نكتب في ملف “الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب” كل ما لا يتوقع في الحروب، أشياء النساء والفتيات التي تبدو هامشية، تجارب المقاومة والاستمرار والانتصار الشخصي، التجارب الشخصية مع الموت والخوف والنجاة والحياة والحب، المشاعر بعد النجاة، وكل ما قد نشعر أننا وجب في مرحلة ما أن نقوله لكن لم تسنح الفرصة في حينها.
لا أعلم لم ربطتُ جل خيالاتي، حول الحرب وطائراتها التي نهبُّ لمشاهدتها من سطح المنزل، بصاروخ يقع عمودياً على رأسي؟ كان حلمي ألّا يقع الصاروخ على رأسي وأنا في الحمام، أو أن أكون بعيدة عن حضن أمي مثلاً، أو عن مخبئنا السري تحت السرير، حيث أفرغت أمي كل حاجياتنا، وجعلته سنداً لنا بعد الله، كما تقول، كنا ندخل تحته مع قطتنا توتي؛ هي كذلك هربت فيما بعد، كما فعل قبلها جيراننا في الحي وأطفالهم، يومها بدأ كل شيء بالتناقص، وكأن جميع الناس يريدون إجازة من الموت، الإجازات تلك لا تقع إلا على أطراف المدينة.
ما هو شكل الحرب؟
كنتُ أقف مع أختي نراقب صديقتنا سارة تساعد عائلتها بحمل الأكياس والحقائب على ظهرها، تباعاً، صار الحي خالياً إلا من أصواتنا نحن، وصوت جارتنا الممرضة أم عطور، كان بقاؤها محصوراً بمداواة الجرحى؛ بقيتْ من أجلهم.
حتى نحن، خرجنا من الزقاق بمساعدة رأس متدحرج شاهدناه أنا ووالدي، عند محاولتنا إيجاد الخبز، لكني الآن أرغب في الحديث عن أمور أخرى، وأعلم أن مئة مقال، لن تغطي ما فعلت بي الحرب، على رغم عدم تعرضي يوماً لإصابة في انفجار، أو عملية خطف، أنا ناجية محظوظة حسبما اعتقد.
ماذا فعلت الحرب بي؟ كيف هو وجه الحرب؟ أتمنى أن أعرف، لأقوم بتشويهه كما فعلت مع وجه مستقبلي.
أعيش -وما زلت- كغيري من العراقيين في حلقة محاطة بالنار، تلتهم بوحشية أحبتهم ومستقبلهم، أمضيت طفولتي ومراهقتي محاولة الهرب من كوابيسي، ومن الأصوات التي بقيت عالقة في ذاكرة جسدي، سقوط الصواريخ، صراخ النساء، بكاء أمي ولومها المتكرر لوالدي، وتذكيره بضرورة الهروب من العراق قبل ولادتي، وما زلت أتحدث عن الحرب وكأنها حدثت بالأمس، ما زال ظلها يلاحقني، أشعر بها كأنها توشك على الاندلاع، أقف، أنظر خلفي، وحولي، تبتعد، كأنها تريد أن تخيفني فحسب، بأن تشعرني بوجودها.
في أحد أيام الحرب، طبخت أمي بضعة كيلوات من الكليجة (حلوى عراقية)، كانت وجبة صراعنا اليومي، وكنت قبل أن ألتهمها، أقربها من أنفي، لأشعر برائحة أحبها عند حدوث الغارة، كنت أشمها بحثاً عن شيء يشبه الحياة، مثل…الطبخ، التلفاز وقراءة مجلات الأطفال على ضوء الفانوس.
كانت هذه التفاصيل قد غابت عن حياتنا بعد خروجنا من المنزل، واختفت تماماً بعد عودتنا إليه، لنجد كل ما نملكه قد سُرق، كانت معركة الحواسم (الغزو الأميركي للعراق) علينا وبيننا نحن المواطنين، كثيراً ما كنا نخرج في الصباح فنرى أشخاصاً يحملون أغراضاً من المؤسسات الحكومية، تمسك إحدى الجارات ثياباً داخلية وتصرخ: “هذه حصتي من النفط”.
الليل والحرب
أعلم أن الحرب لا تعرف ملامح الوقت، لكني أجزم أن الليل كان ملك الخوف، الناجون من الحرب وحدهم يعرفون العلاقة بين الليل وصوت الغارة، من سوء حظنا، أن الساعة السادسة مساء، وقت الغارة، في بغداد ٢٠٠٣ تعني الظلمة، ليس عصراً، أو غروباً حتى، إنما ليل فاحم، يجعلنا نهلع ونهرع.
في إحدى المرات كنا نحاول تغيير مكان الاختباء فجلسنا تحت السلم، لا كهرباء، ولا فانوس نفطي، غرقنا في الظلمة، كنا نتكئ على بعضنا بعضاً لئلا نسقط، ثم بدأ الخوف يزحف من أسفل القدمين وينتشر في الدم، أتذكر هذا الخوف جيداً، لا بل رأيته، رأيت شكل الخوف، رأيت يديْ أمي وهي تضم أخي إلى حضنها، ويديْ أختي وهي تسد بهما أذنيها، فجأة، قطع خيالي اهتزاز الأرض، فقالت جارتي: “لعله زلزال بسبب الأسلحة الفتاكة، التي لا نعلم من أين تجلبها وتجربها بنا الولايات المتحدة”.
في هكذا وضع، لا ينفع الصراخ، ولا التفكير بالطرق التي تقضي على الهلع، الهلع الذي ينزل من السقف، والذي يأتي من أصوات الصواريخ، ومن الطائرات التي تشعر بأنها تنظر إليك وتسخر منك، أو الذي يخرج من تحت الأرض، فتميد تحت أقدامك، في اللحظة نفسها، كنت أتخيل أن الجندي الذي يرمي الصاروخ، يرانا، ويختار من يريد قتله منا، ونحن لا نفعل شيئاً، لا نرى شيئاً على الإطلاق.
تؤذيني الحرب، لم أتخطها يوماً، أحكي عنها دائماً، أغتنم الفرص لألومها وأسقط التهم عليها، أتابع أفلام الحروب؛ وهي المفضلة لدي، أبحث فيها عن صور أقسى مما عشته، أقرأ كتب الحروب بنهم، أسترجع ما فعلت بي كل يوم، وكأني بحالة ثأر مستمر.
الحرب واحدة في كل المدن
تأخذ الحرب حياتك أمام ناظريك وأنت صامت، فتبدو كمن يرمي نفسه من جبل بيأس، وهي حينما تأتي، ولو ليوم واحد، تكون ثقيلة، أثقل من وزن الأرض، تمتد الأيام وتصبح أطول مما تتخيل وتعتقد، يعيش اليوم مئة دورة قبل أن ينتقل إلى اليوم التالي، فتتخيل سيناريو قتلك، وتجرب المشاعر المختلفة كلها، الخوف، نقصان الطعام، انقطاع المياه.
أذكر أننا حفرنا في باحات منازلنا آباراً، لم تنفع، فكنا نضطر لحمل الدلاء على أكتافنا، والمشي لمئات الأمتار من أجل العثور على مياه، سنقوم بتسخينها لنتمكن من استخدامها، مرة تعثرت، ووقع دلو المياه الذي كان على رأسي، أرضاً، فبكيت كثيراً، وحينما عدت لملئه من جديد، رفض صاحب البئر، يومها امتنعت عن شرب المياه، عقاباً لي، كنت أسأل في قرارة نفسي، هل يعرف العالم ما نعيش؟ أقصد هل يعرف من هم في سني، الذين سيسبقونني عاماً دراسياً، فيما سأتأخر أنا، نفسياً، عشرين سنة عن الحياة، ما أعيشه؟ هل يعرفون أني سأبقى وأخوتي ثابتين في مكاننا، تنظر إلينا أمي، ثم تشيح بوجهها باتجاه السماء وتبكي، وتقول: الأيام طويلة، متى تنتهي الحرب؟ لأجلهم يا رب، لأجلهم!
مشاهد الحرب في غزة هي نسخة مطابقة عما حصل في العراق قبل عشرين عاماً، تأتي الحروب حاملة الصور والمشاهد ذاتها، من دون أن تغير تفصيلاً واحداً حتى، فلا تقدم السنين، ولا تطور الزمن، ولا تبدل المحتلين، يغير من فظاعاتها، حرب 7 أكتوبر 2023 على غزة، تحمل شكل الحرب على العراق، التي سبقتها بعشرين عاماً.
تناثر الجثث، الخوف، الهروب من القصف، خراب المدن، المشاهد القاسية، الصدمات النفسية، الدعوات لإنهائها! كل حجر يسقط، يجعلك تدرك أن شيئاً سقط من حياتك إلى الأبد، وليس من وسيلة لإعادته، الزمن لا يعود، فتخيل ماذا يفعل انهيار مدينتك كلها أمامك بحياتك؟ أما نشرات الأخبار فتظهر أعداد الذين قُتلوا، فيما لا يذكر أحد أن هنالك طفلاً ظل يصرخ ويبكي ويرتجف لشدة خوفه حتى مات!
أخبرتكم، أن الخوف هو الوجه الحقيقي للحرب، تعود بي ذاكرتي إلى موقف حصل معنا، حين كان أخي طفلا يبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط، يومها قررت كتيبة من الجيش الأميركي، الارتجال في حينا، فما هي إلا لحظات حتى وقف جندي فوق رأس أخي، ماداً نحوه رشاشاً حربياً أطول منه، وصار يصرخ عليه، وأخي يصرخ ونحن نصرخ بدورنا، من دون أن نفهم السبب، ثم انهار أخي بالبكاء وسقط أرضاً، لكن الجندي استمر بالصراخ بوجهه، ثم سحب شيئاً من بين يديه عنوة.
كانت لعبة، عبارة عن مسدس ماء، وبعدما فحصها الجندي وتيقن من أنها مجرد لعبة، تركها له وبصق أرضاً وعاد إلى دبابته.
هل ستعتذر الحرب؟
تؤذيني الحرب، لم أتخطها يوماً، أحكي عنها دائماً، أغتنم الفرص لألومها وأسقط التهم عليها، أتابع أفلام الحروب؛ وهي المفضلة لدي، أبحث فيها عن صور أقسى مما عشته، أقرأ كتب الحروب بنهم، أسترجع ما فعلت بي كل يوم، وكأني بحالة ثأر مستمر.
لم يعتذر منا أحد، لم يقل لنا حتى كلمة “حقك علينا” لأتمكن من تخطيها، حتى في عملي الصحافي، صارت هي المصدر والسبب والوسيلة، أبحث عنها في وجوه الناس الذين أصادفهم، وأسألهم عنها، أنا مريضة بها، أتعايش معها، أقوم بتغذيتها في رأسي، أقول لربما الحديث عنها يجعلني أشعر بالتعافي، لربما سماع قصص ضحاياها والناجين منها، يجعلني أشعر بتضامن جماعي، كنت بحاجة إليه قبل عشرين عاماً!
إقرأوا أيضاً: