ويبدو أن من عوّل على انتهاء الانتفاضة بفعل الأمر الواقع، مع تفشي “كورونا”، تسرّع في حكمه على صبر اللبنانيين، الذي إن لم ينفد، فهو على طريق النفاد.
وقد حاولت السلطة اللبنانية (وما زالت تحاول) تمرير الملفّات العالقة، منها مشروع سدّ بسري الانتحاري، تجميد التشكيلات القضائية، “الهير كات”… وترافق ذلك مع تعاميم مصرف لبنان التي تزداد وقاحةً في ضغطها على المواطنين والمودعين.
3200 ليرة!
الثوار بدأوا يعودون إلى الساحة، بدءاً من تحرّكات في طرابلس وبيروت وعكار وصيدا، فـ”كورونا” مهما كان خطراً لن يكون أخطر من الجوع الذي لن يسلم منه أكثر من نصف الشعب اللبناني الذي أصبح على خط الفقر، مع تخطّي الدولار الواحد عتبة الـ3200 ليرة، بزيادة تفوق الـ100 في المئة، عمّا كان عليه قبل الانهيار هذا، أي 1507 ليرات.
هذا مع التهديد ليلاً نهاراً بالـ”هير كات” والـ”كابيتال كونترول” (اللذين بدآ وإن بطريقة مقنّعة وغير رسمية).
في هذا الإطار، يوضح أستاذ الاقتصاد جاد شعبان لـ”درج” أن “الكابيتال كونترول غير الرسمي قد بدأ فعلياً منذ تشرين الثاني 2019 مع منع الناس من الوصول إلى ودائعهم. أما الهير كات فبدأ أيضاً بشكل مقنّع، مع إعطاء نصف قيمة الفوائد على ودائع الدولار بالليرة اللبنانية، ثمّ رأينا نوعاً آخر من الهير كات وهو دفع أموال المودعين الصغار بسعر صرف هو فعلياً أقل من السعر الحقيقي”. ويضيف: “للأسف هذه الأمور تعكس التخبط وغياب أي خطة واضحة لحل أزمة سعر الصرف، فالمسؤولون عن ذلك أي المصارف وحاكمية مصرف لبنان، يفكّرون بحماية مصالحهم الخاصة عبر حماية مصالح كبار المودعين. ونراهم الآن يحاولون الدفع بالليرة اللبنانية للمودعين الصغار للانتهاء من مشكلتهم والتخلّص من طوابير المنتظرين والمحتجين أمام المصارف، مقابل حصر كل التداولات بالدولار بين المصارف، وحصر الويسترن ويونيون وغيرها من الشركات بالليرة اللبنانية، الهدف من ذلك تقوية القطاع المصرفي على حسب أي شفافية أو محاولة إصلاح يحتاجها هذا القطاع”.
ويتابع: “حاولوا قبل الآن فرض سعر صرف على الصرافين الرسميين وهو بحدود 2000 ليرة، وقد فشل ذلك، والآن هناك سعر صرف جديد ضمن المصارف وهو 2600 ليرة، وبالتالي لدينا 3 أو 4 أسعار صرف، إضافةً إلى السوق السوداء وسوق الصرافين. وهذا يعكس الفوضى في إدارة الأزمة”. ويرى شعبان أن الحل يكون “بإعادة تفعيل اللجنة المركزية لمصرف لبنان، التي تضم نواب الحاكم ومدير عام الاقتصاد ومدير المالية، بحيث تأخذ اللجنة القرارات مجتمعةً، ولا يتفرّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة باتخاذ الإجراءات. ونحن طبعاً بحاجة إلى خطّة حكومية إنقاذية للوضع المالي، تؤمن سيولة للناس من ودائعهم لتخفيف الضغط على الدولار، وطلب قروض غير مشروطة من الخارج للمساعدة بالعملات الأجنبية، ويمكن حينها تثبيت سعر الصرف، أما الاستمرار بالنهج الحالي فلا نعرف إلى أين يؤدي، فربّما يصل الدولار إلى 4000 أو 5000 ليرة”.
صراع الأخوة
مصرف لبنان أعلمنا أن على المؤسسات غير المصرفية كافة التي تقوم بتحاويل نقدية بالوسائل الإلكترونية أن تسدد قيمة أي تحويل نقدي إلكتروني بالعملات الأجنبية وارد اليها من الخارج بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق. وسعر السوق، بنظر المصرف المركزي 2600 ليرة، فيما السعر الحقيقي يقفز كل يوم من دون أي آلية لوقف ارتفاعه الماراثونيّ.
في مقابل مصرف لبنان، قررت جمعية المصارف اللبنانية “مصارحة المودعين بالأسباب الأساسية لأزمة السيولة وطمأنتهم على مستقبل ودائعهم”، وفق بيانها، الذي اعتذرت فيه على “تقطير حقوق المودعين في استيفاء ودائعهم منذ خمسة أشهر وهم في أمسّ الحاجة”.
يبدو أن من عوّل على انتهاء الانتفاضة بفعل الأمر الواقع، مع تفشي “كورونا”، تسرّع في حكمه على صبر اللبنانيين.
كما اعتذرت المصارف لأنها أقرضت الدولة لدعم تطبيق إصلاحات بنيوية في القطاع العام، ولأنها اعتقدت أن الحكومات المتعاقبة، التي تعهدت مراراً وتكراراً بالإصلاح، سوف تتحمل مسؤولياتها تجاه المواطن يوماً ما.
بالمناسبة اعتذارات المصارف غير مقبولة، ومردودة مع الشكر.
بدا في بيان جمعية المصارف ما يشبه حرب الأخوة بينها وبين السلطة السياسية بأركانها المختلفة، لكنّ الدم لا يصير ماءً، ونعرف أنّ هناك دوماً ما سيجمع الإخوة ضدّ مصالح المواطنين والفقراء.
لكنّ الظروف الآن تفرض جولة جديدة من تبادل التهم، ففيما نجد أفرقاء سياسيين يرمون المسؤولية على المصارف والبنك المركزي لتحرير أنفسهم من تحمّل مسؤوليتهم، قالت جمعية المصارف في بيانها: “تدّعي السلطة السياسية أن أرباح المصارف ساهمت في إهدار المال العام، والحقيقة أن المصارف استثمرت على مدى ثلاثة عقود أكثر من 75 في المئة من أرباحها لتقوية رساميلها في هذا القطاع الذي كان العمود الفقري لتنمية قطاعات التجارة والصناعة والسياحة والسكن”. وحمّلت المسؤولية “للسلطة السياسية التي من خلال الحكومات المتعاقبة أساءت استعمال أموال المصارف ومن ضمنها الودائع، وبدّدت هذه الأموال”.
وأكّدت المصارف غير المؤكّد، مشيرةً إلى “إصرارها على حماية الودائع المصرفية”.
وفي ذلك إقرار بأنّ المواطن اللبناني واقع بين نارين، دولة مفلسة لا تدفع ديونها، ومصارف تقول إنها لن تدفع للمواطن حقّه ما دامت الدولة لا تدفع مستحقاتها. وهكذا.
نحن عائدون إلى الشارع!
بعد ليلة عنف وحشية في طرابلس وسقوط جرحى من المتظاهرين الذين نزلوا إلى ساحة النور احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، تقول الناشطة في خيمة اعتصام طرابلس نتالي رشيد لـ”درج”: “أداء هذه الحكومة لا يمكن إلا أن يوصلنا إلى انفجار اجتماعي نتيجة السياسات الاقتصادية التي تمارسها. يتفننون يوماً بعد يوم بإفقارنا أكثر وأكثر وبناءً عليه لا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي، خصوصاً أن عوارض هذا الانفجار بدأت تظهر في الشارع وتواجه بأسلوب بوليسي شرس مستعد أن يفعل أي شيء لكي يقمع الفقراء تلبية لأوامر الطبقة السياسية”. وتؤكد أن “التحرّكات مرشّحة للتجدد، ويمكن أخذ احتياطات وقائية بسبب كورونا، الذي لن يكون أقسى على الناس من الجوع”.
ويتوقّع الناشط الطرابلسي محمد دهيبي أيضاً أن “يعود الناس إلى الشارع وتتجدد التحركات، لا سيما أن دعوات إلى التظاهر بدأت في طرابلس، وقد تمتد إلى مناطق أخرى”. ويضيف: “نحن نشاهد أن الأسواق القديمة في طرابلس مزدحمة بالناس على رغم التعبئة العامة، فعمال القوت اليومي مهددون بالجوع وهؤلاء لن يصمدوا طويلاً وعليهم أن ينزلوا إلى العمل حتى يأكلوا، وإلا سيموتون”.
يقول فراس عبدالله وهو مصوّر وناشط في خيمة اعتصام حلبا إن “الناس في عكّار كانوا يأملون بالحصول على مساعدات وتبرعات للمستشفى الحكومي بعد حملة التبرعات التي أطلقها نواب المنطقة، وكانوا يأملون أيضاً بالحصول على الـ400 ألف ليرة التي رصدتها الحكومة لكل عائلة محتاجة، لكنّ ذلك لم يحصل حتى الآن. والـ400 ألف ليرة بدأت تفقد قيمتها الشرائية مع غلاء الدولار. لذلك قد نشهد عودة قوية إلى الشارع ليس في عكار وحسب بل في مختلف المناطق اللبنانية”.
ويبدو أنّ “كورونا” والإجراءات الوقائية المطلوبة لن تمنع اللبنانيين من المطالبة بحقوقهم، فقد رأينا عدداً من الناشطين في مرج بسري، حيث نزلوا وربط كل واحد نفسه إلى شجرة، في وقفة رمزية تحفظ مسافة الأمان وتعبّر عن رفض المواطنين مشروع سد بسري الذي من شأنه تشويه الطبيعة والإشرار بالبيئة.
ورأينا في الاحتجاجات في طرابلس وبيروت وعكار وصيدا في زمن “كورونا” أن المواطنين وضعوا كمامات وصرخوا في وجه الظلم معيدين النبض إلى ساحاتهم.
في المقابل، يتخوّف ناشطون من أن “يقوم أهل السلطة ممن أصبحوا اليوم في المعارضة، بتنظيم تحرّكات على قياسهم، للتضييق على حكومة حسان دياب، كمحاولة جديدة من بعض الأحزاب لركوب موجة الانتفاضة والاستثمار في وجع اللبنانيين”.
وفق “جمعية المستهلك”، سجل تطور أسعار السلع والمواد الغذائية منذ 15 شباط/ فبراير الى 31 آذار/ مارس ارتفاعاً بلغ 13.17 في المئة. وأشارت الجمعية إلى أن أسعار هذه السلع والخدمات ذات الاستهلاك اليومي للعائلات ارتفعت منذ 17 تشرين الأول 2019 نحو 58.43 في المئة. وطالبت الحكومة بدعم قطاعات أربعة الآن: الحبوب، اللحوم، مشتقات الحليب والادوية، معتبرةً أن قطاع المحروقات لم يعد يشكل عقبة بعد انهيار سعر النفط. ودعت إلى تحديد سعر هذه السلع من قبل وزارة الاقتصاد فور إعلان دعمها.
هذا الوضع كله يشكّل المزيد من الضغط على الفقراء والطبقة المتوسطة، ويشكّل قاعدة طبيعية للانفجار الشعبي والاجتماعي.
لا تأكلوا البيض والدجاج!
أفضل الحلول التي توصّلت إليها الحكومة العتيدة، في ظل الأزمة المعيشية وغلاء الأسعار، كان ما قاله وزير الاقتصاد راوول نعمة للمتظاهرين أمام مكتبه، ناصحاً اللبنانيين “هنا يأتي دوركم، أنتم الثوار، اطلبوا من اللبنانيين أن يتوقّفوا عن شراء البيض ولحوم الدجاج لأيام ثلاثة، فيرتدع المحتكرون، وشوفوا شو بيصير!”.
نعمة أشار إلى أن نسبة محاضر الضبط خلال جولات الوزارة “تبلغ 11 في المئة أي أن 89 في المئة من المحال غير مخالفة”. فقرر توجيه رسالة جديدة للبنانيين فقال: “عليهم تفادي الدكنجي الغلوجي والذهاب إلى الأرخص”.
أما رئيس الحكومة حسّان دياب، الذي يبدو أنه يحبّ المؤتمرات الصحافية كثيراً، فقد طمأن المودعين إلى أن أموالهم محفوظة، وأنه لن يتمّ المساس بها. هذا فيما تعيش المصارف منذ بدء التعبئة العامة حالة غريبة، إذ تستقبل الناس تارةً وتقفل أبوابها طوراً، تتذرّع بأنّ “لا نقد اليوم”، وبأنّ “غداً ما في دولار”. ويصطف الناس أمام أبواب المصارف المؤتمنة على أموالنا، كمن يستجدي ما ليس له، بانتظار الحصول على ما يشترون به حاجاتهم الأساسية في ظل زمن “كورونا” والغلاء والكذب والاستهتار بحقوق الناس وكراماتهم.
وقبل أن ننسى، أعلن دياب “خطة تحفيز وأمان اجتماعي بألف و200 مليار ليرة سيتم إنفاقُها لتغطية أعباء مواجهة وباء كورونا، ومساعدة المياومين في القطاع العام، ودعم القطاع الصحي والمزارعين، وإعطاء المؤسسات الصناعية الصغيرة قُروضاً مدعومة لتحفيز الصناعة الوطنية”.
إنه كلام جميل مؤثّر، كنّا نودّ تصديقه، لكننا يا حسّان عاجزون، وفي أحسن الأحوال سنعتبر خطّتك محاولةً لرفع المعنويات والقفز إلى الأمام.