فالمشهد في صنعاء وباقي المناطق الخاضعة لسيطرتها، يُظهر بوضوح الفجوة المتزايدة بين المجتمع اليمني الرافض لهذا المشروع، وبين محاولات الميليشيا المستميتة لفرض سيطرتها على تفاصيل الحياة اليومية.
وبقدر ما تكشف هذه الممارسات عن طبيعة الميليشيا كسلطة لا تمتلك أي مشروع جامع، فإنها تعكس في الوقت ذاته حيوية المجتمع الذي لا يزال؛ رغم القمع الممنهج، يُعبّر عن رفضه بطرق متعدّدة.
لقد شهدت منطقة سنحان خلال الأيّام الفائتة مشهداً رمزياً بالغ الدلالة، حين أقدم مواطنون على طرد خطيب حوثي من مسجد الخير (الذي عمدت الميليشيا إلى تغيير اسمه لجامع الزهراء) في موقف شعبي جسّده الشيخ عبدالله عفيف، حين أكّد علناً رفض أبناء المنطقة لهذا الخطيب، الذي جُلب إليهم لفرض خطاب لا يمثّلهم. لم يكن ذلك سوى نموذج لمواقف كثيرة تتكرّر في مناطق يمنية عدّة؛ مواقف تقول بوضوح إنّ المجتمع يحتفظ بجذوة مقاومة رغم محاولات الإخضاع المستمرّة.
ولأن هذه الميليشيا لا تتحمّل أي تعبير عن الهوّية الوطنية خارج سياق مشروعها السلالي الطائفي، فقد اختطفت في صنعاء الفنّان خليل فرحان، على خلفية أدائه النشيد الوطني اليمني في الأعراس التي يُحييها. هذا السلوك لا يعبّر فقط عن نزعة قمعية تجاه الثقافة والفنّ والمجتمع، بل يكشف كيف بات أداء النشيد الوطني نفسه (فعل مقاومة) في ظلّ سلطتهم.
إقرأوا أيضاً:
في الواقع وحين تقوم سلطة ميليشياوية باختطاف فنّان يؤدّي النشيد الوطني، فهي تعلن صراحةً عداوتها لهوّية الدولة ومفهوم الوطن الجامع، وتكشف عن خوفها من أي رمز يوحّد الناس، خارج مشروعها الضيّق. هذا الفعل يزرع الرعب ويغذّي الكراهية، لكنّه أيضاً يُوقظ في المجتمع إحساساً أعمق بخطورة ما يتهدّد كيانهم الوطني، ويدفعهم – ولو تدريجياً – إلى التمسّك برموزهم الجامعة دفاعاً عن بقاء وطنهم.
أما في صورة أخرى من صور الإكراه، فقد أجبرت الميليشيا سكّان أمانة العاصمة صنعاء ومحافظة صنعاء، على الخروج إلى ميدان السبعين للتظاهر، مكلّفة عناصر الأمن والمخابرات برصد من يتخلّف عن الحضور في كلّ مربّع ومنطقة وعزلة ومديرية، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أسوأ أنماط الأنظمة الشمولية. في الواقع لم تكتفِ بذلك، بل مارست مزيداً من الضغوط على المشايخ والوجاهات القبلية، فارضةً عليهم حضور هذه التظاهرة تحت التهديد بالاعتقال بتهمة التجسّس والتخابر، وهي تهمة أصبحت تُستخدَم كأداة جاهزة لإرهاب كلّ من لا يرضخ لمطالبها.
حسنٌ… إن ما نراه هنا ليس سوى تعبير صارخ عن حالة مأزومة تعيشها الميليشيا الحوثية، وهي تلجأ إلى القمع المفرط كلما شعرت بفقدان السيطرة الاجتماعية، مُحاولة ملء فراغ الشرعية بالبطش. والمفارقة الكبرى أن كلّ هذا الإكراه لا يولّد إلا مزيداً من الرفض الشعبي، ويعمّق عزلة هذه الجماعة داخل المجتمع اليمني.
في المحصّلة، تبدو الجماعة الحوثية، وهي تُمارس هذا النوع من القمع العلني والمرير، كمن يسير في طريق مسدود. إذ إن السيطرة التي تُفرَض بالإكراه لا يمكن أن تبني دولة أو تحافظ على استقرار. بل على العكس، هي تُعمّق الأزمة الوطنية، وتؤكّد – مرّة بعد أخرى – أن لا أفق لهذا المشروع سوى المزيد من القمع والمزيد من الانفصال عن هوّية الشعب اليمني.
من هنا، أرى أن على القوى الوطنية الحيّة، أن تلتقط هذه اللحظة لتؤسّس لرؤية جديدة عنوانها الأساسي إعادة الاعتبار للدولة المدنية الجامعة، دولة قانون يسود فيها الحقّ والعدل والحرّية والمساواة، التي يحتمي بها الجميع من دون تمييز أو إقصاء. فمواجهة هذا المشروع الانقلابي لا تكون فقط بالسلاح، بل أيضاً بترسيخ قيم الوطنية الجامعة، وفتح أفق جديد يُعيد إلى اليمنيين الأمل في وطن يحتضنهم تحت راية واحدة، تُتيح لهم تعايشاً مشتركاً حقيقياً قائماً على الاختلاف والتنوع.
إقرأوا أيضاً:













