“يا صبايا ويا نساء سوريا العظيمة: يلي ضايع منها السلم، قصدي السيبة تَبَعْ أولوياتها ترفع إيدها، لأنه في حدا ممكن يلاقيلك ياها لأولوياتك ويساعدك تطلعي وتعزلي سقفك الجديد وحيطانك”.
كان هذا التعليق الساخر للممثلة العائدة الى سوريا يارا صبري، واحداً من الردود السورية التي ملأت الفضاء العام رداً على تصريحات عائشة الدبس، رئيسة مكتب شؤون المرأة في حكومة تصريف الأعمال.
مجرد تأسيس مكتب معني بقضايا النساء يوحي وكأن النساء هن جماعة معزولة عن الشأن العام وليس مكوناً في صلب كل مفاصل الحياة العامة في البلد.
كان واضحاً أن قضايا المرأة السورية ستكون مادة إشكالية في سياق الحكم الجديد في سوريا المحمّل بإرث وعقيدة جهادية إسلامية محافظة الى حدّ التزمّت.
لكن المواجهة بدأت سريعاً، إذ توجهت الدبس الى النساء السوريات وكأنهن يفتقرن إلى الإمكانات والقدرات، فقالت في مقابلة تلفزيونية مع قناة تركية: “لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر”، مضيفة: “لا أدعي أن النساء السوريات الآن ممكنات، لكن المرأة السورية بطبيعتها تملك المؤهل، وإذا وفرنا لها الدورات التدريبية ودورات القيادة ستصل إن شاء الله لتشارك في السلطة التشريعية والتنفيذية “.
هذه العبارات أثارت غضباً واسعاً كونها نسفت تاريخاً من المشاركات الرائدة لنساء سوريات في الحياة العامة بما يوحي أنهن قاصرات عن تولي أدوار قيادية.
عائشة الدبس التي أصبحت أول امرأة تشغل منصباً رسمياً في الإدارة السورية الجديدة، جزمت بأن السوريات غير قادرات على القيادة لأنهن بحاجة إلى تمكين، ناسفةً أجيالاً من هؤلاء النساء المتمكنات اللواتي شغلن مناصب قيادية متنوعة حول العالم ويعملن حقيقة على تمكين غيرهن.
أما بما يخصّ القضاء، فقالت: “أما في ما يخص السلطة القضائية، لن أتكلم عن ذلك لأن الدستور هو الذي سيحدد، ومرتكز (ذلك) الشريعة الإسلامية، لن نتخلى عن الشريعة الإسلامية”.
أثار هذا التصريح مخاوف حول دور النساء القضائي، خصوصاً بعد انتشار تصريحات غير رسمية تقول إن الحكومة الجديدة لن تسمح بوجود قاضيات تبعاً للشريعة الإسلامية، وهذا يتنافى مع أسس الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص لأفراد المجتمع بغض النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم.
تعرّف عائشة الدبس عن نفسها عبر حسابها في “فيسبوك” بأنها “شخصية عامة وناشطة في مجال تطوير المرأة وتنمية العمل المدني والإنساني”. ووفق تقارير محلية، تمتلك الدبس “تاريخاً في النشاط الجمعوي والإنساني في سوريا، وفي مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا”.
نسف حرية اختيار المرأة السورية
لا شك في أن تمكين المرأة أمر ضروري، ولكنه يتطلب رؤية تشمل حرية اتخاذ القرار والقدرة على تحقيق التوازن بين حياتها الشخصية والمهنية، فيما حديث الدبس عن تمكين المرأة أغفل جانباً أساسياً، وهو ضمان حقوقها الأساسية وحريتها في اختيار الأدوار التي تناسبها.
فتمكين النساء هو عملية تهدف إلى تعزيز قدرات النساء ومهاراتهن وإعطائهن الأدوات اللازمة لتحقيق استقلاليتهن والتمتع بحقوقهن الكاملة في مختلف جوانب الحياة، لكن عائشة الدبس كانت مباشرة وصريحة، فدعت النساء الى الالتزام بسلّم أولوياتهن “الفطرية” التي تعني هنا المقاربة الدينية المحافظة لدور النساء بوصفها شؤون العائلة والاهتمام بالزوج والأطفال، من دون أن تمنح المرأة حرية القرار في ما إذا كانت تريد أن تأخذ هذا الدور أم لا!
من جهة أخرى، أصرت الدبس على صناعة نموذج حكم سوري، مبدية رغبة واضحة في الانفصال أو عدم الاستفادة من خبرات ساهمت فيها وشاركتها نسويات وحقوقيات سوريات في داخل سوريا وخارجها، وحاولت التصويب على هذه الجهود بقولها “لماذا نتبنى النموذج العلماني أو المدني؟ على سبيل المثال، أنا سأصنع نموذجاً خاصاً بالمجتمع السوري، لا أتكلم عن نفسي لكن أتكلم عن رؤية القيادة”.
وفي ردّها على حرية عمل المنظمات النسائية المدافعة عن حقوق المرأة، أجابت: “إذا اتفقنا أن هذا الدعم يدعم النموذج الذي نحن بصدد بنائه فأهلاً وسهلاً ومرحباً، أنا لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر، عانينا بالفترة الماضية من المنظمات التي كانت لها أجندات على أطفالنا ونسائنا، كانوا يمارسون كثيراً من البرامج والتدريبات التي أتت بثمار كارثية”.
هذا الكلام غير المنطقي وغير العلمي، والذي ينتقص من حرية النساء في أخذ قرارات مصيرية تتعلق بحياتهن سواء لجهة الزواج أو الطلاق، هو محاولة من الدبس وربما القيادة الجديدة، لقطع الطريق على نشاطات نسوية حقوقية متقدمة ترفض الارتكان إلى التفسيرات الدينية لموقع النساء ودورهن.
أي حياة سياسية عامة إذا لم نفتح الباب أمام منظمات العمل الحقوقي والنسوي بأطيافها كافة؟ وكيف يمكن أن نغني رؤيتنا ونطورها في عالم متسارع إذا انغلقنا بشكل كامل على أنفسنا؟ فيما يبدو أن الدبس جلبت معها الكلام الذي يتم تناقله في الأوساط المحافظة التقليدية وطرحته كنموذج سوري، علماً أنه حتى ضمن هذه الأوساط وجد كلامها صدى سلبياً…
لم تنسَ الدبس أن تتهم المنظمات الدولية والحقوقية بالتسبب في ارتفاع معدل الطلاق عام 2018 في المناطق التي عملت فيها، إذ لا تراعي “كيفية تمكين المرأة وواجباتها ومسؤولياتها” بحسب قولها.
وهكذا تجزم الدبس بأن الطلاق هو قرار لا تملكه آلاف النساء بسبب منح تفسيرات دينية هذا الحق للرجل، ما يجعل نساء كثيرات عالقات في زيجات بائسة لأنهن لا يمتلكن هذا القرار، وحين تتاح لهن الفرصة يسعين الى القرار.
نستذكر هنا كيف طلبت نساء سوريات كثيرات حين لجأن الى ألمانيا ودول اوروبية، الطلاق لإنهاء أوضاع صعبة وقاسية كانت مفروضة عليهن، ولم يتمكنّ من إنهائها في مجتمعاتهن الأصلية.
استلهام خطاب حزب البعث
إسقاط النظام لا يعني بأي حال إسقاط فكره، الذي تغلغل عبر 54 عاماً بين السوريين وفي طريقة حياتهم وتفاصيلها كافة، إذ إن تصريحات الدبس تعكس في بعض جوانبها النهج التقليدي لفكر “حزب البعث العربي الاشتراكي”، بخاصة في ما يتعلق بالتوجهات المحافظة نحو دور المرأة والمجتمع. غالباً ما تبنى حزب البعث خطاباً مزدوجاً تجاه المرأة، فمن جهة، كان يدعو إلى “تحرير المرأة” وتمكينها كجزء من المشروع القومي، لكنه من جهة أخرى، عزز دورها التقليدي كأم ومعيلة ضمن إطار يخدم الدولة والمجتمع على النمط البعثي. واستلهام مثل هذا النموذج في قضايا المرأة يعيدنا إلى زمن تم فيه تسخير النساء لخدمة مشاريع سياسية على حساب حقوقهن الفردية.
تكمن المشكلة في خطاب عائشة الدبس، الذي يعد امتداداً لخطاب الحكومة الانتقالية، في أنه يعكس نموذجاً لحكم سياسي ديني محافظ يسعى الى تحديد أدوار الأفراد، سواء كانوا نساء أو رجالاً. فهذا الخطاب لا يُعنى بحرية الأفراد بقدر ما يركز على شكل السلطة السياسية وأهدافها وجعل المجتمع يسير بخدمة هذا الهدف السياسي.
إقرأوا أيضاً: