مطلع عام 2023 تم تشخيص إصابة المعلمة المتقاعدة خولة أحمد (63 سنة) من حي الزراعي في مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) بسرطان الثدي، وعند مراجعتها المستشفى المتخصص الوحيد في المدينة، أخبروها أن عليهم إجراء عملية لاستئصاله، وهذا ما رفضه أبناؤها، لعدم ثقتهم بأهلية المستشفى في إجراء مثل هكذا عملية.
يقول ابنها البكر أمجد (34سنة) إن مستشفيات المدينة دُمرت خلال حرب تحريرها من تنظيم “داعش” بين عامي 2016 و2017، والخدمات التي تقدّمها في مواقعها البديلة، ومنها مستشفى الأورام والطب النووي، الذي زارته والدته “أولية وغير كافية على الإطلاق”.
ويوضح “المستشفى خال من الكثير من الأجهزة والمستلزمات، ولا تتوفّر فيه العلاجات، فلم نأمن أن نسلمهم أمنا ليجروا لها عملية خطرة هناك، لهذا سافرنا بها إلى إيران لتلقّي العلاج”.
أُجريت لخولة عملية استئصال الورم في مستشفى (نيكان) في العاصمة الإيرانية طهران، في شباط/ فبراير 2023، وتلقّت بعدها جرعات علاج كيميائية بكلفة جاوزت الأربعة آلاف دولار.
واحتاجت إلى ثلاث رحلات علاجية إلى إيران، الأولى لتشخيص المرض، والأخرى لإجراء العملية، والثالثة لتلقي العلاجات الكيميائية، ولعدم وجود مطار في الموصل، كان على أمجد وشقيق آخر له مرافقتها في سفر بري “مرهق، استهلك في كل مرة الكثير من طاقتها”، كما يقول أمجد.
ولاستكمال باقي متطلبات علاجها بعد ذلك، كان عليها تلقي العلاج الكيميائي في عيادة خاصة في الموصل، بسعر بلغ ما يقرب من 120 دولاراً لكل جرعة مكونة من علاجين، يعطيان على دفعتين في وقت متقارب، بينما بلغ سعر الجرعة ذاتها من العلاج في إيران ما يقرب الـ 30 دولاراً.
وبما أن البروتوكول العلاجي الإيراني، تضمن كذلك 15 جلسة للعلاج الشعاعي، ولعدم توفر جهاز “المعجل الخطي” في نينوى، خضعت خولة لتلك الجلسات في مستشفى الوارث في مدينة كربلاء (520 كم عن الموصل) بتكلفة جاوزت 2000 دولار، شملت إقامة لثلاثة أسابيع كاملة، ورحلة برية ذهاباً وإياباً استغرقت 12 ساعة.
“فعلنا كل شيء لمساعدتها، لكن مرضها انتصر في النهاية”، يتابع أمجد بنبرة حزن، فقد توفيت في شهر آب/ أغسطس 2024، مضيفاً أن أكثر ما كان يؤلمه هو “تكبّدها عناء الطريق ومشاق السفر” إلى كربلاء وإيران لمرات عديدة، بسبب افتقار نينوى للمستلزمات العلاجية، برغم كونها ثاني أكبر المحافظات العراقية.
خولة، واحدة من بين آلاف المصابين بأمراض سرطانية في نينوى، واجهوا مصاعب كبيرة في السنوات الأخيرة، مع تأخر إعادة بناء البنى التحتية الصحية، والمستشفيات التي فتحت أبوابها في مواقع بديلة غير مؤهلة من ناحية نوعية المنشآت، إلى جانب افتقارها المستلزمات والكوادر المتخصصة.

ولا تتوفّر أرقام رسمية دقيقة عن أعداد المصابين بأمراض سرطانية في نينوى، التي يعيش فيها أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، وذلك لتوجّه غالبيتهم للعلاج في محافظات أخرى أو خارج البلاد، في وقت يشكك عاملون في القطاع الصحي ومتابعون، بالإحصائيات التي تقدّمها وزارة الصحة.
وكانت المحافظة الواقعة شمال غرب البلاد، مسرحاً مفتوحاً لتفجيرات يومية من قِبل الجماعات المسلحة، التي كانت تخوض حرب شوارع ضد الأجهزة الأمنية منذ 2003 ولغاية 2014، وبعدها حين سيطر تنظيم “داعش” عليها، ولم يخرج منها إلا بحرب مدمرة أتت على كامل المدينة القديمة في الموصل، واستُخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة وآلاف الأطنان من المتفجرات.
وزير الصحة صالح الحسناوي ذاته، أكد جزءاً من تلك الشكوك، عبر تصريح صحافي في آب/ أغسطس 2024، قال فيه إن “نينوى فيها أعلى نسبة إصابات بأمراض سرطانية، وليس محافظة البصرة، كما كان يُعتقد”، لكنه لم يكشف عن أرقام.
نسبة الإصابات
في وقت يفتقر مستشفى الأورام في نينوى، الذي افتُتح بعد الحرب في موقع بديل وبشكل مؤقت لحين بناء مستشفى متكامل على أنقاض المهدم، للأجهزة الحيوية والعلاجات الأساسية، تُظهر وثيقة للمؤشرات الإحصائية عن الأشهر العشر الأولى من العام 2024، مراجعة 229694 مريضاً للموقع البديل، في مؤشر على الارتفاع الكبير في أعداد الإصابات السرطانية التي تحاول جهات رسمية إخفاءها.
وبموجب هذه الوثيقة، بلغت أعداد المراجعين خلال تلك الفترة 57642 مراجعاً بسبب الأورام، و17012 لتلقّي الجرعات الكيميائية، و8738 لاستشارات الطب النووي، و616 لاستشارات العلاج الإشعاعي، والبقية لإجراء الفحوصات المخبرية والأشعة والسونار، في وقت ينتظر الجميع إكمال المستشفى المتخصص، الذي كان يُفترض إنجازه قبل سنتين، لكنه يواجه تلكؤاً في إنهاء المنشآت، قبل أن تبدأ مواجهة العقدة الأكبر المتمثلة بتوفير الأجهزة والعلاجات لعشرات آلاف المرضى في محافظة تعاني من مستويات فقر وبطالة مرتفعة.
مدير المستشفى عبد القادر سالم أحمد، يتحدث عن إحصائيات تخص عام 2022، ويشير إلى أنها تبلغ 2926 إصابة سرطانية في المحافظة، من أصل 32 ألف إصابة في عموم البلاد، ويقول إن وزارة الصحة تُصدر كل عام “إحصائية بأعداد المصابين المسجلين”.
ويذكر أن معدل تسجيل الإصابات بالأمراض السرطانية في نينوى خلال العام 2024، يتراوح ما بين 240 – 260 إصابة بنحو شهري، لكنه لا يشير إلى أعداد المصابين بأمراض سرطانية، ويراجعون مستشفيات في محافظات أخرى، وكذلك خارج البلاد.
وتسجل مستشفيات أربيل التخصصية، ومستشفى هيوا في السليمانية الخاص بالسرطان، آلاف المراجعات من محافظات أخرى، وعلى رأسها نينوى، وهناك من يراجعون مستشفيات أبعد في بغداد وكربلاء والنجف والبصرة.
وبالعودة إلى مدير مستشفى الأورام، فهو يقول إن: “إصابات السرطان تُحسب بنسبة الحدوث، وليس بأعداد الإصابات، وأعداد الحالات متغيرة وفقاً للتزايد السكاني، أما نسبة الحدوث فيتم حسابها لكل مئة ألف نسمة”.
ويوضح: “نسبة الحدوث للمرض في العراق هي 92 حالة لكل 100 ألف، وفي نينوى نسبة الحدوث 64 حالة لكل مئة ألف”، لكنه يشير إلى أنه في حساب عدد المرضى، يبدو العدد أكبر في نينوى من باقي المحافظات، لأن نسبة سكان نينوى تمثّل 10 في المئة من سكان العراق، وهي أعلى بكثير من سكان محافظات أخرى كالنجف، التي تسجل نسبة حدوث تُقدّر بـ 123 إصابة لكل 100 ألف”، ويؤكد مطمئناً الأهالي: “إصابات السرطان في نينوى ما تزال ضمن المعدلات الطبيعية العالمية”.
وخلافاً لتأكيدات رسمية، ينفي الدكتور سالم، وجود زيادة في عدد الإصابات على مستوى العراق بنحو عام ونينوى بوجه خاص، مشيراً إلى أن الزيادات في الإصابات التي يتم الحديث عنها سببها: “الزيادة في أعداد السكان من جهة، وزيادة معدلات الكشف عن المرض من جهة أخرى”.
وعن أعداد الوفيات جراء السرطان، يوضح بأن العراق “سجل خلال العام 2022 ما مجموعه 11421 حالة وفاة جراء السرطان، كانت حصة نينوى منها 989 حالة”.
ويشكك البعض في نينوى، بتقديرات وزارة الصحة بشأن ما أعلنته من إصابات سرطانية في المستشفى والوفيات بسببه، إذ ترى أن الإحصائيات تتعلق فقط بالمراجعين لمستشفيات نينوى، مع إغفال المراجعين لمستشفيات خارجها، ويعتقدون بأن الأرقام الحقيقية يتم اخفاؤها لمنع إشاعة الذعر في المجتمع.
ما هي الأسباب؟
رئيس فرع نقابة الأطباء في نينوى محمد الحوري، يؤكد أن “العمليات العسكرية والقصف الذي نفذه التحالف الدولي على مدينة الموصل، خلال سنوات 2015 – 2016 – 2017 في حرب التحرير من داعش، هي التي تسببت بزيادة أعداد الإصابات بالأمراض السرطانية”.
وبهذا فهو يُقرّ بوجود زيادة في الإصابات السرطانية، ويقول: “استُخدمت أسلحة محرمة دولياً، تحتوي على اليورانيوم، وكذلك ما أحدثته الحرب نفسها من ظروف نفسية ومعيشية قاسية”.

في حين يرى الطبيب إبراهيم الخالدي، أن نينوى لم تسجل تصاعداً في الإصابات بسبب الحرب فحسب، بل سجلت كذلك ولأول مرة حالات سرطانية غريبة من نوعها، ويبين “في العام 2017 سجلت حالة إصابة بسرطان الثدي لطفلة تبلغ من العمر 12 عاماً، من دون أن يكون ثدي الفتاة ظاهراً أصلاً”.
ويلفت الخالدي إلى أن دراسات علمية سابقة، أثبتت تلوث بعض المناطق التي استُهدفت بقصف الولايات المتحدة جنوب الموصل خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، ويقول: “من الطبيعي أن تكون هناك مساحات أكثر تلوثاً بالمواد المشعة، جراء تعرضها للقصف بصواريخ غير تقليدية، وأنها تؤدي في النهاية إلى زيادة الإصابات بمرض السرطان”.
ولا يجد الباحث البيئي عايد سامر، في الحروب سبباً رئيسياً للأمراض السرطانية، فهو يربط الأخيرة بعوامل وراثية تنتقل من جيل إلى جيل، وبالبيئة، وبطبيعة الحياة، ويقول: “هنالك أكثر من 2400 مولدة ديزل داخل الأحياء السكنية في مختلف مناطق المحافظة، تنفث الدخان من عوادمها ليل نهار منذ سنة 1990، فضلاً عن عشرات الآلاف من المركبات التي تعمل بوقود غير مطابق للمواصفات العالمية”.

وأيضاً، يشير إلى تراكم النفايات في شوارع ومناطق طمر غير نظامية، وكيف أن تحللها وتسربها إلى المياه الجوفية، وأدخنة حرقها تتسبب بتلوث البيئة ونشر الأمراض، وكذلك إلى الصرف الصحي في مدينة الموصل الذي يصفه بالبدائي، لاعتماده على الخزانات الأرضية واختلاط مياهها الثقيلة بالمياه الجوفية.
والحال كذلك ينطبق على حد قوله بالنسبة إلى مياه المجاري التي تصب عبر فروع عدة في نهر دجلة، الذي تُسحب منه المياه إلى محطات الضخ والتصفية، وأخيراً “ضعف الرقابة على الأدوية والمواد الغذائية والاستهلاكية الأخرى، التي يسبب الكثير منها أمراضاً فتاكة، مع سوء استخدام المواد البلاستيكية في الحياة اليومية”.
بنية تحتية مدمرة
تُعد محافظة نينوى ثاني أكبر محافظة عراقية بعد العاصمة بغداد، ومع ذلك تفتقر ومنذ سنوات إلى مستشفى تخصصي للأمراض السرطانية، بسبب تلكؤ تنفيذ مشروع إعادة بناء مستشفى الأورام السرطانية والطب النووي التخصصي، واقتصاره على موقعه البديل فقير الخدمات.
وبسبب تلكؤ إعمار المطار الوحيد في المحافظة، فإن مرضى السرطان يعانون مشاق كبيرة، خلال سفرهم إلى محافظات أخرى أو خارج البلاد، لتلقي العلاجات.
بحسب عضو مجلس محافظة نينوى أحمد الدوبرداني، فإن نسبة إنجاز مشروع إعادة إعمار مستشفى الأورام والطب النووي في الموصل، بلغت 90% وتوقع إكماله مطلع العام 2025.
وقال إن ثلاثة معجلات خطية (تستخدم لتقديم العلاج الإشعاعي لمرضى السرطان) ستكون في المشفى، مؤكداً أن الحكومة المحلية في نينوى تعاقدت لشراء أحدها، فيما ستقوم وزارة الصحة بالتعاقد لشراء الثاني، وسيتم التعاقد لشراء الثالث من مبالغ صندوق الإعمار، معتقداً أنها ستعزز من قدرات المستشفى بنحو كبير.
وتوقع أن تشهد نهاية العام 2024 تقديم الحكومة الفرنسية “منحة سيُستخدم جزءاً منها للتعاقد مع إحدى الشركات العالمية، لصيانة جهازي معجل خطي معطلين في المحافظة”.
غير أن موظفين في دائرة صحة نينوى تواصل معهم معدّ التحقيق، شككوا في ذلك، لأن مشروع بناء المستشفى كان يفترض أن يكتمل قبل أكثر من سنتين، لكنه تلكأ لأسباب عديدة من بينها الفساد، حسب تأكيداتهم.
وذكروا أيضاً أن الإنجاز يجب ألا يقتصر فقط على بناء المستشفى، بل لا بد من توفير أجهزة ومعدات ومستلزمات طبية، فضلاً عن الأدوية والعلاجات والكوادر الطبية المتخصصة والمدربة على التعامل مع الأمراض السرطانية: “وكل ذلك غير متوفر ويحتاج إلى وقت لتجهيزه”.
وفي زيارة قام بها معدّ التحقيق للموقع البديل لمستشفى الأورام في حي الوحدة شرقي مدينة الموصل، أكد عاملون هناك افتقاره إلى الأجهزة العلاجية والتشخيصية. ويقول أحد العاملين ضمن الفريق الطبي، رفض كشف اسمه، أن “عملهم يقتصر على تسيير أمور المصابين بأخطر الأمراض السرطانية وأشدها فتكاً، من خلال تقديم بعض الخدمات المنقذة للحياة، كالجرعات الكيميائية في حال توفّرها لنحو 200 مصاب يراجع المشفى يومياً، فضلاً عن فحوصات مخبرية”.
ويقول: “هذا كل ما نستطيع فعله، لحين اكتمال إعادة بناء المستشفى الأصلي” الذي يتم بإشراف منظمة (UNDP) التابعة للأمم المتحدة منذ 2018، وتنفذه شركة محلية اسمها “الحامد” بسعة 200 سرير، وكان يفترض تسليمه في شباط/ فبراير عام 2022، مع تجهيزة بكافة الأجهزة التشخيصية والعلاجية.
ويستبعد مصدر مطلع في قسم المشاريع في ديوان محافظة نينوى، إكمال إنجاز المشروع وافتتاحه في مطلع 2025 ، وذكر أن الأعمال لن تنجز إلا بحلول نهاية 2025.
الأدوية والعلاجات
مدير مستشفى الأورام والطب النووي في نينوى عبد القادر سالم، أعلن في شهر أيلول/ سبتمبر 2024، بأن المصابين بسرطان (الغدة الدرقية واختلالات الغدة الدرقية) لن يتكبدوا بعد الآن مشاق السفر إلى مراكز العلاج في محافظات أخرى، وذلك بعد توفير مستشفاه “كبسولة اليود المشع”.

وذكر أن هذه الكبسولة كانت قد مُنعت من الدخول إلى محافظة نينوى، بسبب الظروف الأمنية منذ 2014 “كونها من المواد المشعة التي يمكن إساءة استخدامها، إذا وقعت بين أيدي جهات خارجة عن القانون، فضلاً عن تدمير البناية التخصصية التي كانت تُمنح فيها هذه الكبسولة”.
وأوضح سالم، أن “مستشفى الأورام تمكنت مؤخراً من الحصول على رخصة الحيازة، وبموجبها تم إدخال الكبسولة مجدداً إلى نينوى”، لكنه يُقرّ بأن توفيرها يعتمد على وصول الحصة المقررة للمحافظة من وزارة الصحة “يتم استيرادها من الخارج، وفور علمنا بوصول الحصة نتصل بالمرضى المسجلين لدينا، لكي تسلّم إليهم، كون الكبسولات مشعة ولها عمر محدد”، ويعني أنها قابلة للتلف أو فوات المنفعة.
وقال: “إن الجرعات الكيميائية متوفرة بنسة 100% في نينوى، لكن المحافظة ما زالت بحاجة إلى العلاج الإشعاعي، ويعرّفه بأنه “خط من خطوط علاج السرطان، يُعطى عن طريق جهاز المعجل الخطي”، وهو الذي يسافر من أجل تلقيه في المحافظات الأخرى المصابون بالسرطان في نينوى.
عملياً، هذا يعني استمرار سفر المصابين بالسرطان في نينوى إلى محافظات أخرى، أو إلى خارج البلاد لتلقي العلاج الكيميائي، ولا سيما من غير المصابين بالغدة الدرقية، فضلاً عن تلقي العلاج الإشعاعي.
ويذكر أن نينوى كانت تملك قبل سيطرة “داعش” عليها في 2014، جهازي معجل خطي وجهاز “بت سكان” و”غاما” و”غاما نايف” ومشفى متخصصاً ومركزاً بحثياً في جامعة الموصل، تم تدميرها خلال الحرب.
وجهاز المعجل أو المسرع الخطي (LINAC) الذي يقوم بتخصيص الأشعة السينية عالية الطاقة، لتتوافق مع شكل الورم، وتدمير الخلايا السرطانية مع تجنب الأنسجة الطبيعية المحيطة، امتلكت نينوى اثنين منه، تم العثور على أحدهما بعد توقف الحرب في 2017، ويحتاج فقط إلى تصليح.
يقول المصدر: “في البداية تم تقدير كلفة تصليح الجهاز بـ582 مليون دينار بدون صيانة، ثم ارتفع المبلغ بنحو مفاجئ إلى مليار و400 مليون دينار، وتم الإعلان عن المشروع ولم تتقدم أي شركة، بسبب مبالغ العمولات الكبيرة التي طلبتها جهات مستفيدة، ثم ارتفع المبلغ بعد ذلك ليصل إلى ملياري دينار، وأيضاً لم تتقدم أي شركة لتنفيذ المشروع”.
وذكر الموظف، أن هناك الآن اتفاقات أجرتها وزارة الصحة مع شركات فرنسية متخصصة لتطوير مراكز الأورام، ضمن منحة تقدّمها فرنسا “لكن لن يكون لهذه المنحة علاقة بتصليح أجهزة بت سكان وغاما، التي يفترض بوزارة الصحة وحكومة نينوى المحلية تصليحها، مما يعني الدوران في حلقة مفرغة”.
صميم محمود (67 سنة) من سكان حي اليرموك في مدينة الموصل، موظف متقاعد، مصاب بسرطان البنكرياس والكبد، يقول إنه يواجه الموت كل يوم لصعوبة حصوله على العلاج بالإشعاع والجرعات الكيميائية. الأطباء اكتشفوا إصابته في شهر آذار/ مارس 2024، والجهة الطبية المشرفة عليه في نينوى أوصت بأن يكون العلاج عبر الإشعاع الذي تفتقر إليه المحافظة.
لجأ إلى مستشفيات حكومية في إقليم كردستان والعاصمة بغداد ومحافظتي بابل والبصرة، من أجل الحصول على العلاج بنحو مجاني، ولكن بسبب الزخم الحاصل فيها، يتوجب عليه الانتظار بين شهرين إلى خمسة أشهر، فاضطر إلى تلقّي الجرعات وعددها 14 في مستشفيات أهلية.
ويتابع أنه “بعد العلاج الإشعاعي” بدأت معاناته في الحصول على جرعات العلاج الكيميائي، ويؤكد أنه يشتري العلاج من القطاع الأهلي على اعتبار أنه الأفضل، بمبلغ يزيد عن 200 دولار للجرعة الكيميائية الواحدة، وأشار إلى أن إعطاء تلك الجرعة يكلف في إحدى المستشفيات الخاصة في الموصل نحو 200 دولار أخرى.
ويرتفع صوته فجأة: “يا الله خذ أمانتك والله تعبت من المرض، إذا عندي بعض المال وتعذبت، فكيف بالفقير المعدم، كيف يدبر الأمور؟”، في إشارة إلى عجز الفقراء عن تسديد تكاليف العلاج في حال إصابتهم بمرض السرطان، نتيجة عدم توفّر الخدمات المجانية بنحو كاف.
خدمات صحية متردية
“الإصابة بالسرطان في نينوى تعني الموت، وقبل ذلك الإذلال”، هذا ما يقوله أحمد العكيدي (35 سنة) مهندس معماري، عن تجربة والدته التي فارقت الحياة في أيلول/ سبتمبر 2024، متأثرة بسرطان الرئة.
يقول إن مرضها تشخّص نهاية العام 2023، وكان قد تركز في رئتها وانتشر في أجزاء أخرى من جسدها.
وأنها “خضعت للعلاج الكيميائي فقط، على اعتبار أن العلاج بالإشعاع والتدخل الجراحي، لم يكونا مجديين”، ويضيف: “اضطررت لشراء الجرعات الكيميائية من القطاع الخاص، بسعر وصل إلى 1000″، إذ لم تكن الجرعات متوفرة بنحو مجاني دائماً في المستشفى الحكومي.
ويتابع أحمد: “المأساة الحقيقة شاهدناها أثناء الذهاب لتلقّي الجرعات الكيميائية في المستشفى الحكومي في الموصل- وحدة الأورام في مستشفى ابن سينا- الذي لا يصلح حتى لاستخدامات الطب البيطري، حيث يفتقر حتى إلى وجود الأسرة والكراسي والأعمدة، التي تعلق عليها العلاجات التي تُعطى للمرضى، ما يعني أن أحد المرافقين يبقى يحمل العلاج بيده طيلة فترة منحه للمصاب، التي تستغرق ساعتين، فضلاً عن صغر حجم البناية وضيقها وافتقارها إلى النظافة وجميع المستلزمات الطبية”.
تردّي الخدمات المقدمة هناك، دفعتهم إلى مراجعة مستشفى أهلي في الموصل، بلغت كلفة منح الجرعة الكيميائية الواحدة فيه 200 دولار، ما عدا تكلفة العلاج.
وينبه إلى أن المصاعب التي يواجهها المرضى لا تقتصر على ذلك فحسب، بل أيضاً الفحوصات المخبرية الجينية والرنين المغناطيسي، إذ يقول إن المصاب “يُفرض عليه شهرياً إجراء الفحص الجيني الذي لا يتم إلا في العيادات والمختبرات الخاصة، بتكلفة تزيد عن 1000 دولار لكل فحص شهرياً”.
معاناة المصابين بالسرطان في نينوى، يؤكدها رئيس لجنة الصحة في البرلمان العراقي ماجد شنكالي، ويربط انتهاءها باكتمال بناء المستشفى التخصصي وتشغيل الأجهزة العلاجية الخاصة به. ويقول إن المركز الوحيد لاستقبال الحالات السرطانية حالياً “هو الموقع البديل وهو غير مؤهل للتعامل مع هذه الحالات الخطيرة”.
أما نائب نينوى نايف الشمري، فينتقد وبشدة الجهات الحكومية بقوله: “من غير المعقول أن تترك محافظة كاملة بهذا النحو الكارثي، ولا يجد مصابو السرطان فيها العلاجات الكافية، ولا الأجهزة التخصصية للعلاج، ويتحملون تكاليف توفيرها الباهظة، فضلاً عن مشاق السفر للحصول عليها”.
ويؤكد أنه وجّه أكثر من دعوة إلى وزارة الصحة ورئاستي الحكومة السابقة والحالية، لحل مشكلة مرضى السرطان في نينوى “لكن ذلك لم يحدث لغاية الآن”.
ويُرجع الطبيب المختص بالأمراض السرطانية كرم العبادي، توجه المصابين لشراء العلاج والجرعات من القطاع الخاص إلى أسباب عدة، أولها “عدم وصول العلاجات الكافية من وزارة الصحة في الأوقات التي تناسب أوضاع المرضى”.
والثاني “للزيادة المستمرة في أعداد المصابين”، إذ إن الوزارة تعتمد حين توفر العلاجات “على بيانات العام السابق أو الذي قبله، وتخصص بناء على ذلك الموازنات لشراء الجرعات الكيميائية وتزودها لصحة نينوى”، وهذا يعني عدم توفر العلاج المجاني للمصابين الجدد في كل مرة، وأن عليهم الانتظار فترة طويلة ليتم توثيق بياناتهم، وغيرها من الإجراءات الرسمية التي تستغرق وقتاً، فيضطرون لشرائه من الصيدليات الخاصة وبأسعار باهظة.
والسبب الثالث هو “اعتماد بعض المصابين على كورسات وبروتوكولات علاجية خاصة، تختلف عن العلاجات التي تعتمدها وزارة الصحة، وهذا يرجع إلى متابعة الحالات المرضية في العيادات الخاصة، دون المستشفيات الحكومية، التي لا يلجأ إليها المرضى في الغالب، بسبب النقص الكبير في العلاجات مع الزخم الكبير الذي تعاني منه”.
الصيدلاني عمار المشهداني، يُقرّ بأن أسعار الجرعات الكيميائية والعلاجات الخاصة بمرضى السرطان، التي يبيعها في صيدليته الخاصة في مدينة الموصل، باهظة الثمن، ويقول: “أسعارها من مناشئها الفرنسية والألمانية والإيطالية مرتفعة”.
ويستدرك “العلاجات الرخيصة، تكون من مناشئ غير رصينة وفعاليتها العلاجية محدودة أو معدومة”.
كما يشير إلى أن أسعار العلاجات الخاصة بمرض السرطان، تختلف باختلاف المرض وحالته “تبدأ أسعار بعضها من 50 دولاراً، وصولاً إلى أكثر من 5 آلاف دولار في بعض العلاجات”.
ويلفت إلى أن الصيدليات التي تتعامل بالعلاجات السرطانية في نينوى “قليلة نظراً لارتفاع أسعار تلك العلاجات، ما يدفع بغالبية الصيدليات إلى تجنب التعامل بها”، ويؤكد أن غالبية زبائنه “من المرضى الذين يتم تشخيص إصابتهم بالسرطان حديثاً، لحين إدراج أسمائهم ضمن برنامج وزارة الصحة ليتم بعدها صرف العلاج لهم”.
تكاليف باهظة
مازن عبد السلام (سنة 38) عامل خدمة في مدرسة ابتدائية في مدينة الموصل، راتبه لا يزيد عن 400 دولار في الشهر، تم تشخيص إصابة والده بسرطان المثانة في نيسان/ أبريل 2024، وأُجريت له عملية جراحية بعد سنة من ذلك لاستئصال الورم.
وأعقب ذلك منحه جرع كيميائية بلغت تكاليف الواحدة منها، فضلاً عن مراجعة الطبيب نحو 125 دولاراً “لكن والدي توفي بعد ستة أشهر من إجراء العملية”، يقول مازن بصوت مخنوق.
ويعتقد أن التشخيص الدقيق لحالة والده جاءت متأخرة، بسبب عدم وجود أجهزة التشخيص في مستشفى الأورام والطب النووي، فضلاً عن ضعف خبرة الكادر الطبي العامل في المدينة في معالجة الأمراض السرطانية، على حد قوله.
مصدر في دائرة صحة نينوى، طلب عدم إيراد اسمه، يؤكد أن الزخم على فحص الإشعاع في المستشفيات الحكومية سواء في بغداد أو باقي المحافظات، ووقت الانتظار الذي يصل إلى ستة أشهر في كثير من الحالات، هو ما يدفع بعض المصابين الى مراجعة المستشفيات والعيادات الخاصة.
ويشير إلى أن تكاليف العلاج بالإشعاع فيها، فضلاً عن الفحوصات التشخيصية، تبدأ من 4 ملايين دينار عراقي، وصولاً إلى 15 مليون دينار، ويلفت إلى أن العديد من المصابين يتلقون العلاج الكيميائي على نفقة الدولة، بينما يضطر الآخرون لشراء جرعات العلاج الكيميائي على نفقتهم الخاصة، بأسعار تتراوح ما بين 100 – 400 دولار للجرعة الواحدة “لعدم توفّره باستمرار في دوائر الصحة الحكومية”.
الناشط محمد السالم، يصف أوضاع المصابين بأمراض سرطانية في نينوى، بأنها “مذلة”، ففضلاً عن مشقة السفر التي يتكبّدها الكثيرون منهم إلى أماكن أخرى للعلاج، يقع قسم منهم ضحايا، لما يصفه بـ”مافيات” المؤسسات الصحية، ويقول إنها “تعمل على عدم تفعيل ملف علاج الأمراض السرطانية في نينوى، لأهداف ترتبط بتنشيط أعمال القطاع الخاص، أو حسابات سياسية، كربط وجود الأجهزة الخاصة بالعلاج في نينوى بفترة الانتخابات، لاستغلال الموضوع في الدعاية الانتخابية”، حسب تعبيره.
تأمل سهى عدنان (53سنة) أن تنتصر في معركتها الجديدة ضد سرطان الثدي، إذ سبق أن استُئصل ورم منها في شباط/ فبراير 2024، وتقول: “لقد عاود المرض ظهوره ويبدو أن عليّ مواجهته مرة أخرى، بعملية أخرى ربما، وبمزيد من الجرع الكيميائية”.
بدا عليها الثبات وهي تشدد على عبارتها: “سأنتصر على المرض مجدداً”، وهي ترى أن فرص النجاة التي مُنحت لها، سببها الاكتشاف المبكر للمرض، ودعت الجهات الصحية إلى ضرورة بث الوعي في هذا الجانب، من خلال المؤسسات العامة والخاصة والإعلانات في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، لدعوة النساء بنحو عام، لإجراء فحوصات دورية، لأن هذا كفيل بإنقاذ أرواح الكثيرات”.
وتجد من خلال خبرتها التي اكتسبتها من مرضها، أن غالبية الإصابات بالسرطان هي عند النساء، وأن حصولهن؛ فضلاً عن المصابين الذكور، على فرص علاج مجانية في المستشفيات والمؤسسات الحكومية،كما حدث معها، يعني “إنقاذ أرواح الآلاف”، ثم تستدرك “الفقر هو القاتل الحقيقي وليس السرطان، لأن الذين لا يملكون المال، سينتظرون أشهراً لدى المستشفيات الحكومية، والمرض الخبيث لا ينتظر” .
ملاحظات:
1: يُعادل صرف الدولار الواحد مقابل الدينار العراقي أكثر من 1500 دينار في تعاملات السوق المحلية في مختلف أنحاء البلاد، بينما يبلغ سعر الصرف الرسمي في البنك المركزي أكثر من 1300 دينار، ويكون متاحاً فقط للشركات التي تستورد البضائع، أو للمسافرين إلى الخارج، وبكمية محدودة.
2: العديد من المصادر الرسمية في دائرة الصحة ووزارة الصحة التي تواصل معها معدّ التحقيق، طلبت عدم الإشارة إلى أسمائها لأسباب وظيفية.
أُنجز التحقيق بإشراف شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية ضمن زمالة “ميدان”.
إقرأوا أيضاً: