في نهاية القرن الماضي، كان الغرب أسير حالة من السعادة. إِذْ دفع انهيار الامبراطورية الشيوعية صامويل هنتنغتون، العالم السياسي الراحل في جامعة هارفارد، إلى كتابة “الموجة الثالثة: التحوّل الديمقراطي في أواخر القرن العشرين” (1991)، موضحاً كيفية انضمام 60 دولة جديدة إلى نادي الصفوة. بينما قام فرانسيس فوكوياما بتحويل مقال كتبه في 1989، العام الذي سقط فيه جدار برلين، إلى كتاب بعنوان “نهاية التاريخ”، والذي جعل منه نجماً لامعاً. وفي القرن العشرين، أوضح فوكوياما أن الديموقراطية الليبرالية وجّهت ضربة ساحقة إلى جميع الأيديولوجيات المنافسة الأخرى، بدءاً من الفاشية ووصولاً إلى الشيوعية. وتوقع أن يتقارب العالم وأن تتبنّى الدول النموذج الديموقراطي الليبرالي، كما توقع انتهاء الصراع العالمي.
لكن بعد 20 عاماً، بدأ الغرب الدخول في حالة من اليأس. ولم يتلاشَ حلم التقارب فحسب، بل صارت الديموقراطيات نفسها تبتعد من الليبرالية. وطرح العدد الصادر في شهر حزيران/ يونيو من مجلة فورين أفيرز سؤالاً مباشراً عما إذا كانت الديموقراطية قد وصلت إلى نهايتها أم لا.
هل نحن على حافة الدخول في حقبة ما بعد الديمقراطية؟ لا تدع البيانات مجالاً للشك. يقدّم التقرير السنوي الأخير لمنظمة بيت الحرية التي تتّخذ من نيويورك مقرّاً لها صورة قاتمة: عام 2017، ساءت حالة الحقوق المدنية في 71 دولة – تواجه حالة من التدهور على مدار 12 عاماً– وأصبح 39 في المئة فقط من سكان العالم ينعمون بالحرية.
خلال العامين الماضيين، نُشِر ما يزيد على دزينة من الكتب المهمة والأعمال الأخرى داخل الولايات المتحدة والتي شرعت في وصف ما حدث وتفسيره. وتصدّر الكثير منها قوائم الأعلى مبيعاً لأسابيع. يعرض بعض هذه الكتب تحليلات تاريخية للموجة الأولى من انهيار الديمقراطيات في ثلاثينات القرن الماضي. ويأمل المتفائلون من أصحاب هذه الكتب بأن نتمكن من فهم تلك الموجة المعادية للديموقراطية، وربما نتمكن من منع سقوط الديمقراطيات المعاصرة؛ فيما فقد المتشائمون أي أمل في ذلك. لا تكاد تُقرأ هذه الكتب في إسرائيل، وهذا أمر مؤسف، ربما لأن الكثير منها يروي قصة معروفة لدى الإسرائيليين، حتى لو لم تُذكر إسرائيل صراحةً فيها. لقد خُطّت هذه الكتب بالطبع قبل سن قانون الدولة القومية في هذا الصيف؛ ومن دون شك، ستصدر منها طبعات مستقبلية.
الموت من اليأس
تصف مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بيل كلينتون، في كتابها الجديد، “الفاشية: ناقوس خطر”، ظهور نظام من هذا النوع في أوروبا خلال ثلاثينات القرن العشرين. في الفصل الأول للكتاب، تقوم بتحليل طريقة عمل القادة الفاشيين. وتقول إن القاعدة الأولى تتمثل في نشر “عقيدة الغضب والخوف”. هل يبدو ذلك مألوفاً لكم؟ ويروي بنيامين كارتر هيت، من جامعة مدينة نيويورك، في كتابه “موت الديموقراطية”، قصة انهيار جمهورية فايمار في ألمانيا. ويقول إن الأنظمة الديموقراطية لا تموت فجأة بل بشكل متوقع، من خلال إضعاف مطول لمؤسساتها، لا سيما النظام القضائي والإعلامي، فضلاً عن تراخي الأعراف السياسية. وليست هناك حاجة إلى توضيح المزيد لمعرفة ذلك.
تفاجأ كثيرون ليس بسبب التغييرات الأخيرة في بولندا والمجر وحسب، بل أيضاً بسبب التطورات السياسية في بريطانيا والولايات المتحدة، على رغم أن البعض توقع هذا الاتجاه. ومن بين أشهر هؤلاء الكتاب توماس بيكيتي، الذي نشر كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” في 2014. ففي هذا الكتاب الذي يتكون من 700 صفحة، وصف الاقتصادي الفرنسي تفاقم عدم المساواة الاقتصادية منذ ثمانينات القرن الماضي، وحذر من تبعات التفاوت الشديد. ولاحظ أن الديمقراطيات لا يمكن أن تستمر في مواجهة مثل هذه الفجوات، التي تؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تمرد الجماهير.
“عام 2016 وحده، انتحر ما يقرب من 45 ألف أميركي. ومن بين أولئك الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، يعد الانتحار بالفعل ثاني أكثر أسباب الموت شيوعاً”
في الواقع، لا يزال جزء صغير من السكان الأميركيين يمتلك ثروات طائلة. فعام 2016، امتلكت الصفوة التي تُقدر بنسبة 1 في المئة نحو 39 في المئة من الثروة القومية (مقارنة بـ34 في المئة قبل عشر سنوات). وتمثل أقل تسع فئات عشرية 23 في المئة من الثروة القومية خلال ذلك العام – أقل 5 في المئة مما كانوا يمتلكونه في العقد الماضي.
تبرز البيانات الإضافية صورة مزعجة للغاية. إِذْ ارتفع عدد حالات الانتحار في الولايات المتحدة بنسبة 25 في المئة خلال العقدين الماضيين ولا يزال يرتفع. عام 2016 وحده، انتحر ما يقرب من 45 ألف أميركي. ومن بين أولئك الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، يعد الانتحار بالفعل ثاني أكثر أسباب الموت شيوعاً (بعد الحوادث). كما بلغ الاستخدام المفرط لمسكنات الألم مستويات وبائية: فعام 2016، مات ما يزيد على 42 ألف أميركي نتيجة جرعات افيون زائدة. وأقر 4 من بين كل 10 أميركيين بأنهم يشعرون بالوحدة، وهو ضعْف المعدل في الثمانينات. وصاغ علماء النفس والأطباء مصطلحاً جديداً، ألا وهو “الموت من اليأس”، لتصنيف الزيادة في عدد الوفيات الناجمة عن العقاقير والأدوية والكحول والانتحار في الولايات المتحدة. لكن الظاهرة لم تقتصر على أميركا، بالطبع؛ ففي بريطانيا، تم تعيين وزير لتنسيق عملية التعامل مع أزمة الوحدة في المملكة.
على بُعْد سنوات ضوئية
إن التفسير الأكثر شيوعاً لانهيار الديمقراطية يرتبط بالعولمة. ومع ذلك، يُعدّ هذا سبباً جزئياً. حتى لو عملت العولمة على زيادة التفاوت الاقتصادي، فإن العامل الأكثر أهمية يتمثل في الأزمة المالية التي وقعت في ثمانينات القرن العشرين. نتيجة لهذه الكارثة، فقد 10 ملايين أميركي وظائفهم ومنازلهم، فيما فقد 30 مليوناً آخرون تأمينهم الصحي. والأهم من ذلك، بددت الأزمة “الحلم الأميركي”. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، اعتقد الأميركيون بشدة أن وضعهم الاقتصادي سيتحسن في المستقبل، وأن أطفالهم سيصبحون أفضل حالاً. وبسبب هذا الاعتقاد لم تتمكن أي حركة اشتراكية من ترسيخ جذورها في الولايات المتحدة، وفق ما لاحظ عالم الاجتماع الألماني فيرنر سومبارت في أوائل عام 1906.
حتى بعد انتهاء الأزمة الاقتصادية الأخيرة، لا تزال حالة المجتمع الأميركي مروّعة إلى حد كبير. إِذْ يزداد الأثرياء ثراءً، لكن الوضع المالي للطبقة المتوسطة يتدهور بشكل متزايد – حيث يتساوى مستوى دخلها في الوقت الحاضر بما كانت عليه قبل 30 عاماً. وتظهر الدراسات الاستقصائية التي أُجريت منذ عام 2004 أن هناك نسبة كبيرة من الناس تشعر بالقلق حيال مستقبلها الاقتصادي. ويخاف هؤلاء من ألا تصل معاشاتهم التقاعدية إلى مستوى الكفاف. كما يشعر كثيرون من الشباب بالقلق من أنهم لن يتمكّنوا من سداد القروض التي سيضطرون إلى الحصول عليها لتلقي التعليم الجامعي. وببساطة، سيستغني الكثير منهم عن التعليم العالي.
لاحظ علماء الاجتماع بالفعل أن هناك ما هو أكبر من الاضطرابات الاقتصادية والحركة الهبوطية، وأن العامل الرئيسي في حالة الإنكار يتمثل في “الشعور بالقلق”. وتُعدّ حالة الخزي المترتبة على نزول السلم الاجتماعي أمراً لا يُحتمل. ففي الواقع، تعتبر معدلات الحراك الاجتماعي في الولايات المتحدة، التي تفتخر دائماً بفكرة أن كل طفل يمكن أن يصبح رئيساً، تعتبر أقل في الوقت الحاضر من معظم الدول الأوروبية. ويشمل هذا بريطانيا التي تعد من الدول التي يموت فيها معظم الناس وهم في الطبقة الاجتماعية ذاتها التي وُلِدوا فيها.
إن الأمور التي تنطبق على الولايات المتحدة تنطبق أكثر على البلدان الأخرى. ففي العام الماضي، فرّ أكثر من مليون شخص من فنزويلا إلى البلدان المجاورة بسبب الأزمة الاقتصادية والتهديد الحقيقي بالمجاعة. كما تقلص حجم الاقتصاد اليوناني بواقع 26 في المئة من 2007 حتى 2014، وعلى رغم مساعدات الاتحاد الأوروبي الهائلة، لم تتعافَ الحالة الاقتصادية بعد؛ إِذْ يعد ربع سكان اليونان أكثر فقراً مما كانوا عليه في فترة ما قبل الأزمة.
حتى في البلدان التي لم يصبح فيها الوضع الاقتصادي حاداً، ازداد عدم المساواة. وتعاني شرائح كبيرة من الناس اقتصادياً، لا سيما سكان المناطق الريفية والضواحي المحيطة بالمدن والمناطق التي كانت تنشط فيها صناعات ثقيلة والتي لم تعد هناك حاجة إليها. هؤلاء هم المواطنون غير المرتبطين بلندن أو باريس أو حتى وارسو – أولئك الذين تبعد منهم نيويورك ولوس أنجلوس سنوات ضوئية.
عودة القومية من جديد
في كتابه “مناهضة التعددية: التهديد الشعبوي للديموقراطية الليبرالية”، يلقي ويليام غالستون، أحد مستشاري الرئيس كلينتون في السياسة الداخلية، بأصابع اللوم إلى عدم الارتياح الناشئ عن ظاهرة الهجرة. وكما هي الحال في أوروبا، يُنظر في الولايات المتحدة على نطاقٍ واسعٍ، إلى المهاجرين، كأشخاص يستحوذون على وظائف الطبقة الدنيا والمتوسطة، فضلاً عن إحداثهم تغييراً في الشخصية الوطنية للبلاد والتسبب في القضاء على الهوية الجماعية. أصبح واضحاً إذاً، السبب وراء موجة الغضب الشعبي التي يتعرض لها المهاجرون، والموجّهة أيضاً إلى النخب الليبرالية التي تدافع عن الهجرة.
أما في ألمانيا، فلم تفلح توضيحات المستشارة أنغيلا ميركل، التي ترى أن معدل المواليد السلبي للبلد يقتضي زيادة في حجم القوى العاملة، في إقناع الناس بهذه الضرورة وظلت تفسيراتها عديمة الجدوى. وللسببِ نفسه، لم تؤتِ التحليلات الاقتصادية، التي تظهر حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى أيدي عاملة رخيصة من أميركا الجنوبية والوسطى، أي نتيجة إيجابية.
تحدّث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عصابات من المهاجرين قال إنهم “ليسوا أشخاصاً” ولكن “حيوانات”
يُنظر إلى التهديد الضمني الذي يفترض أن يشكّله قدوم المهاجرين، على أنه تهديدٌ حقيقيٌ، على رغم كونه لا يقوم على أي أساسٍ في الواقع. في بولندا، على سبيل المثال، البلد الذي يبلغ عدد سكانه 38 مليون شخص، وقد هاجر إليه 35000 مسلم في السنوات الأخيرة، انتشر الحديث هناك عن “موجةٍ إسلاميةٍ”. وكان استطلاع للرأي أجري بين البولنديين، قد كشف أن معظمهم يعتقدون أن ما لا يقل عن 2.5 مليون مسلمٍ قد غزوا بلادهم.
صار القلق من فقدان الهوية الوطنية يولّد نزعة العودة إلى القومية – المعتمدة على التنوع العضوي وليس التنوع الليبرالي. وهذا يولّد تعزيز الروح القبلية ويعمق المشاعر الدينية، ومع تطور هذا التيار الرائج، قررت الأحزاب اليسارية في أوروبا الغربية إسقاط دعم التعددية الثقافية من برامجها. صوّت البرلمان في ولاية بافاريا على قرار يطالب كل مؤسسة حكومية بوضع صليبٍ عند مدخل مبانيها. في هنغاريا، أعلن رئيس الوزراء فيكتور أوربان “نهاية الديمقراطية الليبرالية”، وأكد أن البلد يعتبر من الآن فصاعداً “ديمقراطية مسيحية”. وفي الولايات المتحدة، لم يؤد الخوف من الهجرة الوافدة من الحدود الجنوبية إلى تعزيز موقع المحافظين والجمهوريين فحسب، بل أسفر عن زيادة ملموسة في مظاهر العنصرية المحلية.
لم يكن التصاعد المطرد لمناهضة المهاجرين استجابةً عفويةً من جانب السكان الأصليين، بقدر ما كان نتيجةً لعملية تنظيم وتحريض محسوبَين ومخطَّطين من قبل الزعماء الشعبويين والقوميين في أميركا وأماكن أخرى. تحدّث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عصابات من المهاجرين قال إنهم “ليسوا أشخاصاً” ولكن “حيوانات”. ما الذي قالته ألبرايت عن الفاشية؟ في البداية أطلق العنان للخوف والغضب، ثم ابحث لك عن كبش فداء. في ثلاثينات القرن العشرين بأوروبا، كان كبش الفداء هم اليهود. أما في الوقت الحاضر، هم المهاجرون المسلمون في أوروبا، واللاتينيون في الولايات المتحدة.
ثمة تفسيرٌ آخرٌ جديرٌ بالاهتمام للاضطرابات الثقافية في العالم الديموقراطي، طرحه رونالد إنغلهارت في مقال بعنوان “عصر انعدام الأمن” نشر أخيراً في صحيفة شؤون خارجية “Foreign Affairs”. وكان إنغلهارت هو نفسه من طوّر، قبل أربعين عاماً، أطروحة قيم ما بعد المادة. كان الناس في الماضي، مثلما أوضح الكاتب، يقودهم البحث عن تلبية الاحتياجات المادية مثل الطعام واللباس والمسكن والرفاهية الاقتصادية، أما في نهاية القرن العشرين، فأصبحوا يهتمون بقيم مختلفة، كتحقيق الذات، والاستقلالية، وحرية التعبير، والمساواة بين الجنسين، وجودة البيئة. وشكلت تلك القيم الشعارات التي رفعتها النخب السياسية الجديدة بقناعة، غير أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة دفعت قطاعات واسعة من الجمهور، إلى إعادة تبني القيم المادية، ما تسبب في إحداث صدامٍ بين هاتين المجموعتين من القيم.
تمزيق الفضاء العام
طرفٌ آخر ساهم في انهيار الديموقراطية، وفق ما ذكرت كتب صادرة حديثاً، يتمثل في وسائل الإعلام – لا سيما الشبكات الاجتماعية. هذه واحدة من الحجج الرئيسية لكتاب “Trumpocracy: فساد الجمهورية الأميركية”، حيث يعلّق الكاتب المحافظ ديفيد فروم مؤكداً أن الخريطة الإعلامية الحديثة لعبت دوراً رئيسياً في تقويض الديمقراطية الليبرالية. ويشاركه في هذه النظرة، العالم الألماني الأميركي ياشا مونك في كتابه “الشعب في مواجهة الديمقراطية”. يقول مونك أن الديمقراطية تتطلب مساحة عامة وثقافة مدنية مشتركة – لكن الإنترنت مزق هذا الفضاء.
وجد كثر من الناخبين الأميركيين اليوم أنفسهم سجناء أطر معزولة، إذ يشاهدون محطات تلفزيونية لا تبث سوى طيف سياسي واحد، بل وفوْق كل ذلك، يفضلون أيضاً قراءة المواقع الإلكترونية، التي تعكس وجهة نظرتهم إلى العالم، والامتناع عن المشاركة في أنشطة المجال العام. لقد أغرقت وسائل الإعلام الجديدة الفضاء العام بالأكاذيب والافتراءات والبذاءات. واكتشف كلُ منْ اعتقد أن هذه الوسائل ستبشر بإرساء الديموقراطية في النقاش العام، أنها أنجزت في الواقع العكس تماماً، ما جعلها أكثر تطرفاً وتحريضاً للاستقطاب السياسي.
وكما هي الحال بالنسبة إلى مقاربتهم لموضوع المهاجرين، يتصرف قادة الليبراليين اليوم بشكل منهجي ضد وسائل الإعلام العامة، حتى عندما تحاول هذه المنصات الحفاظ على دورها التقليدي المتمثل في توفير المعلومات وكونها حارسة للديموقراطية. من يحرضون ضد وسائل الإعلام هذه، يقومون بشكل متواصل بنزع الشرعية عنها، من طريق نشر الأكاذيب والاتهامات الملتهبة. إذ يؤكد ترامب ومن على شاكلته باستمرار، أن وسائل الإعلام هي العدو. لا يزال الأمر في الولايات المتحدة يقف عند عتبة التحريض حتى الآن، لكن في تركيا ألقي صحافيون في السجن، أما في روسيا وسلوفاكيا، فقد تعرض بعض الصحافيين لعمليات اغتيال.
غير ليبرالي ومستبدّ وشعبوي
أدت الأسباب السالفة الذكر إلى إحداث تغييرٍ سياسيٍ في الكثير من البلدان التي كانت حتى وقتٍ قريبٍ مؤيدة للديموقراطية الليبرالية. وقد اتخذت موجات الانتفاضة شكلاً من أشكال ثورة الجماهير، انطلقت من رحم مجموعات اجتماعية على الهامش، في المناطق الريفية وسط الطبقات الوسطى والدنيا، وبين أفراد الجماعات المهمشة صاحبة المعاناة. وقد ثارت هذه الفئات ليس فقط ضد السياسيين في الحكم، ولكن ضد السياسة في حد ذاتها – ضد المؤسسة القائمة، وضد النخبة، لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل أرادوا تدمير النظام السياسي نفسه. ولهذا السبب أعرب كثيرون عن استعدادهم لدعم أبطالٍ مشكوك فيهم، طالما رأوا فيهم شخصية الثوار.
يُعد ستيف بانون النموذج بامتياز للثوري من هذا النمط، وقد استطاع أن يفتن بعقيدته الزائفة، ليس فقط الجهلاء، بل فتن أيضاً أحد المفكرين الإسرائيليين الشباب يكتب لصحيفة هآرتس.
في بريطانيا، تجلت صورة الثورة في التصويت لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على رغم تفضيل النخبة في لندن البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. في تركيا، مهّد سكان الريف الطريق لرئاسة رجب طيب أردوغان واستمرّوا في تعزيز حكمه. في بولندا، أطاح سكان المناطق الريفية بالحزب الليبرالي وأعادوا القوميين إلى السلطة، ويقفون الآن وراء الحكومة في وارسو في مسعاها إلى الحد من سلطة المحكمة العليا من خلال استبدال عدد كبير من قضاتها.
لم تشكّل هذه التطورات مجرد تغيير في الأحزاب، ولكنها تسببت أيضاً في تغيير الأنظمة. وبدلاً من إرساء نظام حزبي للديموقراطية الليبرالية، ارتفعت موجة الدعم لحكومةٍ من نوعٍ مختلف: غير ليبرالي، واستبدادي، وشعبوي. يتأسس جوهر النزعة الشعبوية على التأكيد، على ضرورة استبدال الأحزاب الفاسدة بزعيم قويٍ فريدٍ، شخص يمثّل الشعب ويعبر عن إرادته. لكن الواقع يثبت أن هؤلاء الزعماء الشعبويين هم في الغالب من الغوغاء والمشعوذين، المنقطعين عن الواقع المعاش.
أظهرت استطلاعات الرأي في بريطانيا أنه قبل 20 عاماً، أعرب ربع السكان عن تفضيلهم نظام “الشخص القوي الذي يحكم، من دون الحاجة إلى انتخابات وبرلمان”. واليوم، يؤيد 50 في المئة من البريطانيين ذلك. عام 2010، قال 9 في المئة فقط من الأميركيين إنه يمكن إغلاق الكونغرس في “أوقات صعبة للغاية”، وبحلول عام 2017، أيد 15 في المئة إغلاق الكونغرس. وعلاوة على ذلك، أجاب ما لا يقل عن 25 في المئة من الأميركيين بأنهم سيدعمون انقلاباً عسكرياً رداً على الزيادة المتسارعة في معدلات الجريمة.
يستشهد مونك في كتابه بأرقام مشابهة لألمانيا والهند، ويتضح هذا الاتجاه بشكل خاص بين جيل الألفية: وفقاً لعملية مسح أجرتها جامعة هارفارد، 19 في المئة فقط من الأميركيين في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، يستبعدون اليوم فكرة النظام العسكري.
الالتزام بالقواعد
كان الضحايا الرئيسيون لانتشار القومية الشعوبية أحزاباً يمينية ليبرالية واشتراكية ديمقراطية ويسارية. تعرض حزب العمال في بريطانيا عام 2010 لضربة قاتلة، كما عانى الحزب الديمقراطي الاجتماعي في السويد من هزيمة كبرى في العام ذاته. بينما مُني الاشتراكيون في فرنسا في العام الماضي بأكبر خسارة منذ عام 1993.
خصائص الديمقراطية غير الليبرالية معروفة الآن. فهي تتجاوز القومية، وتتجه صوب الدين وفوبيا الأجانب، لتُحدِث تغييرات هيكلية في النظام تشمل إضعاف حراس البوابات، مثل الصحافيين والنظام القضائي ونشطاء حقوق الإنسان في المجتمع المدني. تطمح الديمقراطيات غير الليبرالية إلى تقوية السلطة التنفيذية للحكومة على حساب السلطة التشريعية، وبالتالي زيادة صلاحيات الزعيم.
حتى إيمانويل ماكرون- رئيس فرنسا الواعد- يحاول إضعاف مجلس النواب في بلاده، من طريق خطته لخفض عدد مقاعد الجمعية الوطنية بنسبة 30 في المئة، وبنسبة مماثلة في مجلس الشيوخ. عندما عاد ترامب من اجتماعه مع حاكم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، في حزيران/ يونيو، قال –من دون أن يخفي حماسته- “يتحدث ويجلس شعبه ويُنصت. أريد من شعبي أن يفعل الأمر نفسه”.
في كتابهما “كيف تموت الديموقراطية”، يؤكد السياسيان ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات أهمية القواعد الديموقراطية للعبة. فالتطبيق الصارم لنص القانون، كما يشرح، لا يمكنه في حد ذاته حماية الديموقراطية: فقد وصلت الأنظمة الفاشية والاستبدادية إلى السلطة أيضاً من طريق انتخابات ديمقراطية. يعلّلون ذلك بأن القواعد لا تقل أهمية عن القوانين، والمبدأ الأساسي فيها هو أن الأكثرية في الحكومة يجب أن تأخذ في الاعتبار موقف الأقلية. مبدأ آخر هو الشرعية الممنوحة لآراء المعارضة. في الأنظمة ما بعد الديمقراطية، تتجاهل الأكثرية وجهة نظر الأقلية وتعتبر خصومها السياسيين خونة وأعداء. هذا ما فعله ترامب عندما حرض مؤيديه ضد هيلاري كلينتون وحفزهم على الهتاف، “احبسوها!”.
تشوّه آخر يميّز الأنظمة ما بعد الديمقراطية هو تجاهلها مبدأ المساواة أمام القانون. في الولايات المتحدة كان هذا الازدراء واضحاً عندما أعلن أحد محامي ترامب أنه حتى لو قرر المدعي الخاص روبرت مولر توجيه اتهام للرئيس في قضية التدخل الروسي في انتخابات 2016، فإن ترامب يمكنه العفو عن نفسه.
انحدار إسرائيلي
يمكننا أن نتوقع نشر كتب ومقالات في السنوات المقبلة ستحاول تخيل كيفية إنقاذ الديموقراطيات التي فقدت طريقها بالفعل. في إسرائيل، على الأقل، يبدو كما لو أن الوعي بدأ ينتشر خلال الشهرين الماضيين، بأن شيئاً ما قد اعوجّ في النظام القائم، وأن شخصيتي الدولة والمجتمع قد انحرفتا لدرجة لا يمكن معها التعرف إليهما. يتم حالياً نعت من يحذرون من هذا التطور، بأنهم يساريون -في أفضل الحالات- وأعداء للدولة في أسوأها.
تكفي مراقبة ما حدث في العقد الماضي في الدول ما بعد الديموقراطية ومقارنتها بالأحداث الجارية في إسرائيل: من سن قانون الدولة القومية ومحاولات تغيير طريقة اختيار قضاة المحكمة العليا للسماح للكنيست بالهيمنة على المحكمة، والتحريض المستمر ضد وسائل الإعلام ومحاولات الحكومة زيادة تأثيرها في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، إضافة إلى التحريض المستمر ضد المهاجرين وطالبي اللجوء والفلسطينيين، سواء أكانوا يعيشون في الأراضي المحتلة، أو كانوا مواطنين إسرائيليين، وأيضاً الحد من حرية عمل منظمات حقوق الإنسان والحقوق المدنية؛ ووسم المعارضين -حتى لو كانوا مسؤولين مثل رئيس الأركان أو الرئيس- واعتبارهم خونة.
بالطبع لم يحدث في إسرائيل بعد مثلما حدث في تركيا، إذ سُجن 160 ألفاً من معارضي النظام منذ محاولة الانقلاب منذ عامين. وعلى عكس روسيا، لا يقتل عملاء النظام الصحافيين هنا. ولكن من ناحية أخرى، تُنفّذ بعض التطورات المأخوذة من بولندا والمجر بالفعل في إسرائيل. لقد نأت إسرائيل -التي كانت تطمح لتكون قطعة من أوروبا الغربية في الشرق الأوسط- بنفسها عن النموذج الليبرالي الديموقراطي وتحولت شرقاً نحو بلدان “أوروبا الجديدة” غير الليبرالية. وليس من قبيل المصادفة أن العلاقات الديبلوماسية الإسرائيلية مع هذه الأخيرة أصبحت أقرب من علاقاتها مع دول الجزء الغربي من القارة.
وهكذا، تجعل النخب الجديدة -من تمردوا ضد النخبة الأشكنازية المخضرمة، بأصولها المنحدرة من أوروبا الوسطى والشرقية- النظام السياسي الإسرائيلي يشبه النظام في بولندا بشكل متزايد. المفارقة التاريخية في أفضل حالاتها.
كتب يورام بيري
هذا الموضوع مترجم عن موقع Haaretz.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
إقرأ أيضاً:
الوضع العربي الجديد: أعظم الكوارث الانسانية في التاريخ
الاشتراكيون الديمقراطيون يقهرون اليسار… ولكن هل يؤمنون بالديمقراطية؟
أي ديمقراطية ديمقراطية دونالد ترامب؟
وداعاً للديمقراطية!