لا شكّ في أن الإدارات الغربية فاجأتنا بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بمدى ازدواجية معاييرها في التعامل مع الشأن الفلسطيني- الإسرائيلي، وبالدعم غير المشروط لإسرائيل، حتى في ظلّ خرقها الصارخ للقوانين الدولية وارتكابها جرائم حرب وتطهير عرقي. لم تكن المفاجأة في طبيعة هذا الدعم أو حدّته، فقد خبرناه مراراً، بل في حجمه وتوقيته؛ إذ تسابقت إدارات كبرى، مثل المستشارية الألمانية والإدارة الأميركية، إلى مضاعفة دعمها لإسرائيل كلما ازداد حجم المجازر، وذلك رغم تصاعد حركة نبذ عالمية لممارسات الاحتلال في غزّة.
تجلّت هذه الازدواجية بشكل أكثر فجاجة أيضاً، لأنها أتت بعد عام ونصف فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث شهد العالم— وبالأخصّ شعوب منطقتنا العربية— كيف تعاملت الدول ذاتها مع روسيا كمعتدية، وفرضت عليها عقوبات سياسية واقتصادية صارمة، مقابل دعم غير محدود لأوكرانيا. التباين بين الحالتين كان كاشفاً وفضائحياً.
هذه الازدواجية لم تقتصر على السياسات الخارجية، بل ظهرت بوضوح في الداخل الغربي، في التعامل مع النشطاء الحقوقيين والطلّاب وأعضاء هيئة التدريس، ومع كثير من المهاجرين في أوروبا وأميركا الذين خرجوا في مظاهرات مناهضة للإبادة الجماعية في غزّة. قُوبل هؤلاء بعنف غير مسبوق، واستهداف مباشر بالاعتقال، والتهديد بالترحيل، والنبذ المهني والأكاديمي، بما حطّم الصورة النمطية للديمقراطيات الغربية كحاضنات لحرّية التعبير.
لكن استغلال هذه الازدواجية من قِبل الأنظمة الديكتاتورية لتبرير وجودها وتدعيم سرديتها عن فشل الديمقراطية، هو في حدّ ذاته امتداد لمحاولات مستمرّة لتزييف وعي الجماهير. هذه الأنظمة تسعى لإقناع شعوبها بأن الديمقراطية ليست فقط غير قابلة للتطبيق، بل إنها فكرة زائفة في جوهرها، وتطرح نفسها بديلاً “واقعياً”. في هذا الطرح إهانة واضحة للجماهير، وافتراض دونيّ بأنها ساذجة وقابلة للتكيّف مع أوضاع لا تُحتمل.
في هذا السياق، يمثّل دونالد ترامب وإدارته السابقة أحد أسوأ التحدّيات التي تواجه الديمقراطية الأميركية. ورغم ذلك، فإن أدوات الديمقراطية نفسها ما زالت تقيّده وتحاصره. مثال على ذلك، قرار القاضي جيفري كروفورد بالإفراج عن الناشط الفلسطيني محسن المهداوي؛ الطالب في جامعة كولومبيا، بكفالة بعد أسبوعين من احتجازه. شبّه القاضي المُناخ السياسي الحالي في الولايات المتّحدة بعصر المكارثية، حين استُهدف الآلاف بسبب آرائهم السياسية.
عُدّ هذا الحُكم صفعة لإدارة ترامب، التي سعت إلى ترحيل الطلّاب المناهضين لإسرائيل، استجابة لرغبة ترامب في “تطهير” الجامعات من “مناصري الإرهاب والنازيين الجدد” كما وصفهم. لكنّ رغبات كهذه ما زالت تصطدم بالدستور والقضاء والمدافعين عنهما. لم يتحرّك هؤلاء بدافع الانحياز للقضيّة الفلسطينية بالضرورة، بل من منطلق التمسّك بالقانون والدستور، إدراكاً منهم أن تقويض هذه المبادئ يهدّد مستقبلهم كأفراد وكمجتمع.
حتى الآن، لم تخرج مظاهرات دعم غزّة بهذه الكثافة إلا في العواصم الغربية الديمقراطية، رغم الانحياز الرسمي الصريح لحكوماتها تجاه إسرائيل. في المقابل، يعيش العالم العربي الخاضع لأنظمة سلطوية حالة شلل تامّ، مع قمع أي محاولة للتعبير أو التظاهر.
في الولايات المتّحدة، ورغم كونها الداعم الأول لإسرائيل، اندلعت حركة طالبية واسعة في معظم الجامعات الكبرى، قادها طلّاب من خلفيّات وجنسيّات مختلفة، اتّحدوا بوعي جماعي وشعور إنساني مشترك. لم يطالبوا فقط بوقف المجازر، بل نادوا بوقف استثمارات جامعاتهم في الشركات الداعمة لإسرائيل. تحدّيهم العلني للإدارات الجامعية لم يكن ممكناً لولا نشأتهم في بيئة حرّة تعزّز الوعي بالحقوق. لم يكن ممكناً لولا مجتمع ديمقراطي يشجّع على التفكير المستقلّ وكسر القوالب المقولبة، مثل الخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة اليهودية، أو بين رفض الصهيونية والتطرّف.
تظاهرات الجامعات، مواقف الطلبة وأعضاء هيئات التدريس، أحكام بعض القضاة، مواقف بعض أعضاء الكونغرس، وحتى تصريحات محكمة العدل الدولية والأمين العامّ للأمم المتّحدة، كلّها دلائل على أن الديمقراطية؛ رغم إخفاقاتها، ما زالت حيّة وتملك أدوات التصحيح الذاتي.
لا يمكن مقارنة نظام ديمقراطي قائم على سيادة القانون، بالمجتمعات التي يحكمها رجل واحد، وتُدار بمنطق القبضة الأمنية. حتى عندما تسعى بعض الإدارات في الديمقراطيات للالتفاف على القيم والمؤسّسات، تواجه بجهود شاقّة، وتتكشّف أمام الرأي العامّ، كما حدث مع جون كيربي وغيره من الشخصيّات التي أصبحت مرتبطة بتبرير الإبادة في الذاكرة الجمعية.
في المقابل، تزداد الأنظمة الديكتاتورية توحشاً، ولا تكتفي بإسكات شعوبها، بل تسعى لإعادة تشكيل المجتمع وفق صورة الزعيم، مجتمع يقدّس الطاعة ويخشى التفكير.
هذا هو الفارق الجوهري الذي تخلقه الديمقراطية، وهذا هو معنى أن يعيش الإنسان في مجتمع حرّ رغم التناقضات. لنتخيّل فقط ما كان يمكن أن يُبدعه الطلّاب العرب في التعبير عن رؤاهم تجاه المجازر القائمة، لو أُتيحت لهم المساحة. هل كان من الممكن أن تمتدّ هذه الإبداعات لتبني مستقبلاً في الشرق الأوسط يحتضن مواطنيه، بمن فيهم فلسطينيي الشتات، كما فعلت ألمانيا مع أبنائها من الشرق والغرب بعد الوحدة؟