التصالح لدى سوريين كثر مع فكرة أن الأحداث العنصرية ضد السوريين في تركيا طبيعية ومكررة، فكرة لا تقل خطورة عن التصالح لدى بعض الأتراك مع فكرة أن التهجم على السوري هو فعل ليس بالضرورة أن تكون له عواقب قانونية، وهنا المعادلة القاتلة.
وعلى ذكر العواقب القانونية، سربت قناة على تلغرام أنشأها حديثاً متطرفون وعنصريون معادون للسوريين، بيانات أكثر من مليونين ونصف المليون سوري، وشملت تلك البيانات الاسم الكامل ورقم الهوية التركية وعنوان السكن، في سابقة تعرّض حياة الملايين للخطر فيما تتصاعد العنصرية إلى أعلى المراحل.
والسؤال هنا، إن كانت هذه البيانات موجودة فقط في سجلات وزارة الداخلية التركية، فكيف سُربت لتقع بيد مجموعة من العنصريين الأتراك.
وبعد أحداث قيصري العنصرية التي كانت نتيجتها تخريباً وحرقاً لممتلكات السوريين والاعتداء عليهم جسدياً، جاء خبر مقتل شاب سوري على يد مجموعة من الأتراك في أنطاليا، وتلاه خبر اعتداء على عائلة سورية في اسطنبول.
وأعلن وزير الداخلية التركي اعتقال 474 شخصاً ضمن قضية العنف في قيصري، 285 منهم لديهم سجلات جنائية في جرائم مختلفة، أي أن أكثر من نصف المهاجمين هم مجرمون سابقون، وهذه أصبحت أشبه بمعلومة مكررة ومتوقعة بعد معظم حوادث الكراهية في تركيا.
أما التصريح المفاجئ للوزير فكان دعوته سكان قيصري الى التحلّي بالهدوء والتصرف باعتدال وعدم الانخراط بالاستفزازات، من دون أن يحمل تصريحه التهديد بعواقب قانونية تطاول مرتكب حوادث الكراهية.
تعتبر عمليات الإعدام خارج نطاق القانون ضد السوريين، التي حصلت خلال الحوادث الأخيرة في بعض المدن التركية، شكلاً من أشكال “مشاعر الكراهية”، وتتوزع مسؤولية هذه الكراهية ما بين الأحزاب المعارضة والحكومة التي تغضّ الطرف وتتأخر في احتواء الموقف. وبات من المعروف أن السياسة التركية الداخلية والتنافس بين مختلف الأحزاب العلمانية منها والقومية والدينية، اعتمدت بشكل رئيسي على فكرة تأجيج المشاعر ضد السوريين. وعلى رغم أن الفترة الفائتة ما بعد الانتخابات المحلية وقبلها الرئاسية اتسمت بانخفاض أصوات السياسيين المحرضين، إلا أن أحداث قيصري أعادت الوجود السوري في تركيا إلى الواجهة.
إقرأوا أيضاً:
الحوادث العنصرية ضد السوريين ظهرت نتائجها واضحة في معظم المدن، إذ كادت الشوارع أن تكون خالية منهم، وأغلق كثر منهم محالهم التجارية، وازداد خوفهم بعدما أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يد وزارة الداخلية المضطلعة بمهمة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وتحت هذا العنوان تم ترحيل الآلاف من السوريين، ووثقت منظمات حقوقية ودولية ترحيل الكثير منهم قسراً وليس طوعاً، كما خصصت مديرية الاتصالات في الرئاسة نشرة يومية للحديث عن أعداد “العائدين طوعياً” من السوريين إلى الشمال السوري، في ما بدا أنه محاولة استرضاء للشارع التركي.
المجتمع التركي معروف بجزء كبير منه أنه محافظ، ويحترم العادات والتقاليد والقوانين الدينية، ولا يتسامح مع أي متحرش أو معتد جنسياً، وفي الحوادث المماثلة التركية نال المتحرش جزاءه على يد المواطنين الغاضبين عبر الضرب، ولكن لم يحدث أن هاجم سكان الحي بشكل جماعي حياً آخر بحجة انتماء المتحرش إليه، ولم يحدث أن أُعدم الناس خارج نطاق القانون، كما لم يحدث نهب المتاجر. إذ وفور تطور المشكلة تتدخل الدولة بقوة وبسرعة، ولكن ما حدث في قيصري لم يأت على الشاكلة ذاتها، إذ بعد تغريدة على حساب X حول وجود معتد سوري، وقبل تبيان الحقيقة انفجرت ردة فعل شاركت فيها حشود غاضبة قامت بأعمال عنف انتقامية من كل من عليه شبهة أنه سوري، وسرعان ما امتدت إلى مدن عدة مثل بورصة وهاتاي وريحانية وأضنة وعنتاب وأنطاليا وغيرها من المدن. إذ التقط هؤلاء الفرصة للتعبير عن كراهيتهم للأجانب واللاجئين، ولكن لا يمكننا أن نفهم ردود الفعل هذه، في إطار عداء محدود فقط تجاه اللاجئين، بسبب ارتكاب هؤلاء اللاجئين أعمالاً غير لائقة أو لأنهم يحملون ثقافة بعيدة عن ثقافة المجتمع التركي، ولكن يمكن تفسير ذلك بأن الحركات القومية اليمينية العنصرية استغلت المشاكل الاقتصادية الكبيرة وانهيار العملة الوطنية وشبه فقدان الثقة بقدرة الحكومة على النهوض بالوضع الاقتصادي، بتوجيه غضب المجتمع تجاه المهاجرين وتحميلهم مسؤولية سوء الأوضاع. وفي بلد يعاني من انقسام سياسي عميق بين أحزابه، لم يكن صعباً على السياسيين تعميق خطاب الكراهية، وذلك كله لحسابات سياسية ذاتية وضيّقة لتوسيع القاعدة الشعبية، متجاهلين أن النتائج التي وصل إليها خطاب الكراهية في المجتمع التركي بدأ يفلت من كل عقال وبات من الصعوبة بمكان السيطرة عليها.
باختصار، الجميع مشترك في تسويق خطاب الكراهية، حتى إن لغة هذا الخطاب أعيدت تهيئتها بما يتناسب مع لغة دولة، وربما لهذا السبب استخدم مسؤولون معتمدون في الدولة لغة مماثلة لتهدئة الغوغاء الذين أصبحوا حساسين، وبدأوا بتنفيذ الإعدام خارج نطاق القانون في قيصري:
“لقد أظهرت رد فعلك. لقد فهمناك، تلقينا رسالتك. (…) من فضلكم خذوا عائلاتكم واذهبوا إلى بيوتكم. “سنفعل ما هو ضروري، أعدك بذلك”.
هذا كان كلام مسؤول تركي رفيع المستوى أثناء حديثه من قيصري، ولكن التصريح المفاجئ فعلاً كان قوله “الطفلة ضحية التحرش ليست تركية” وذلك لتهدئة الناس. بمعنى آخر، استخدم لغة توضح أنه لا داعي للغضب لأن الطفل ليس “واحداً منا”، وهذا يحمل في الواقع الكثير من الأدلة حول كيفية إضفاء الشرعية على “العنصرية”، أو على الأقل اعتبار أن الضحية لا تستحق التعاطف إلا إذا كانت “منا”.
لعل قول أتاتورك “الذي يحبه ويقدسه الأتراك”، أن “البشرية جسد واحد، وكل أمة جزء من ذلك الجسد، ويجب ألا نقول أبداً ما الذي يهمني إذا كان جزء من العالم مريضاً”، لا يصلح في تركيا اليوم، لأن العنصرية في تركيا حالياً تبدو أنها معتمدة على استثناء السوريين حتى من كلام أتاتورك، وكأن البشرية يجب أن تكون بلا السوريين لتصحّ هذه المقولة.
إقرأوا أيضاً: