك الغربية، لا تقدم “مُتخيلاً” لواقع مبالغ في عنفه أو ألمه، بل تنقل ما يختبره السوريون الآن، أي علاقات العصابات وحكمها لهم، فماضي الحلقة والمسلسل هو الواقع الآني، وهنا يتضح الخلاف الاستنتاجي بين أن تشاهد مسلسلاً عن إسكوبار تدور أحداثه في التسعينات، وأن تشاهد مسلسلاً عن عصابات النظام السوري التي نعيش معها يومياً.

إن كان الفن في أحد أوجهه الكلاسيكية تقليداً للواقع، فالدراما السورية في غالبيتها إنتاج لأبشع ما عاشته سوريا في السنوات الأخيرة.

لا مفرّ أمام الإنسان الممزق 

يشير لوكاش إلى الإنسان الممزق بوصفه منفصلاً عن أي دائرة تُعنى بحياته اليومية (الاقتصاد، القوننة، المجتمع، الدولة..)، تلك التي لا يتناولها الفن. ويبدأ التمزّق باستهلاك الواقع الذي يُمكن الهروب منه جزئياً بمشاهدة التلفزيون والتماهي مع شخصياته، لكن حين يصبح الفن تقليداً مباشراً للواقع، نرى أنفسنا أمام (أردأ) أنواع الفنون، ذاك الذي يُحاكي واقعاً تمكن مشاهدته عبر أي صفحة إخبارية أو جولة في أحد شوارع سوريا، ولا مكان للهرب من الواقع الرديء.

لا يكتفي الإنسان السوري بحالة التمزق الضمنية، بل يتحول إلى إنسان رغبوي ومتفاعل مع حيوات مجتمعه من فساد وتسلّط ورغبة وعلاقات لا أخلاقية لا يُمكن الهروب منها، خصوصاً أن سلطة الإنتاج لا تتعلق بالرقابة السورية فقط، إذ يرفض المُنتِج الخليجي المُسيطر على السوق والقنوات أي نص درامي سوري متعلق بواقعية سورية، فأي دلالة سياسية تشكل عائقاً أمام عرض المسلسل بالتالي إنتاجه، نذكر هنا أكثر الأمثلة حياداً، مسلسل “المنصة”، الذي تدور أحداثه في اللامكان، ضمن حبكة ساذجة، تتركنا حائرين وبلا إجابة عن  السؤال الأبسط في أي حكاية: مَن الأشرار ومَن الأخيار ؟ لا نعرف.

أدت الثورة السورية  إلى انحدار الإنتاج المحليّ، بسبب المال بداية إضافة إلى المواقف السياسية التي شتّتت الصف الفنيّ، ما جعل (الدراما) تحت إمرة المُنتج الخليجي، وأدخل الكتّاب السوريين في نوع من الإنكار، أي تجاهل ما يعيشونه وكتابة نسخة (محايدة) عنه، وكان الحل (الخليجيّ) نزع الكتّاب من سوريا، ومنحهم إقامة ذهبية في دولة الإمارات العربية، ليكتبوا عن واقع آخر بواقعية تناسب الواقع السياسي المُحايد والبعيد من الحرب.

انتزاع الحرب وآثارها من النصوص الدراميّة شرط لا بد منه، يُستثى منها ما يتناول حيوات العصابات والإجرام، ومعاناة الناس والعقبات اليومية، هذا “الخط الدرامي” قد لا يكون جذاباً  لدول الاستقرار، لكن القتل والعنف والسرقة تحمل بُعداً جذاباً للجميع، وبطل هذه الحبكات الجديد، الشبيح.

تطبيع الفساد والتشبيح

أشهر المسلسلات السورية في العام الفائت، والذي يتم تحضير جزء ثانٍ له حالياً، كان “كسر عظم”، الذي صوّر البلاد كما هي وفق تعليق بعض من شاهدوه، لكن الفرق هو معيار الاستجابة النفسية لدى المشاهدين، إذ لم تعد الدلالة الاستجابية تُعنى بالتنفيس عن المواطن، أو إفراغ شحنة الغضب عبر المشاهد التي تعكس فساد النظام وعُنفه، بل بخلق المتعة، وترسيخ نزعة قهرية ضمنية، تشير إلى أن قدر هذه الشعوب أن تكون متماهية مع العنف الذي تشكل جزءاً منه، بل وتأكيد أن “كل ما حصل” سببه السوريون لا النظام.

في العادة، تُستخدم نظرية التنفيس الانفعالي الوجداني لفهم دراما الفساد والتشبيح السورية، لكن ما لا تتم ملاحظته هو تغيّر الاستجابة النفسية لدى السوريين، فشخصية “أبو نبال” التي أداها باسم ياخور في أجزاء مسلسل “ولادة من الخاصرة”، أصبحت معيار لغة ولهجة معينة، يتداولها الشبّان ويقتبسون منها، إذ قلّ الحذر عند تقليد الشبيح أو رجل الأمن، الذي نراه على الشاشة كما نراه في الشارع، وعوضاً عن التنفيس، طغى التبني والتفاخر بهذا الدور.

تنتقل الشخصيات الدرامية سريعاً إلى الشارع، إذ يميل المشاهدون إلى إعادة إنتاج الكاركتر التلفزيوني في حيواتهم، كظل لهم بسبب نقص التعبير وغيابه، ولم تعد شخصية الشبيح قهرية، بل يُمكن تلطيفها وقبولها عبر تقليدها والضحك عليها. لا يعني ذلك غياب الحذر، فـ”الشبيحة” أنفسهم تبنوا هذه الشخصيات بوصفها تمثيلاً لهم، وسيم الأسد، يستعرض سياراته ويقتبس في منشوراته من شخصية “شيخ الجبل” في مسلسل “الهيبة” من دون أن يرفّ له جفن.

لم تعد الدراما تنفيسية كما يُصطلح في التبريرات السطحية، فـ”الجرأة” في طرح القضايا لم تعد المعيار، إذ أصبح الشارع والخبر الصحافي والقصص المقروءة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ مصادر لإثارة وقهر أكبر، ناهيك بأن اللعبة افتُضحت، فبعض الممثلين أصدقاء للشبيحة يعايدونهم وينشرون صوراً معهم. هم أيضاً، أي الممثلون، جزء من “الحل السياسي” الذي روّج له الأسد بداية الثورة، إذ تحوّل الممثل إلى جزء من الخطاب الرسمي، لا عبر دوره فقط، بل عبر شخصه أيضاً.

كيف تكتب مسلسلاً من دون تأليفه

وصلني اتصال من صديق أعمل معه في الصحافة الاستقصائية، ونقل لي طلب أحد أشخاص ورشة كتابة مسلسل “كسر عظم – الجزء الثاني” إعطاءه قصة من القصص التي رصدتها عن الفساد كي يستفيد منها كتّاب العمل. اللافت أن مخرجة العمل، رشا شربتجي، زوجة لواء كبير في الأمن، وكاتب العمل تحت إشرافها، بالتالي البحث عن قضايا فساد حقيقية لعرضها يتم ضمن تواطؤ بين جهة العرض، وشركة الإنتاج والنظام، ما يعني استمتاعاً بآلامنا وعذاباتنا حوّل التنفيس نحو متعة استعراضيّة من نوع ما، أجرؤ وأقول إن هناك شيئاً من  المتعة في الرهان على رغبة بعض الشبان في أن يكونوا شبيحة.

لا يطالب أحد بأن يحمل الفن أخلاقاً معينة، لكن أن يكون الفن معايشاً لجريمة تحصل يومياً من دون الإشارة بصدق إلى سببها، فأمر غير اعتيادي، يمكن تفسير ذلك بأن المسلسلات  تستعرض إيديولوجيا العنف وطرائق الحياة اللاأخلاقية، وترسم متخيلاً عن علاقة السلطة مع مواطنيها، وكيفية التعامل مع المواقف المختلفة، والأهم تشير إلى تقنيات “التكيف” مع الوضع القائم.

أستطرد من دون يقين، مفترضاً أن هناك شيئاً جذّاباً في قائد النظام بحد ذاته، إذ بات يُسمى إسكوبار الشرق، وصدر قانون أميركي لملاحقته كزعيم حوّل الدولة إلى كارتيل يدير عمليات إنتاج (الكبتاغون)، أفترض هنا بحذر انسياق  أزلام النظام وراء هذه الإدانة، ولو في شكل لا واع، فنحن أمام رئيس ذي اسم عالميّ، وعصابة وعلاقات جعلته ذا سطوة تفوق التي كانت تحيط به كديكتاتور.

خطورة هذه الإنتاجات التلفزيونيّة أنها مُتعة قهرية، جانب منها يسعى الى تسويق النظام أمام شعبه وتطبيع الوضع القائم، لتصبح صورة الشبيح مقبولة، وجانب آخر يقدّم صورة تختلف عن حالة السوري المستكين المستضعف، تلك التي لا تحوي قيمة أو لذّة.

18.01.2023
زمن القراءة: 5 minutes

لم تعد المسلسلات السوريّة أسلوباً تبيحه السلطة كي يفرّغ المواطنون غضبهم، بل أصبحت وسيلة لتطبيع العلاقة بين الضحية والجلاد، الشبيح والمواطن، تاجر المخدرات وأزلامه.

بدأت قبل أشهر في سوريا التجهيزات للموسم الرمضاني المقبل، وانطلقت عمليات التصوير داخل سوريا وفي لبنان والإمارات، وحُسمت شؤون التمويل المحلي والخليجيّ، وضُبطت المسلسلات وكيفية استعراض الحكاية السورية الرسمية بأطيافها، بدءاً من المباشرة والفجاجة في استعراض صور الدمار وتبنّي السردية الرسمية بحذافيرها، انتهاء بتلك التي توارب أسباب الخراب وتتجاهلها، تتخلل ذلك، إن كان التصوير في الإمارات العربية المتحدة، لقطات دعائية تستعرض دبي وعماراتها اللماعة.

يلبي “استهلاك” المسلسلات رغبة الجماهير العربية عموماً وبخاصة السورية في سلوى آمنة، هي نوع مرضٍ من الفنون التي يبحث عنها “الإنسان الممزّق” وفق تعبير لوكاش، إذ تحقق إثارة ومتابعة آمنة ومحايدة، والحديث عنها “داخلاً” لا يسبب مشكلات، بعكس القراءة الناقدة، التي تقدمها صحف وأكاديميات، ترى المسلسلات كعلامات على البروباغندا والسطوة السياسيّة ضمن ما يُسمى تقنيات إنتاج الطاعة.

يمكن أن نصنف المسلسلات السوريّة كفنّ يقوم على التقليد، ولا نقصد بالتقليد هنا طريقة نجيب محفوظ في ابتداع صورة فنية لتناقض اجتماعي واقعي، بقدر ما هو انتقاء لأكثر حالات الواقعية لا أخلاقية  وجعلها فناً معاشاً ومقبولاً.

إن كان الفن في أحد أوجهه الكلاسيكية تقليداً للواقع، فالدراما السورية في غالبيتها إنتاج لأبشع ما عاشته سوريا في السنوات الأخيرة. 

ما يثير الدهشة هو الانجذاب الجماهيري إليها، خصوصاً أن بعض هذه المسلسلات، بعكس تلك الغربية، لا تقدم “مُتخيلاً” لواقع مبالغ في عنفه أو ألمه، بل تنقل ما يختبره السوريون الآن، أي علاقات العصابات وحكمها لهم، فماضي الحلقة والمسلسل هو الواقع الآني، وهنا يتضح الخلاف الاستنتاجي بين أن تشاهد مسلسلاً عن إسكوبار تدور أحداثه في التسعينات، وأن تشاهد مسلسلاً عن عصابات النظام السوري التي نعيش معها يومياً.

إن كان الفن في أحد أوجهه الكلاسيكية تقليداً للواقع، فالدراما السورية في غالبيتها إنتاج لأبشع ما عاشته سوريا في السنوات الأخيرة.

لا مفرّ أمام الإنسان الممزق 

يشير لوكاش إلى الإنسان الممزق بوصفه منفصلاً عن أي دائرة تُعنى بحياته اليومية (الاقتصاد، القوننة، المجتمع، الدولة..)، تلك التي لا يتناولها الفن. ويبدأ التمزّق باستهلاك الواقع الذي يُمكن الهروب منه جزئياً بمشاهدة التلفزيون والتماهي مع شخصياته، لكن حين يصبح الفن تقليداً مباشراً للواقع، نرى أنفسنا أمام (أردأ) أنواع الفنون، ذاك الذي يُحاكي واقعاً تمكن مشاهدته عبر أي صفحة إخبارية أو جولة في أحد شوارع سوريا، ولا مكان للهرب من الواقع الرديء.

لا يكتفي الإنسان السوري بحالة التمزق الضمنية، بل يتحول إلى إنسان رغبوي ومتفاعل مع حيوات مجتمعه من فساد وتسلّط ورغبة وعلاقات لا أخلاقية لا يُمكن الهروب منها، خصوصاً أن سلطة الإنتاج لا تتعلق بالرقابة السورية فقط، إذ يرفض المُنتِج الخليجي المُسيطر على السوق والقنوات أي نص درامي سوري متعلق بواقعية سورية، فأي دلالة سياسية تشكل عائقاً أمام عرض المسلسل بالتالي إنتاجه، نذكر هنا أكثر الأمثلة حياداً، مسلسل “المنصة”، الذي تدور أحداثه في اللامكان، ضمن حبكة ساذجة، تتركنا حائرين وبلا إجابة عن  السؤال الأبسط في أي حكاية: مَن الأشرار ومَن الأخيار ؟ لا نعرف.

أدت الثورة السورية  إلى انحدار الإنتاج المحليّ، بسبب المال بداية إضافة إلى المواقف السياسية التي شتّتت الصف الفنيّ، ما جعل (الدراما) تحت إمرة المُنتج الخليجي، وأدخل الكتّاب السوريين في نوع من الإنكار، أي تجاهل ما يعيشونه وكتابة نسخة (محايدة) عنه، وكان الحل (الخليجيّ) نزع الكتّاب من سوريا، ومنحهم إقامة ذهبية في دولة الإمارات العربية، ليكتبوا عن واقع آخر بواقعية تناسب الواقع السياسي المُحايد والبعيد من الحرب.

انتزاع الحرب وآثارها من النصوص الدراميّة شرط لا بد منه، يُستثى منها ما يتناول حيوات العصابات والإجرام، ومعاناة الناس والعقبات اليومية، هذا “الخط الدرامي” قد لا يكون جذاباً  لدول الاستقرار، لكن القتل والعنف والسرقة تحمل بُعداً جذاباً للجميع، وبطل هذه الحبكات الجديد، الشبيح.

تطبيع الفساد والتشبيح

أشهر المسلسلات السورية في العام الفائت، والذي يتم تحضير جزء ثانٍ له حالياً، كان “كسر عظم”، الذي صوّر البلاد كما هي وفق تعليق بعض من شاهدوه، لكن الفرق هو معيار الاستجابة النفسية لدى المشاهدين، إذ لم تعد الدلالة الاستجابية تُعنى بالتنفيس عن المواطن، أو إفراغ شحنة الغضب عبر المشاهد التي تعكس فساد النظام وعُنفه، بل بخلق المتعة، وترسيخ نزعة قهرية ضمنية، تشير إلى أن قدر هذه الشعوب أن تكون متماهية مع العنف الذي تشكل جزءاً منه، بل وتأكيد أن “كل ما حصل” سببه السوريون لا النظام.

في العادة، تُستخدم نظرية التنفيس الانفعالي الوجداني لفهم دراما الفساد والتشبيح السورية، لكن ما لا تتم ملاحظته هو تغيّر الاستجابة النفسية لدى السوريين، فشخصية “أبو نبال” التي أداها باسم ياخور في أجزاء مسلسل “ولادة من الخاصرة”، أصبحت معيار لغة ولهجة معينة، يتداولها الشبّان ويقتبسون منها، إذ قلّ الحذر عند تقليد الشبيح أو رجل الأمن، الذي نراه على الشاشة كما نراه في الشارع، وعوضاً عن التنفيس، طغى التبني والتفاخر بهذا الدور.

تنتقل الشخصيات الدرامية سريعاً إلى الشارع، إذ يميل المشاهدون إلى إعادة إنتاج الكاركتر التلفزيوني في حيواتهم، كظل لهم بسبب نقص التعبير وغيابه، ولم تعد شخصية الشبيح قهرية، بل يُمكن تلطيفها وقبولها عبر تقليدها والضحك عليها. لا يعني ذلك غياب الحذر، فـ”الشبيحة” أنفسهم تبنوا هذه الشخصيات بوصفها تمثيلاً لهم، وسيم الأسد، يستعرض سياراته ويقتبس في منشوراته من شخصية “شيخ الجبل” في مسلسل “الهيبة” من دون أن يرفّ له جفن.

لم تعد الدراما تنفيسية كما يُصطلح في التبريرات السطحية، فـ”الجرأة” في طرح القضايا لم تعد المعيار، إذ أصبح الشارع والخبر الصحافي والقصص المقروءة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ مصادر لإثارة وقهر أكبر، ناهيك بأن اللعبة افتُضحت، فبعض الممثلين أصدقاء للشبيحة يعايدونهم وينشرون صوراً معهم. هم أيضاً، أي الممثلون، جزء من “الحل السياسي” الذي روّج له الأسد بداية الثورة، إذ تحوّل الممثل إلى جزء من الخطاب الرسمي، لا عبر دوره فقط، بل عبر شخصه أيضاً.

كيف تكتب مسلسلاً من دون تأليفه

وصلني اتصال من صديق أعمل معه في الصحافة الاستقصائية، ونقل لي طلب أحد أشخاص ورشة كتابة مسلسل “كسر عظم – الجزء الثاني” إعطاءه قصة من القصص التي رصدتها عن الفساد كي يستفيد منها كتّاب العمل. اللافت أن مخرجة العمل، رشا شربتجي، زوجة لواء كبير في الأمن، وكاتب العمل تحت إشرافها، بالتالي البحث عن قضايا فساد حقيقية لعرضها يتم ضمن تواطؤ بين جهة العرض، وشركة الإنتاج والنظام، ما يعني استمتاعاً بآلامنا وعذاباتنا حوّل التنفيس نحو متعة استعراضيّة من نوع ما، أجرؤ وأقول إن هناك شيئاً من  المتعة في الرهان على رغبة بعض الشبان في أن يكونوا شبيحة.

لا يطالب أحد بأن يحمل الفن أخلاقاً معينة، لكن أن يكون الفن معايشاً لجريمة تحصل يومياً من دون الإشارة بصدق إلى سببها، فأمر غير اعتيادي، يمكن تفسير ذلك بأن المسلسلات  تستعرض إيديولوجيا العنف وطرائق الحياة اللاأخلاقية، وترسم متخيلاً عن علاقة السلطة مع مواطنيها، وكيفية التعامل مع المواقف المختلفة، والأهم تشير إلى تقنيات “التكيف” مع الوضع القائم.

أستطرد من دون يقين، مفترضاً أن هناك شيئاً جذّاباً في قائد النظام بحد ذاته، إذ بات يُسمى إسكوبار الشرق، وصدر قانون أميركي لملاحقته كزعيم حوّل الدولة إلى كارتيل يدير عمليات إنتاج (الكبتاغون)، أفترض هنا بحذر انسياق  أزلام النظام وراء هذه الإدانة، ولو في شكل لا واع، فنحن أمام رئيس ذي اسم عالميّ، وعصابة وعلاقات جعلته ذا سطوة تفوق التي كانت تحيط به كديكتاتور.

خطورة هذه الإنتاجات التلفزيونيّة أنها مُتعة قهرية، جانب منها يسعى الى تسويق النظام أمام شعبه وتطبيع الوضع القائم، لتصبح صورة الشبيح مقبولة، وجانب آخر يقدّم صورة تختلف عن حالة السوري المستكين المستضعف، تلك التي لا تحوي قيمة أو لذّة.