يشهد الملف السوري حراكاً غير مسبوق، سواء لجهة الدعم الدولي للحكومة التي أعلن عنها أحمد الشرع، أو لجهة الزيارات المتتالية له في قصر الشعب في دمشق، أو حتى لجهة تطور مستوى الزيارات للمسؤولين الدوليين بين بعضهم البعض، والتوجه صوب العاصمة السورية.
فمع وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط؛ لبحث الأوضاع هناك، طالبت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “هيئة تحرير الشام” باستيعاب جميع القوى وعدم التفرد بسوريا، وإجراء عملية شاملة لتشكيل حكومة انتقالية. ويُفهم من ذلك رغبة أميركية في لعب دور مركزي في رسم مستقبل سوريا السياسي، يضم مختلف المكونات والقوميات والقوى السياسية والعسكرية.
وخلال لقائه مع وزير خارجية تركيا هاكان فيدان، شدد بلينكن الخميس الماضي على ضرورة احترام جميع الجهات الفاعلة في سوريا، وحماية المدنيين، بمن فيهم الأقليات. ليتطور الأمر إلى زيارة وفد أميركي رفيع المستوى يوم الجمعة 20-12-2024 إلى دمشق ولقائه مع أحمد الشرع في أحد الفنادق في دمشق، تلاها زيارة وزير الخارجية التركي الأحد 22-12-2024، للقاء الشرع.
رسائل من الزيارات الدوليّة
الأهمية السياسية للزيارتين تفوق حجم الزيارات الأخرى ونوعيتها، بخاصة أن العلم التركي ظهر مع العلم السوري للمرة الأولى خلال استقبال الشرع ضيوفه، والواضح أن هيئة تحرير الشام ستتولى مكافحة الإرهاب سواء داعش أو غيره، وهو ما يعني حكماً رفع الهيئة من لائحة الإرهاب، وتم نقاش الموضوع أساساً، وأكده هاكان فيدان عبر قوله إن بلاده لم ترصد أيّ أنشطة إرهابية خلال السنوات الــ10 الأخيرة وفق تقييمات استخباراتية تركية وغربية، وهو ما يؤثر سلباً على موقف قسد التي حاربت الإرهاب، بعد إسناد المهمة للحكومة الحالية. والخطوة التالية كانت عبر حلّ جميع الفصائل الموجودة في سوريا ودمجها في وزارة الدفاع السورية، ما عدا قوات سوريا الديمقراطية. ولفت الرئيس التركي أردوغان في تصريحات إعلامية أدلى بها لدى عودته من قمّة في القاهرة، إنه “ينبغي القضاء على حزب العمال الكردستاني وشركائه الذين يهددون وجود سوريا” وفقاً لتوصيفه.
منحت الزيارتان الشرع كامل الشرعية التي كان يبحث عنها، بل إن النفاذ التركي ضمن سوريا الحالية، يعني وصول تركيا إلى الحدود البرية مع العراق خارج الحدود الكردية، ومع الأردن ولبنان وإسرائيل، وهو ما يمنحها أوراق قوة أكثر راحة، وليست مستبعدة زيارة الرئيس التركي خلال الأيام القليلة المقبلة.
هل من ضبط لإيقاع حركة تحرير الشام
أشارت وكالات أنباء دولية، نقلاً عن مسؤولين أميركيين ومساعد في الكونغرس، أن التواصل الأولي غير المباشر مع هيئة تحرير الشام، “تم بالتنسيق مع حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا”. ووفقاً لمعلومات موثقة من دمشق، فإن الجانب الأميركي بعث برسالة واضحة أمام الشرع، وهي أن رفع “تحرير الشام” من لوائح الإرهاب سيكون مرتبطاً بسلوكيات الهيئة خلال الفترة المقبلة، وعلى رأسها واقع الديمقراطية وحرية التعبير في بنية الدولة السورية المُقبلة، وتوجيه الجهود مبكراً لإنشاء هيكل حكم رسمي للبلاد، وضرورة أن تكون الحكومة الانتقالية تُمثل رغبات جميع السوريين. وهو ما يعني أن دعم واشنطن لسيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق، يرتبط بنوع العملية السياسية، ومستقبل التعدد والتنوع السياسي والثقافي والعسكري، وغياب كل مظاهر السلاح والمعارك، ووقف نهائي لإطلاق النار، كأساس لأي عملية انتقالية، وهو ما تكلل بالزيارة المباشرة للوفد الأميركي إلى الشرع. ولعل الإحاطة التي قدمها المبعوث الدولي لسوريا بيدرسون يوم الثلاثاء 17-11-2024 وإصراره على وقف إطلاق النار، دليل على ذلك. في المقابل، فإن الشرع يُدرك جيداً حجم الحاجة الى المساعدات الإنسانية وعمل المنظمات الدولية، بخاصة في إعادة الإعمار.
إقرأوا أيضاً:
مصير قسد في سوريا
تبدو واضحة الأدوار التي تسعى تركيا الى لعبها في سوريا، سواء عبر استغلال ورقة سيطرتها على شمال غربي سوريا، أو علاقاتها مع هيئة تحرير الشام. ويشكل تكرار التهديدات على قوات سوريا الديمقراطية، هاجساً قوياً لدى قسد والمنطقة، بخاصة بعد فشل التحشيد للحصول على الحماية الدولية في المعارك السابقة في عفرين 2018، وسري كانيه (رأس العين) 2019، وعدم دفاع واشنطن وروسيا عنها رغم العلاقات التي تربط قسد مع التحالف الدولي، وبدرجة أقل الجانب الروسي الذي كان يشترط تسليم المناطق للنظام السوري.
وحالياً، تعيش قسد تحت ضغطين مزدوجين، أولاً: تهديد تركي وفصائل المعارضة السورية لكوباني، وثانياً وضوح رسائل وزارة الدفاع السورية والقائد العسكري لهيئة تحرير الشام أبو حسن الحموي بعودة شمال شرقي سوريا الى سيطرة الحكومة، ودمج قسد ضمن أروقة الجيش المقبل. ليكون الفصل في ذلك كله هو القرار الأميركي وممارسة دور واضح من حيث الإشراف على أيّ نوع من التفاهمات المستقبلية، كراعٍ أو حكم، ورغبة قسد في رفض الجانب الأميركي أيّ عملية عسكرية ضدها من جانب دمشق أو أنقرة، وهو ما سيرتبط بمدى استجابة قسد للضغط الأميركي.
في المقابل، فإن التدخل الأميركي لن يكون بالمجان الى جانب قسد، حيال إصرار تركيا على الهجوم، أو عدم فصل قسد علاقتها مع العمال الكردستاني، بخاصة أن تطمينات واشنطن باستمرار دعم قوات سوريا الديمقراطية، تصطدم بتعنت تركيا في إيجاد منطقة عازلة على حدودها الجنوبية، بالإضافة الى الطلب الأميركي من أحزاب الإدارة الذاتية والمجلس الكردي العودة الى طاولة الحوارات، على أمل خلق وفد كردي مشترك للتوجه صوب دمشق والحوار معها. وتُشكل عودة بشمركة روج افا، وهي القوة العسكرية التي تشكلت من الشباب الكرد السوريين المنشقين عن جيش النظام السوري خلال الثورة السورية، والذين رفضوا المشاركة في قتل المدنيين والمتظاهرين السوريين، بالإضافة الى المتطوعين والمنضمين الى صفوف قوات البشمركة من الكرد السوريين اللاجئين الى إقليم كردستان. وسبق لقوات البشمركة المشاركة الفاعلة في القضاء على تنظيم داعش خلال هجومه على كردستان العراق، وهزيمة الحشد الشعبي في المعارك التي حصلت بعد استفتاء استقلال كردستان عام 2017.
وهذه القوة تحديداً تُشكل أحد الخلافات الجوهرية بين الطرفين (المجلس الكردي والاتحاد الديمقراطي)، إذ يصر الوطني الكردي على أن تكون هذه القوة شريكة في قرار السلم والحرب وكل مفاصل العمل العسكري وهرمية هيكليتها، في حين تقول قسد إن عليها الانضمام إليها. وحالياً تم تشكيل جيش سوري موحّد، وحل جميع الفصائل بما فيها “الجيش الوطني” المحسوب على المعارضة السورية، والجناح العسكري لهيئة تحرير الشام نفسها. وسيكون من حق قوات بشمركة روج الانضمام الى ذلك الجيش، بما معناه أن مسارات تضمين تلك القوات تحولت نحو مشروع أكبر.
ووفقاً لكثر من المحللين وناشطي الرأي في القامشلي وباقي المُدن الكردية، فإن واشنطن بإمكانها العمل على ثلاثة مسارات متوازية في الشق العسكري، أولها تحقيق المصالحة الكردية -الكردية، وهنا تحديداً ستأخذ واشنطن بالاعتبار حساسية تركيا ومصالحها؛ فأنقرة تمثل رأس الحربة المدافع عن الأمن القومي الاستراتيجي الأميركي في المنطقة، وثانيها: ضم الكتلة العسكرية كجزء من منظومة الدفاع السورية العامة، وهذه تحتاج إلى وقت ومجهود، وثالثها: منح خصوصية للمنطقة الكردية من حيث الجيش والأمن، بخاصة وأن توحيد قوات البشمركة وقسد سيشكل قوة عسكرية لا يُستهان بها، وسيمنح تركيا رسائل مطمئنة حول عدم تشكيل هذه القوة خطراً على أمنها القومي وحدودها الجنوبية كما تكرر دوماً.
التوازن بين تحرير الشام والقوات الكردية المشتركة
من الصعب ترك شمال شرقي سوريا من دون ربط مع المركز، فقبل سقوط النظام، كانت المؤسسات الحكومية مرتبطة مع دمشق عبر وجود محافظ الحسكة، ومديري الدوائر الذين كانوا يتلقون رواتبهم وقراراتهم من المركز، بخاصة جامعة الفرات ومديرية التربية، دائرة الهجرة والجوازات، النفوس وسجل القيد المدني، المحكمة….إلخ. وكان ذلك يُعتبر شكلاً من أشكال التنسيق بين الإدارة الذاتية والحكومة في دمشق. لكن حالياً مع الفراغ الذي حصل بعد انسحاب جميع الأفرع الأمنية ومحافظ الحسكة، وتوقف العمل في جميع المؤسسات، ومع عدم وضوح الصورة لطبيعة العلاقة بين مناطق سيطرة قسد مع حكومة دمشق، فإن متطلبات الأهالي ضمن جميع الدوائر تتطلب حلاً مستعجلاً ولو إسعافياً.
ورغم الرسائل المكثفة التي أصدرتها قسد والإدارة الذاتية حول رغبتهما في التواصل والعمل مع أحمد الشرع، لكن ثلاثة عراقيل واضحة ستمنع تطوير العلاقة في المدى القريب، أولها: عدم رضى تركيا عن أيّ شكل من أشكال العلاقة بين الطرفين، ثانيها: الخلاف الكردي-الكردي الذي يلعب دوراً واضحاً لجهة اصطفاف المجلس الكردي الى جانب الثورة، واختيار الإدارة الذاتية ما أسمته بالخط الثالث، وثالثها: حالة العداء والكراهية التي تحملها تيارات سياسية وعسكرية من قسد والإدارة الذاتية. في المقابل، فإن عدم وجود صيغة للعلاقة بين دمشق وقامشلي، سيؤثر بشكل كبير على مستقبل سوريا الجديدة نفسها، وطبيعة العلاقة التي ستجمع الكرد وباقي المكونات السورية.
هذه العلاقة نتلمس ملامحها في حديث عن لقاء سري بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع في دمشق، تسربت منه ثلاث نقاط حسب قناة العربية، أولها موافقة الطرفين على حصول قسد على نسبة من النفظ السوري، وقبولها الانضواء تحت الجيش السوري، لكن النقاط الخلافية هي رفض قسد تسليم ملف الدواعش في سجونها إلى قيادة دمشق.
لذلك، فإن أنسب الحلول يكمن في إيجاد صيغة للتوازن والعلاقة بين الحكومة الحالية والكرد في سوريا. لكن هذه أيضاً تخضع لمشكلتين، الأولى: إذا كانت هذه حكومة تصريف أعمال، فلماذا تصدر القرارات والأوامر الإدارية من تعيينات وما شابه،؟ وإذا كانت حكومة انتقالية فلماذا لم يتم تضمين جميع الجهات السياسية الفاعلة؟ ومتى سيكون موعد الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية ودستورية. والثانية: من دون وجود اتفاق كردي واضح المعالم بين أطراف كردية سورية بهويّات غير عابرة للحدود، والانطلاقة من حيث توقفت الحوارات سابقاً، حيث تم الاتفاق على رؤية سياسية موحدة، فإن الوضع سيزداد سوءاً.
وتقع هيئة تحرير الشام نفسها حالياً تحت المجهر الدولي، بخاصة لجهة آلية التعامل مع القوميات والمكونات، ومن ضمنها الكرد، والموقف من التشدد الديني أو الإيديولوجي، وعدم الإقدام على أيّ خطوة تضر المصالح الأميركية.
سقوط النظام في توقيت بين الإدارتين
رغم إسقاط السوريين نظامهم الذي هرب بعد وصول قوات “رد العدوان” إلى دمشق، لكن الأزمة لا تزال دولية وليست داخلية فحسب. ولعل أكثر ما يُربك حسابات أحمد الشرع، أن هذه السيطرة والحكومة تقعان بين إدارتين أميركيتين، وسيكون من الصعب العمل باستقامة ووضوح رؤية، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وإنشاء سلطة سياسية ودولة ترضي السوريين. فهل اللامركزية السياسية أو الفدرالية ستكون مطروحة في أجندة الإدارة الأميركية المقبلة؟ بخاصة أن ذلك يتطلب كتابة نصوص دستورية وفوق دستورية تنص على شكل الدولة ونظام الحكم.
فهل سيتم دمج الكرد فوراً مع الدولة السورية، أم سيكون هناك مسار سياسي معقد ومتعرج، بخاصة وأن الإدارات الأميركية غالباً لا تحرك ساكناً إذا كان الهدوء لا يؤثر على مصالحها، وأن الخصوصية الكردية وفقاً للجغرافية والسياسة والحدود التي يرغب ويحلم بها الكرد، من المحتمل أن تتعارض مع المصالح الإقليمية، وحينها فإنه من الصعب والمستحيل تحقيق أي تقدم ملموس على صعيد الحقوق القومية للقضية الكردية، من دون ضغط ودعم دوليين.
ختاماً، لا يملك أحمد الشرع رفاهية الوقت والظرف والهدوء لاختيار القرارات الاستراتيجية العميقة، والضغط التركي يجعل من قسد والإدارة الذاتية في خطر. وغالباً، فإن الوقت الحالي بالنسبة الى هيئة تحرير الشام هو لتحقيق الأمن الداخلي، وترسيخ العلاقات مع دول الجوار، وحماية مصالح أميركا، بخاصة محاربة داعش والإرهاب، والاهتمام بالجوانب الاقتصادية والتعليمية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والمكونات، واتفاق جميع الأطراف على كتابة دستور عصري يتناسب والحداثة والديمقراطية. كذلك، فإن الوقت يضيق والضغط يزيد أكثر على قسد والإدارة الذاتية، فيما هما يملكان ورقة وحيدة للخلاص من المأزق الجديد الذي فرضه سقوط النظام وحلفائه من سوريا، وهي خيار الحوار مع المجلس الوطني الكردي، وتقديم تنازلات من شأنها حماية ما تبقى من الجغرافية الكردية في سوريا.
إقرأوا أيضاً: