تحول الساحل الشمالي، وهو أحد أشهر المصايف في مصر إلى “ترند” مستمر يحوي كثيراً من الحقد الطبقي والاجتماعي والانفصال بين شعب يعاني، وصفوة من رجال الأعمال وعائلات المسؤولين تعيش حياة رفاهية يصعب تخيلها.
تنفق تلك الطبقة المستحدثة أموالا باهظة، وتدفع فواتير طعام وشراب في ليلة واحدة تساوي الكثير بالنسبة إلى طبقات أخرى مطحونة. ويقود الوضع الاقتصادي المزري والفساد إلى حالة انفصال، بين طبقة محمية سياسيا واجتماعيا في الساحل وطبقة أخرى لا تجرؤ على تقليدها حتى.
تشكّلت طبقة الساحل، المعروفة بـ”كريمة المجتمع“، قبل سنوات واكتسبت سطوتها من كثير مما تحمله من علاقات برؤوس الدولة، إن لم تكن هي ذاتها جزءً من الدولة، والأموال التي تحرّضها على القيام بأمور لا يجرؤ أحد غيرها على فعلها.
تنتشر مقاطع الفيديو “المستفزة” القادمة من الساحل، ومنشورات السخرية، والهجوم والدفاع، وتبقى تلك المنطقة القائمة على حدود مدينة الإسكندرية، حيث مصيف الوزراء ورجال الأعمال القديم، شاهدًا على مصر، ونسخة مصغَّرة منها، الفساد يراكم بعضه، ورؤوس الأموال تحطم القوانين، الكبار يمرحون، بينما الفقراء يتابعون في صمت وسخرية ورثاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

كيف طُرد “السكان الأصليون”؟
فور عبور بوابات الساحل الشمالي، تتغير أشياء كثيرة، تصبح زجاجة المياه التي تساوي خمسة جنيهات فقط (نحو ربع دولار) بأضعاف سعرها، ووجبة الإفطار المكوّنة من البيض والفول والطعمية التي اعتاد سكان القاهرة تناولها على عربات فلكلورية في مناطق شعبية، يتجاوز سعرها ألف جنيه (نحو 50 دولارًا)، وهو ما لا يمكن رؤيته خارج الساحل الشمالي، حتى بأكثر المناطق ثراءً، وقدرة على الإنفاق.
انتقل نادر محمد، الذي يعيش في القاهرة، إلى الساحل الشمالي لقضاء أسبوع المصيف، واختار قرية سياحية متوسطة الثمن للإقامة برفقة أسرته، قبل أن يُفاجأ أنه مضطر إلى دفع الكثير من الأموال كي يستمتعَ بما هو متاح في مناطق أخرى بمبالغ أقل كثيرًا، لكن، بحسب قوله، “وجودُك في الساحل الشمالي له ضريبة، لا تفعل أكثر مما يمكن فعله بأي مكان، لكن يجب أن تظهر سعادة غامرة حتى لا تشعر أنك ألقيت بأموالك على الأرض”.
ويروي رحلته إلى الساحل، في حديث لـ”درج”، قائلًا: “دخول الساحل الشمالي (وأقصد هنا عبور بواباته) يستلزم وساطات، ورشاوى، وحجز شاليه أو شقة في الداخل، ويجب أن يسألك الأمن عمّن تعرف، ويطلب منك في الكثير من الأحيان، أن تتصل به وتطلب منه الحضور لإدخالك كي يتأكّدوا أنه من سكان الساحل الشمالي (الأصليين)، وأنه يستضيفك، وهنا تشعرُ أنك طبقة أقل، مطلوب منك أن تقدم كل الأدلة على أنك لن تلوّث الساحل”.
لم يجد نادر المصيف الذي اعتاده، واكتشف أن الموجودين – بالفعل – “طبقة أخرى أعلى كثيرًا من تلك التي نراها في شرم الشيخ أو مرسى علم أو الإسكندرية، كما أنك لا تجد سائحين كثيرين، هنا تجد المصريين الذين يربحون أموالًا باهظة، وينفقون أموالًا باهظة، كي يتمتّعوا بشيء واحد فقط.. الانفصال، أو الشعور بأنهم منفصلون عن المصريين في المناطق الأخرى، ومع الوقت، فهمت أن هذا هو المنطق في الساحل الشمالي، حين يحضر الناس العاديون (متوسطو الحال والدخل) إلى منطقة، يغادرها الأثرياء، وبالتالي فهم أشبه بجماعات رُحّل، كلما شعروا أن المنطقة التي ينزلون بها تستقبل (الناس العاديين) – وبالمناسبة، يسمونهم هناك (النورم) – يغادرون إلى منطقة أخرى، فقديمًا كانوا في مارينا، ثم غزا العاديون مارينا، فانتقلوا إلى مارينا 2، واستمروا في الترحال عامًا بعد عام حتى أصبح مكانهم المفضّل مارينا 5، التي اشتهرت، فانتقلوا إلى هاسيندا، وبعض المناطق الأخرى، التي تحمل أسماءً أجنبية أكثر”.
مصطلح “النورم” انتشر مؤخرًا في مصر لدى بعض الطبقات والأجيال الأصغر سنًا، وهو اختصار للكلمة الإنجليزية “نورمال” وتعني “العادي والتقليدي”، أي أن التفرقة تقوم على أن هؤلاء تقليديون، ولا يتقبّلون الجديد، كما أنهم لا يتمتّعون بالكثير من المميزات، فلا يُقبلون في تلك المجتمعات إلى حد كبير. ومن هنا انقسم الساحل الشمالي إلى “الساحل الطيب” و”الساحل الشرير”. تشيرُ الكلمة الأولى إلى الساحل الشمالي القديم، الذي لم يعد صاخبًا، ودخله “الطيبون ومتوسطو الدخل”، أما الثانية فتشير إلى وجه آخر للساحل الشمالي، هو الذي أصبحت حكاياته رائجة حتى أن بعضَ الصحف المصرية توفد مراسلًا إلى هناك لتصوير الأنشطة والحفلات والنجوم والحياة الجذابة التي يعيشها الأثرياء.
ويرى نادر أن غلاء الأسعار الكبير في بعض قرى ومناطق الساحل الشمالي يروق لزوّارها، لأنهم قادرون على تحمّلها، ويمنع اختراق “طبقات أقل ماديًا واجتماعيًا” حياتهم، كما أنهم يقيّمون المقاهي والمطاعم بناءً على السعر، فإذا كان قليلًا، قد يشير ذلك، في مخيّلتهم، إلى أنه “سيء أو غير نظيف، أو يضم أناساً لا يشبهوننا”، وهذا هو القانون الذي يشكّل “طبقة الساحل”، إنهم أعضاء مجتمع متشابه، يمارسون الحياة بالطريقة ذاتها، ويحبون أشياءً متشابهة، ويحملون المعتقدات الدينية نفسها، ويحبّون السهر والحياة الصاخبة، ولديهم قدرة شرائية عالية، كما أنهم يداومون على البقاء في “الساحل” طوال فصل الصيف.
إقرأوا أيضاً:
“فورمة الساحل”
الاستقلالية التي يتمتع بها الساحل الشمالي أثارت الكثير من الضجر والحقد الطبقي حوله، فلم يعد قرى سياحية أو منتجعات، أو مجرد مصيف، بل صار حياة كاملة، ومنظومة مستقلة لشكل مختلف من أشكال المصيف المصري، تضم، فقط أهل السلطة والمال بأقصى درجات الظواهر المستفزة في أسلوب حياتهم، وتفضيلاتهم الغريبة، وملابسهم المتحررة، وسهراتهم التي تستمر بلا نهاية، ويشير كل ما بها إلى أرستقراطيتهم الطاردة للآخر، فأغلب من يظهرون في صور “الساحل” هم أغنياء بالوراثة، يعيشون بأموال آبائهم وربما أجدادهم، ويثيرون غيرة أقرانهم الفقراء وطموحهم المستحيل، بينما يعيشون حياة صعبة في ظل الظروف الراهنة في شتى أنحاء مصر، والمصيف بالنسبة إليهم، لا يتجاوز كونه القفز في البحر، واللعب بالرمال، كما كان المصيف قديمًا.
حفلت الإسكندرية بأشكال مختلفة من المصايف، حين كانت موقعًا مفضلًا للأسر الثرية والوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال، فأقيمت لهم قرى سياحية خاصة كـ”مراقيا” و”مارينا” القديمة، وامتدّ الأمر إلى العجمي أيضًا، وهي القرى التي تحوّلت الآن إلى مدن “الأجيال القديمة” التي تخاصم الطريقة الحديثة للمصيف. يتذكّر محمد حليم، مالك إحدى الشقق بـ”مارينا”، ورثها عن والده، أن أسرته كانت ضمن أول النازحين إلى مارينا، نهاية الثمانينيات، حين “كنّا متوسطي الثراء، ونريد خلق (مساحة محررة) خاص بنا”، بحسب قوله، وكانت تلك القرى مصيفًا للأثرياء في مصر، ويروي لـ”درج”، أنه لم يكن مضطرًا للانتقال إلى قرى أخرى للاستمتاع بأشياء مختلفة، حيث “كانت كل أشكال المتعة موجودة هنا، وجدنا البارات التي تقدم عصائر وبعض الخمور، والراقصين الرجال والراقصات النساء، والحفلات الليلية، وكان هذا أقصى طموحنا، لكن كانت هناك شواطئ ومناطق خاصة يحضر لها الوزراء والمسؤولون ورجال الأعمال، ونسمع كثيرًا عما يجري بها لكن دخولها كان محرمًا علينا، إلا أنه لم يكن خيالنا أو خيال القائمين عليها يصلُ إلى أن تكون كما الساحل الشمالي الآن، لم تكن الخمور متاحة إلى هذا الحد، وكذلك أنواع المخدرات المختلفة، أو العلاقات المنفتحة… كانت الدنيا أهدأ”.
ينتمي حليم إلى أسرة متدينة تديّناً مصرياً “عادياً”، تقبل على حفلات الرقص، ولا تسمح بالعلاقات المنفتحة، وأمه وأخته محجبتان، وهو ما خلق بين الأسرة والصيحات الجديدة في مصايف الطبقات العليا “شقاقًا”، وأبقاهم في مارينا، من دون الرغبة في الانتقال إلى مراسي أو هاسيندا. يوضح: “كنا نستعد لشراء شقة في مناطق جديدة حتى نبقى مع أصدقائنا القدامى، ونبقي جزءً من حياة الساحل الشمالي، لكن الأمور تجاوزتنا تمامًا، لم يشعر أبي بالراحة لشكل الحياة هناك، ولم تشعر أختي وأمي كذلك، لأنهما لم يشعرا بالتنوع، فمن الصعب أن تشعر محجبة أو ملتزمة بزي محدد بالارتياح، لأن شكلها سيكون شاذًا”.
يضيف حليم: “مع الوقت، بدأت أشعر أنا أيضًا بعدم رغبتي في قضاء الصيف هناك، فبينما تتضاعف أعداد الشباب، الذين يحرصون على (فورمة الساحل)، وتمتلئ أجسادهم بالعضلات، وهو ما يحسّن فرصهم الاجتماعية، ورغبة الآخرين في ملاطفتهم أو ضمّهم إلى (شِلل)، لم أكن مهتمًا بذلك، خاصة أنني لست رشيقًا إلى هذا الحد، وهذا يعرّضني للتمييز. مع الوقت، شعرنا بالنبذ الاجتماعي، حين نزور الساحل الشمالي الجديد، فتوقفنا عن زيارته”.
كثيرًا ما تعرضت محجبات وملتحون، وأسر محافظة، للانتقاد والمضايقات في الساحل الشمالي، اعتراضًا من فنادق وقاعات حفلات ومطاعم على نمط العيش الذي يمثّلونه، إذ لا ترتاح الغالبية من الزوار لنمط عيشهم، كما أنه يخالف أغلب الأزياء، ويعتبره البعض “عودة إلى الوراء” حيث القرى والوجهات السياحية القديمة، التي غزتها الأزياء الإسلامية في مراحل سابقة، فاكتست بالحجاب والملابس المُحافظة، قبل أن يهجرُها محبو نمط الحياة الأكثر انفتاحًا إلى قرى الساحل الشمالي الجديدة. وتعرف تلك المشكلات دومًا باسم “أزمة البوركيني” التي لا تطال المصريين فقط، بل تطال سائحات وسياح، إذا ما قرروا ارتداء ملابس سباحة مختلفة عن نمط ملابس السباحة السائد، الذي اعتاد رواد الساحل الشمالي رؤيته.

من حقل ألغام إلى مصيف حكومي “غير رسمي”
في بلدٍ يعاني اقتصاديًا، ويسحق عظام فقرائه، كي يحصل على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، يصبح من الصعب الحصول على إجازة في الساحل الشمالي، إذ أن استئجار “شاليه” أو شقة لليلة واحدة يكلّف ما بين 10 و20 ألف جنيه (500 – 1000 دولار) في المناطق مرتفعة التكلفة كمراسي وهاسيندا وألماظة، وهي المناطق التي تسمّى بـ”شواطئ الأثرياء”، التي يصعب على الطبقة المتوسطة (والمتوسطة العليا) التواجد فيها، فتلجأ إلى مناطق أقل تكلفة كمارينا، التي تصل قيمة إيجار الشالية فيها إلى 5000 جنيه (نحو 250 دولار). وهو المبلغ الذي يفوق الحد الأدنى للأجور في مصر بنحو 2300 جنيه مصري، ومن ينجح في الحصول على مكان بالداخل، وهو لا ينتمي إلى الطبقة العليا من مرتادي الساحل الشمالي، يشعر بالفروق الثقافية والاجتماعية الواسعة، فاللغة الإنجليزية تغلب على جميع الأحاديث، واللغة العربية ركيكة و”مكسّرة”، وأقل القليل من الملابس يكفي دون مضايقات أو مخاوف من التحرش، وهو ما يضمنه الكثير من التأمين، وكذلك الانفتاح في العلاقات، وسهولة التعارف، الأمور التي لا تتوفّر بمصايف أخرى، وتحديدًا “مصايف الفئات المحافظة”، ويجعل الساحل الشمالي منطقة محميّة وآمنة أيضًا، أنه كان – ولا يزال – مكانًا لكبار رجال الدولة، ورجال الأعمال، وهي السمة الأساسية لجميع مناطقه منذ إنشاءه، حتى أنّ أشهر مزاراته يسمّى “لسان الوزراء” لكونه يضم فيللات الوزراء والمشاهير.
وبدأ الساحل الشمالي – كمصيف – على يد الرئيس الراحل أنور السادات، بعدما كان لسنوات منطقة حرب محظور المرور فيها لامتلائها بحقول الألغام، نتيجة للمعارك التي دارت في تلك المنطقة، وأبرزها معركة العلمين الشهيرة، التي كانت واحدة من أهم أسباب انتصار الحلفاء على دول المحور، ونهاية الحرب العالمية الثانية عام 1942، وبقيت المنطقة، فيما بعد، مهجورة لاحتوائها على 17.5 مليون لغم قابل للانفجار، وهو ما أعاق عمليات التنمية والتطوير بتلك المنطقة الخلّابة، حتى قدم “السادات” تصور لمستقبل مصر، عُرف باسم “ورقة أكتوبر“، يوصي بتعمير الساحل الشمالي من منطقة الكيلو 34 حتى الكيلو 100 قرب مدينة العلمين، وتولّى مكتب استشاري “أمريكي / هولندي” برفقة خبراء مصريين عمليات التطوير، والتخطيط لإنشاء تجمعات سياحية عملاقة تشبه المنتجعات الشهيرة على شواطئ الدول الأوروبية.
انتهى ذلك بإنشاء القرية الأولى، وعرفت باسم “مراقيا” التي تكوّنت من مجموعة شاليهات وكبائن، جميعها كان محجوزًا مسبقًا من جانب كبار موظفي الدولة لهم ولأبنائهم، على اعتبار أن هذه القرية هي الأكثر رقيًا، بحسب الترجيحات في ذلك الوقت، لكن التصميم كان عشوائيًا بعض الشيء، فضغطت تلك الفئة الثرية التي تتجمّع بين أصابعها الكثير من السلطات، للتوسّع أكثر، وإنشاء مدينة جديدة تحقق التصور “اليوتوبي” الذي كان مخططًا له منذ البداية، فتقدّمت الدولة نحو إنشاء “مارينا” بقراها الست، التي تستوعب المسؤولين وأقاربهم وأصدقاءهم ورجال الأعمال وملاك الشركات، وشهدت تقدمًا عمرانيًا، واختلافًا كبيرًا من الكبائن والشاليهات إلى الفيلات والقصور بحمامات السباحة وسُبل الرفاهية الفارهة، التي تؤلّب الشعب الكادح على روّاد الساحل الشمالي، كلما رأى صورها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. ومنذ سنوات، لم يكن ذلك غيرةً من تلك الصور للحياة أو حقدًا طبقيًا فقط، بحسب شهادات سجّلها “درج”، إنما غضبًا من استمتاع مسؤولين حكوميين ورجال أعمال بها دون غيرهم، خاصة أنّها دومًا مُحاطة بالشكوك حول فسادهم، والطريقة “غير العادلة” لحصولهم عليها بينما تتعثّر الطبقات الأدنى لأشهر مقابل قضاء أسبوع واحد بالمصيف.
كيف نشأ الساحل “الشرير”؟
نتيجة الاستجابة لجميع رغبات المسؤولين والأثرياء المتضاربة حيال الأماكن التي يريدون إنشاء وحداتهم السكنية بها، وأشكالها، والتسهيلات المتاحة لهم، أصبحت “مارينا” أيضًا مكانًا مكدسًا وعشوائيًا، يفتقد إلى التخطيط السليم، الذي لا يخضع لحسابات المُلَّاك، وأنفقت الكثير من المليارات حتى تصبح مارينا سكنًا صالحًا لـ3 أشهر سنويًا، هي أشهر الصيف، حتى ترعرع جيل جديد من أبناء المسؤولين والأثرياء، فوجئ بثقافة الإسلاميين الأثرياء القادمين من صحراء الخليج، وقد انتشروا تزامنًا مع فترة الصحوة الإسلامية في التسعينيات، ونشروا أفكارهم وأزياءهم.
الأموال الكثيرة التي تُدفع مقابل الحصول على وحدة مصيف بمارينا وكانت تعيق الطبقات دون المتوسطة التي تحمل إرثًا دينيًا محافظًا يعادي “ثقافة المايوه والبيكيني” من الحضور إلى مارينا، أصبحت متوفرة لدى العائدين من الخليج، فأغرقوا مارينا بثقافتهم وأصبحوا إن لم يضايقوا المصيّفين بوعظهم، يضايقونهم بنظراتهم المتطفلة واللائمة، لتبدأ الهجرة الثالثة.. من الساحل الذي أصبح “طيبًا” إلى الساحل “الشرير”… من مارينا إلى قرى ومناطق جديدة ترفض “عقدة الانغلاق” الإسلامي، وتعاني فوبيا الإسلاموية والمحافظة.
هذا كله يؤدي إلى مشكلات مستمرة ناتجة عن منع دخول المنتقبات والمحجبات، ومنع السباحة دون “البيكيني”، والتضييق الشديد على ركّاب السيارات “القديمة نسبيًا” وغير حملة كروت الدخول المميزة، والعنصرية تجاه المختلفين، والتصنيف على أساس الثراء كـ”غيتو” مغلق لا يجب أن يدخلَه أحد من خارجه حتى لا يُفسد على روَّاده رغباتهم وحياتهم الجامحة، طبقًا لنظرية “الكمباوند” السائدة، فكلما تزايدت الأموال لدى مجموعة، تضاعفت ميولها الانفصالية، وازدادت حاجتها إلى الأسوار والتعقيدات لدخول أماكنها، حتى أنّ بعض القرى السياحية تفرض، حتى الآن، مقابلة شخصية مع راغبي شراء الشاليهات والشقق، فلا يكفي أن يكون المالك الجديد معبَّأ بالأموال اللازمة للشراء، إنما يتم تقييم أسرته في المقابلة، وإن كانت لائقة للعيش في الساحل “الشرير” أم لا، حسب تأكيد شريف محمد، وهو سمسار بمناطق الساحل الشمالي الجديدة.
وردًا على التساؤلات حول سبب هجرة السكان من قرى قديمة إلى قرى جديدة، فسر ذلك، قائلًا في حديث لـ”درج”: “في فترة سابقة، كان جميع ملاك الشقق والشاليهات والفيلات في الساحل الشمالي أثرياء، لكن هناك فئة أعلى دخلًا وثراءً، وهي التي قررت أن تبني حواجز ثقافية، وتقيم شكلًا جديدًا لحياة المصيف، أكثر انفتاحًا ورفاهية، وقررت أن تحتكره وتنفرد به، وتمنع الطبقات الثرية، الأقل دخلًا، من تجربته حتى تشعرَ بالتميُّز… ومن هنا نشأ الساحل الشرير”.. وهكذا نشأت من قبله “مارينا” المتمرّدة على مراقيا، التي انطلقت ضمن حركة تمرّد جماعي على مصايف المعمورة والمنتزة في قلب الإسكندرية”.
مصايف الإسكندرية التقليدية هي الأخرى كانت صرخة تمرّد للمسؤولين الحكوميين على مصايف “جمصة وبلطيم ورأس البر” في مدن الدلتا الفقيرة، والتي كانت مقرًا “ملكيًا” لأشهر الصيف قبل ثورة 23 يوليو… لتسردَ تلك القصص والكواليس من “جمصة” إلى “هاسيندا” التطور الاجتماعي في حياة أثرياء مصر.
وحفاظًا على خصوصية الساحل “الشرير” الذي يتجاوز حدود مارينا بقراها الست، التي صارت للأسر والعائلات وحياة المصيف المُهذّبة، لا تخرج الخلافات والصراعات والشجارات منها، أغلبها تجمعُ أسماءً لامعة في مجتمع المال والأعمال والسلطة، مع أبنائهم وأحفادهم، وتحديدًا مسؤولي نظام مبارك، الذي رحل عام 2011، بينما كان موظفوه الكبار قد حجزوا فيلاتهم وشاليهاتهم الجديدة في مناطق جيل “ما بعد مارينا” وكأن السرية وممارسة المتعة في الخفاء دستور “الساحل” الذي تم الاتفاق عليه حتى صار اتفاقًا ضمنيًا بين الجميع: “اللي يحصل في الساحل، لا يخرج من الساحل”.
إقرأوا أيضاً: