fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

السوق العقاري المصري: تصحيح مؤقت أم فُقاعة على وشك الانفجار؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السوق العقاري المصري يمرّ بمرحلة حرجة، حيث تتقاطع عوامل متضادّة بين الضغوط الاقتصادية والرغبة المستمرة في الاستثمار العقاري كملاذ آمن. وبينما يستبعد كثيرون حدوث انهيار مفاجئ، فإن المؤشّرات الحالية تُشير إلى أن الاستمرار بالنمط نفسه من دون إصلاحات جوهرية، قد يؤدّي إلى اختلالات أكبر على المدى الطويل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الأشهر الأخيرة، أصبحت إعلانات العقارات في مصر أكثر إلحاحاً، عروض استثنائية تمتدّ إلى سنوات طويلة من التقسيط، حسومات غير مسبوقة، ومشاريع تُسوَّق بأساليب لم تكن معهودة في فترات الازدهار، كأن ” تشتري شقة ” وتحصل على ” أخرى” هدية… المشهد لم يكن كذلك قبل سنوات، عندما كانت الوحدات تُباع بالكامل حتى قبل بدء عمليات البناء، وكانت الأسعار تتصاعد بثبات في سوق بدا وكأنه لا يعرف التراجع.

اليوم، تغيّرت المعادلة. المطوّرون يلجأون إلى تمديد آجال السداد وتقديم مزايا لم تكن مألوفة، في محاولة واضحة للحفاظ على تدفّق السيولة. هذا التحوّل يُثير تساؤلات جوهرية حول واقع السوق العقاري: هل تعكس هذه التغيّرات تصحيحاً طبيعياً لقطاع شهد سنوات من النموّ السريع؟ أم هي مؤشّر على اقتراب الفُقاعة العقارية من نقطة الانفجار؟

من الملاذ الآمن إلى فخّ المضاربة: كيف تغيّرت معادلة سوق العقارات المصري؟

بين آذار/ مارس 2022 وآذار/ مارس 2024، واجه الاقتصاد المصري واحدة من أشدّ أزماته، بلغت ذروتها مع تعويم الجنيه. في ظلّ هذه الظروف، استغلّ المسوقون العقاريون الفرصة لتعزيز قناعة أن العقارات هي الملاذ الآمن الوحيد أمام تراجع قيمة العملة. هذه الفكرة، رغم جاذبيتها، اعتمدت على مسار صعودي تاريخي لأسعار العقارات، لكنه بدأ يشهد تغيّرات واضحة في وتيرته وحجم زيادته.

بالتزامن مع ذلك، ظهرت موجة مضاربة قادها بعض المسوّقين أنفسهم، الذين شجّعوا المشترين على اقتناء العقارات، وإعادة بيعها سريعاً لتحقيق ربح يُعرف في السوق بـ”الأوفر”، ورغم هشاشة هذا النهج، فإنه لاقى رواجاً مع استمرار انخفاض قيمة العملة، حتى تحوّل إلى ظاهرة لافتة. المفارقة أن المسوّقين الذين دعموا هذه الفكرة سابقاً أصبحوا اليوم يحذّرون منها، مفضّلين توجيه المشترين نحو الشراء المباشر من المطوّرين، بحجّة أن عروض التقسيط الطويلة تجعل هذا الخيار أكثر أماناً مقارنة بالسوق الثانوي.

لكن المطوّرين أنفسهم ساهموا في تفاقم الأزمة، إذ قدّموا تسهيلات غير مسبوقة، مثل تقسيط يمتدّ لسنوات من دون مقدّم أو بمقدّم رمزي، مما أخلّ بتوازن السوق. هذه العروض جذبت شريحة من المشترين الذين دخلوا بهدف المضاربة، ليجدوا أنفسهم لاحقاً في مأزق، إذ اضطرّوا للتنازل عن أرباحهم المتوقّعة بل وأحياناً جزء من رأس المال، في محاولة لاستعادة السيولة التي باتت مجمّدة في أصول فقدت جاذبيتها الاستثمارية.

هذا الوضع يُثير تساؤلات حول جدوى شراء العقارات من المطوّرين مقارنة بالسوق الثانوي. هنا تبرز أهمية مفهوم “صافي القيمة الحالية” (Net Present Value) الذي يُتيح قياس جدوى الاستثمار عبر حساب التدفّقات المالية المستقبلية في ظلّ التضخّم وتآكل القوة الشرائية. فعلى سبيل المثال، بينما تبدو العروض المطروحة من المطوّرين جذّابة بفضل فترات التقسيط الطويلة، فإن الأسعار تم تعديلها مسبقاً لاستيعاب هذه التسهيلات، ما يعني أن القيمة الحقيقية للوحدات قد لا تكون بالضرورة أفضل من تلك المتاحة في السوق الثانوي، خاصة إذا تخلى البائع عن الأرباح المبالغ فيها.

الواضح أن السوق العقاري يعيش حالة اضطراب، وإن لم تصل بعد إلى مرحلة الفقاعة العقارية. هذا الاضطراب مدفوع بتراجع القدرة الشرائية، وسياسات التقسيط الممتدّة التي تحوّلت من وسيلة جذب إلى أداة لتجميل الأزمة. في ظلّ هذه المعطيات، لم يعد العقار، بأسعاره الحالية، ملاذاً آمناً كما كان يُروَج له، ولم تعد المضاربة السريعة سوى وهم انتهى أمام واقع جديد يتطلّب حذراً وتخطيطاً أكثر واقعية.

هل يواجه السوق العقاري المصري أزمة؟

المشهد العقاري في مصر يعكس توتّراً متزايداً، حيث تكشف المؤشّرات عن تحدّيات هيكلية قد تُعيد تشكيله بالكامل. فرغم تسجيل مبيعات بقيمة 2.5 تريليون جنيه في 2024، لا يعكس هذا الرقم بالضرورة قوّة السوق، إذ إن جزءاً كبيراً من هذه المبيعات، لم يكن مدفوعاً بحاجة سكنية حقيقية، بل جاء كردّ فعل على انخفاض قيمة الجنيه، مما دفع الأفراد للاستثمار في العقارات كملاذ تحوّطي ضد التضخّم.

في ظلّ هذا الوضع، يستمرّ ارتفاع الأسعار بوتيرة غير متوازنة مع القدرة الشرائية، مما يؤدّي إلى طلب غير مستدام. كما أن تمديد فترات التقسيط إلى 12 عاماً، مقارنة بـ 5-7 سنوات سابقاً، يُشير إلى أزمة سيولة تواجهها الشركات العقارية، التي تسعى للحفاظ على التدفّقات النقدية بأي ثمن. ورغم جاذبية هذه العروض، فإنها ترفع التكلفة النهائية للوحدات، مما قد يضع المشترين في دائرة ديون يصعب الخروج منها.

أما على مستوى الطلب، فلم يعد مدفوعاً بالحاجة الفعلية بقدر ما تحرّكه المضاربة، حيث يعتمد العديد من المشترين على إعادة البيع السريع لتحقيق أرباح قصيرة الأجل. لكن مع تباطؤ الطلب، بدأ هذا النموذج يفقد زخمه، مما أوجد فائضاً من الوحدات غير المشغولة، وأسعاراً لا تعكس واقع السوق الحقيقي.

في النهاية، يواجه السوق العقاري المصري مرحلة دقيقة، حيث بات من الضروري إعادة النظر في آليات التسعير والتمويل لضمان استدامة النمو، بدلاً من تغذيته بأساليب غير واقعية قد تؤدّي إلى انهيار مفاجئ.

هل نحن أمام فُقاعة عقارية؟

لفهم طبيعة الأزمة، من الضروري التمييز بين النموّ الطبيعي للسوق العقاري ونشوء الفُقاعات السعرية. تحدث الفُقاعة العقارية عندما تتجاوز الأسعار قيمتها الحقيقية بفعل المضاربة، وليس بسبب طلب فعلي مدفوع بالحاجة إلى السكن. في مثل هذه الحالات، تظلّ الأسعار ترتفع حتى تصل إلى نقطة لا يستطيع فيها السوق تحمّلها، مما يؤدّي إلى تباطؤ المبيعات وانخفاض تدريجي في الأسعار.

على الرغم من التراجع الكبير في القدرة الشرائية الناتج عن ارتفاع التضخم إلى مستويات تجاوزت 40%، واستمرار انخفاض الجنيه، فإن أسعار العقارات لم تتراجع، بل واصلت الصعود. هذه الظاهرة لا تعكس قوّة في السوق بقدر ما تشير إلى وجود طلب استثماري أكثر منه طلباً استهلاكياً، حيث يتمّ شراء العقارات بهدف الحفاظ على المدخّرات وليس بغرض السكن الفعلي.

أحد العوامل التي ساهمت في استمرار السوق حتى الآن، هو التدفّقات المالية من المصريين في الخارج، الذين يرون في العقارات وسيلة آمنة نسبياً لحماية أموالهم من تقلّبات العملة. في 2021، عادت تحويلات المغتربين إلى مستويات ما قبل الأزمة، مسجّلة ما يقارب 30 مليار دولار سنوياً، وهو ما يُعادل نحو 1.5 تريليون جنيه، وذهب جزء كبير من هذه الأموال إلى شراء وحدات سكنية. لكن هذا المصدر ليس مستداماً على المدى الطويل. في حال تراجع إقبال المصريين في الخارج على الاستثمار العقاري، أو ظهور خيارات بديلة أكثر جاذبية، فقد تتأثّر السوق بشكل كبير، مما يزيد من احتمالات تباطؤ الطلب وتفاقُم الفجوة بين الأسعار والقدرة الشرائية.

على الرغم من المؤشرات التي تُوحي بوجود أزمة محتملة، فإن السوق العقاري المصري لم يصل بعد إلى مرحلة الانهيار الكامل، مدعوماً بعدد من العوامل التي تمنحه قدراً من الاستقرار المؤقت.

تظلّ العقارات في مصر أحد أكثر الأصول موثوقية لحفظ القيمة، ليس فقط باعتبارها استثماراً، بل كوسيلة لحماية الثروة من تقلّبات العملة. في بيئة اقتصادية تتّسم بضعف الثقة في الجنيه وارتفاع التضخم، يبحث المستثمرون والأفراد على حد سواء عن أصول ملموسة تحافظ على أموالهم. العقارات، التي لا تتأثّر بالتقلّبات اللحظية كالعملات والأسهم، تبقى الخيار الأول بالنسبة للكثيرين، وهو ما يساعد على إبقاء الطلب مرتفعاً إلى حدّ ما، رغم التحدّيات الاقتصادية.

إلى جانب ذلك، لجأ المطوّرون العقاريون إلى آلية التوريق المالي، التي تقوم على بيع حقوق تحصيل الأقساط المستحقّة إلى مستثمرين مقابل سيولة نقدية فورية. هذه الآلية توفّر للشركات العقارية تدفّقات نقدية تساعدها في الاستمرار، لكنها تنطوي على مخاطر طويلة الأمد. إذا بدأ المشترون بالتخلّف عن سداد الأقساط، فقد ينعكس ذلك على المستثمرين الذين اشتروا هذه الحقوق، مما قد يخلق موجة من الضغوط المالية في السوق. في الوقت الحالي، يوفّر التوريق دعماً للمطوّرين، لكنه ليس حلاً دائماً، بل هو إجراء يُساهم في تأجيل المشكلات من دون معالجتها بشكل جذري.

كيف يمكن تجنّب الأزمة؟

السوق العقاري المصري يواجه تحدّيات تتجاوز مجرد العرض والطلب، إذ إن بنيته القائمة على أسعار الأراضي المرتفعة، وتركّز الاستثمار في المشروعات الفاخرة، والاعتماد المفرط على العقارات كأداة اقتصادية، تجعل الحاجة إلى إعادة الهيكلة أكثر إلحاحاً.

تعتمد معظم مشروعات التطوير العقاري على أراضٍ مملوكة للدولة تُباع بأسعار مرتفعة، ما يؤدّي إلى تضخم تكلفة المشروعات قبل حتى أن تبدأ عمليات البناء. هذه السياسة التسعيرية ترفع الأسعار النهائية للوحدات السكنية، مما يجعلها بعيدة عن متناول شريحة واسعة من المواطنين. التدخّل الحكومي لضبط أسعار الأراضي، وفرض رقابة أكثر صرامة على آليات التسعير، قد يكون خطوة ضرورية لتحقيق استقرار في السوق، بحيث لا يصبح العقار مجرّد سلعة تخضع بالكامل لمعادلات العرض والطلب غير المنظّمة.

إلى جانب ذلك، يكشف التوزيع غير المتوازن لمشروعات الإسكان عن اتجاه الدولة إلى دور استثماري بدلًا من كونها جهة منظمة للسوق. في 2022-2023، ذهبت 58% من المشروعات الحكومية إلى الإسكان الاستثماري، بينما كان يُفترض أن تركّز الدولة على مشاريع تدعم الفئات المتوسطة والأقل دخلاً. استمرار هذا النهج يعزّز عدم التوازن في السوق، ويجعل العقارات وسيلة للاستثمار على حساب توفير حلول سكنية حقيقية. إذا لم يُعَد النظر في هذه المعادلة، فقد تتفاقم الفجوة بين الإسكان الفاخر والسكن الموجّه للطبقة المتوسطة، مما يؤدّي إلى مزيد من الاختلالات في السوق.

لكن المشكلة لا تقتصر على العقارات وحدها، بل تمتدّ إلى طبيعة الاقتصاد المصري، الذي يعتمد بشكل كبير على هذا القطاع كمحرّك رئيسي للنموّ. طالما ظلّ الاستثمار مركّزاً في العقارات، ولم يتمّ تحفيز قطاعات أخرى مثل الصناعة، والتكنولوجيا، والخدمات، فسيظلّ السوق العقاري يواجه خطر الفقاعات السعرية. التنويع الاقتصادي هو الحلّ الوحيد لضمان ألا يكون العقار هو الملاذ الوحيد لرأس المال، وبالتالي تقليل المخاطر المرتبطة بارتفاع الأسعار غير المستدام.

ما السيناريوهات المحتملة؟

المستقبل القريب للسوق العقاري المصري يظلّ غير محسوم، لكنه يدور حول ثلاثة سيناريوهات رئيسية قد تتبلور خلال السنوات المقبلة، وفقًا للاتجاهات الحالية وتفاعُل الحكومة والمستثمرين مع المتغيرات الاقتصادية.

السيناريو الأول هو استمرار حالة الركود مع استقرار الأسعار، حيث سيظلّ السوق بطيئاً في المبيعات، لكن من دون حدوث انهيار حادّ. السبب الرئيسي وراء ذلك هو بقاء الطلب الاستثماري، إذ لا تزال العقارات تُعامَل على أنها وسيلة لحفظ القيمة في ظلّ تذبذب العملة المحلّية وغياب بدائل استثمارية أكثر استقراراً. في هذا السيناريو، قد لا تنخفض الأسعار بشكل كبير، لكنها ستظلّ بعيدة عن متناول الكثيرين، مما يعني استمرار الأزمة السكنية من دون حلول حقيقية.

السيناريو الثاني يتمثّل في تدخّل حكومي لضبط السوق، وهو خيار قد يصبح ضرورياً إذا استمر الخلل بين العرض والطلب. قد تلجأ الحكومة إلى فرض ضرائب على العقارات غير المستخدمة لتشجيع استخدامها الفعلي، أو وضع آليات تسعير تفرض سقفاً لهوامش الربح، أو حتى تقديم دعم للفئات المتوسطة لتمكينها من دخول السوق. مثل هذه السياسات قد تساعد في إعادة التوازن، لكنها تتطلّب تنفيذاً دقيقاً حتى لا تؤدّي إلى مزيد من التشوّهات في القطاع.

أما السيناريو الأكثر خطورة، فهو حدوث انفجار جزئي للفُقاعة العقارية. إذا استمر النمو غير المنظّم، وواصلت الأسعار ارتفاعها من دون أن يقابلها طلب حقيقي، ومع استمرار ضعف القدرة الشرائية، فقد تبدأ بعض المشروعات، خصوصاً تلك الموجّهة للاستثمار وليس للسكن، في فقدان قيمتها بشكل ملحوظ. هذا لا يعني انهياراً شاملاً، لكنه قد يؤدّي إلى تخفيضات كبيرة في بعض المناطق، مما يضع المطوّرين في أزمة سيولة حادّة ويؤثّر على استقرار القطاع بكامله.

بين هذه الاحتمالات، يبقى السؤال الأكبر: إلى أي مدى ستتدخّل الدولة لضبط الإيقاع؟ وهل السوق قادر على إعادة تصحيح نفسه من دون الحاجة إلى تدخّلات جذرية؟

إلى أين يتّجه السوق العقاري في مصر؟

السوق العقاري المصري يمرّ بمرحلة حرجة، حيث تتقاطع عوامل متضادّة بين الضغوط الاقتصادية والرغبة المستمرة في الاستثمار العقاري كملاذ آمن. وبينما يستبعد كثيرون حدوث انهيار مفاجئ، فإن المؤشّرات الحالية تُشير إلى أن الاستمرار بالنمط نفسه من دون إصلاحات جوهرية، قد يؤدّي إلى اختلالات أكبر على المدى الطويل.

المسألة لم تعد تتعلّق فقط بارتفاع الأسعار أو انخفاضها، بل بما إذا كان السوق قادراً على تصحيح مساره قبل أن يصبح التصحيح القسري أمراً لا مفرّ منه. الاعتماد المفرط على العقارات كوسيلة لحفظ القيمة، في ظلّ غياب استثمارات حقيقية في قطاعات أخرى، يخلق بيئة غير متوازنة يصعب استمرارها إلى الأبد.

بدلاً من البحث عن حلول مؤقتة كتسهيلات السداد الممتدّة أو العروض التسويقية المبالغ فيها، فإن السوق بحاجة إلى رؤية أكثر استدامة. إعادة هيكلة آليات التسعير، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وتوفير خيارات سكنية متوازنة لا تعتمد فقط على الطلب الاستثماري، كلها خطوات قد تمنع السوق من التحوّل إلى فُقاعة حقيقية. فالأمر لا يتعلّق فقط بـ”هل ترتفع الأسعار أم تنخفض؟”، بل بـ”هل يستطيع السوق أن يحافظ على تماسكه من دون أن يتحوّل إلى عبء اقتصادي جديد؟”.

20.03.2025
زمن القراءة: 9 minutes

السوق العقاري المصري يمرّ بمرحلة حرجة، حيث تتقاطع عوامل متضادّة بين الضغوط الاقتصادية والرغبة المستمرة في الاستثمار العقاري كملاذ آمن. وبينما يستبعد كثيرون حدوث انهيار مفاجئ، فإن المؤشّرات الحالية تُشير إلى أن الاستمرار بالنمط نفسه من دون إصلاحات جوهرية، قد يؤدّي إلى اختلالات أكبر على المدى الطويل.

في الأشهر الأخيرة، أصبحت إعلانات العقارات في مصر أكثر إلحاحاً، عروض استثنائية تمتدّ إلى سنوات طويلة من التقسيط، حسومات غير مسبوقة، ومشاريع تُسوَّق بأساليب لم تكن معهودة في فترات الازدهار، كأن ” تشتري شقة ” وتحصل على ” أخرى” هدية… المشهد لم يكن كذلك قبل سنوات، عندما كانت الوحدات تُباع بالكامل حتى قبل بدء عمليات البناء، وكانت الأسعار تتصاعد بثبات في سوق بدا وكأنه لا يعرف التراجع.

اليوم، تغيّرت المعادلة. المطوّرون يلجأون إلى تمديد آجال السداد وتقديم مزايا لم تكن مألوفة، في محاولة واضحة للحفاظ على تدفّق السيولة. هذا التحوّل يُثير تساؤلات جوهرية حول واقع السوق العقاري: هل تعكس هذه التغيّرات تصحيحاً طبيعياً لقطاع شهد سنوات من النموّ السريع؟ أم هي مؤشّر على اقتراب الفُقاعة العقارية من نقطة الانفجار؟

من الملاذ الآمن إلى فخّ المضاربة: كيف تغيّرت معادلة سوق العقارات المصري؟

بين آذار/ مارس 2022 وآذار/ مارس 2024، واجه الاقتصاد المصري واحدة من أشدّ أزماته، بلغت ذروتها مع تعويم الجنيه. في ظلّ هذه الظروف، استغلّ المسوقون العقاريون الفرصة لتعزيز قناعة أن العقارات هي الملاذ الآمن الوحيد أمام تراجع قيمة العملة. هذه الفكرة، رغم جاذبيتها، اعتمدت على مسار صعودي تاريخي لأسعار العقارات، لكنه بدأ يشهد تغيّرات واضحة في وتيرته وحجم زيادته.

بالتزامن مع ذلك، ظهرت موجة مضاربة قادها بعض المسوّقين أنفسهم، الذين شجّعوا المشترين على اقتناء العقارات، وإعادة بيعها سريعاً لتحقيق ربح يُعرف في السوق بـ”الأوفر”، ورغم هشاشة هذا النهج، فإنه لاقى رواجاً مع استمرار انخفاض قيمة العملة، حتى تحوّل إلى ظاهرة لافتة. المفارقة أن المسوّقين الذين دعموا هذه الفكرة سابقاً أصبحوا اليوم يحذّرون منها، مفضّلين توجيه المشترين نحو الشراء المباشر من المطوّرين، بحجّة أن عروض التقسيط الطويلة تجعل هذا الخيار أكثر أماناً مقارنة بالسوق الثانوي.

لكن المطوّرين أنفسهم ساهموا في تفاقم الأزمة، إذ قدّموا تسهيلات غير مسبوقة، مثل تقسيط يمتدّ لسنوات من دون مقدّم أو بمقدّم رمزي، مما أخلّ بتوازن السوق. هذه العروض جذبت شريحة من المشترين الذين دخلوا بهدف المضاربة، ليجدوا أنفسهم لاحقاً في مأزق، إذ اضطرّوا للتنازل عن أرباحهم المتوقّعة بل وأحياناً جزء من رأس المال، في محاولة لاستعادة السيولة التي باتت مجمّدة في أصول فقدت جاذبيتها الاستثمارية.

هذا الوضع يُثير تساؤلات حول جدوى شراء العقارات من المطوّرين مقارنة بالسوق الثانوي. هنا تبرز أهمية مفهوم “صافي القيمة الحالية” (Net Present Value) الذي يُتيح قياس جدوى الاستثمار عبر حساب التدفّقات المالية المستقبلية في ظلّ التضخّم وتآكل القوة الشرائية. فعلى سبيل المثال، بينما تبدو العروض المطروحة من المطوّرين جذّابة بفضل فترات التقسيط الطويلة، فإن الأسعار تم تعديلها مسبقاً لاستيعاب هذه التسهيلات، ما يعني أن القيمة الحقيقية للوحدات قد لا تكون بالضرورة أفضل من تلك المتاحة في السوق الثانوي، خاصة إذا تخلى البائع عن الأرباح المبالغ فيها.

الواضح أن السوق العقاري يعيش حالة اضطراب، وإن لم تصل بعد إلى مرحلة الفقاعة العقارية. هذا الاضطراب مدفوع بتراجع القدرة الشرائية، وسياسات التقسيط الممتدّة التي تحوّلت من وسيلة جذب إلى أداة لتجميل الأزمة. في ظلّ هذه المعطيات، لم يعد العقار، بأسعاره الحالية، ملاذاً آمناً كما كان يُروَج له، ولم تعد المضاربة السريعة سوى وهم انتهى أمام واقع جديد يتطلّب حذراً وتخطيطاً أكثر واقعية.

هل يواجه السوق العقاري المصري أزمة؟

المشهد العقاري في مصر يعكس توتّراً متزايداً، حيث تكشف المؤشّرات عن تحدّيات هيكلية قد تُعيد تشكيله بالكامل. فرغم تسجيل مبيعات بقيمة 2.5 تريليون جنيه في 2024، لا يعكس هذا الرقم بالضرورة قوّة السوق، إذ إن جزءاً كبيراً من هذه المبيعات، لم يكن مدفوعاً بحاجة سكنية حقيقية، بل جاء كردّ فعل على انخفاض قيمة الجنيه، مما دفع الأفراد للاستثمار في العقارات كملاذ تحوّطي ضد التضخّم.

في ظلّ هذا الوضع، يستمرّ ارتفاع الأسعار بوتيرة غير متوازنة مع القدرة الشرائية، مما يؤدّي إلى طلب غير مستدام. كما أن تمديد فترات التقسيط إلى 12 عاماً، مقارنة بـ 5-7 سنوات سابقاً، يُشير إلى أزمة سيولة تواجهها الشركات العقارية، التي تسعى للحفاظ على التدفّقات النقدية بأي ثمن. ورغم جاذبية هذه العروض، فإنها ترفع التكلفة النهائية للوحدات، مما قد يضع المشترين في دائرة ديون يصعب الخروج منها.

أما على مستوى الطلب، فلم يعد مدفوعاً بالحاجة الفعلية بقدر ما تحرّكه المضاربة، حيث يعتمد العديد من المشترين على إعادة البيع السريع لتحقيق أرباح قصيرة الأجل. لكن مع تباطؤ الطلب، بدأ هذا النموذج يفقد زخمه، مما أوجد فائضاً من الوحدات غير المشغولة، وأسعاراً لا تعكس واقع السوق الحقيقي.

في النهاية، يواجه السوق العقاري المصري مرحلة دقيقة، حيث بات من الضروري إعادة النظر في آليات التسعير والتمويل لضمان استدامة النمو، بدلاً من تغذيته بأساليب غير واقعية قد تؤدّي إلى انهيار مفاجئ.

هل نحن أمام فُقاعة عقارية؟

لفهم طبيعة الأزمة، من الضروري التمييز بين النموّ الطبيعي للسوق العقاري ونشوء الفُقاعات السعرية. تحدث الفُقاعة العقارية عندما تتجاوز الأسعار قيمتها الحقيقية بفعل المضاربة، وليس بسبب طلب فعلي مدفوع بالحاجة إلى السكن. في مثل هذه الحالات، تظلّ الأسعار ترتفع حتى تصل إلى نقطة لا يستطيع فيها السوق تحمّلها، مما يؤدّي إلى تباطؤ المبيعات وانخفاض تدريجي في الأسعار.

على الرغم من التراجع الكبير في القدرة الشرائية الناتج عن ارتفاع التضخم إلى مستويات تجاوزت 40%، واستمرار انخفاض الجنيه، فإن أسعار العقارات لم تتراجع، بل واصلت الصعود. هذه الظاهرة لا تعكس قوّة في السوق بقدر ما تشير إلى وجود طلب استثماري أكثر منه طلباً استهلاكياً، حيث يتمّ شراء العقارات بهدف الحفاظ على المدخّرات وليس بغرض السكن الفعلي.

أحد العوامل التي ساهمت في استمرار السوق حتى الآن، هو التدفّقات المالية من المصريين في الخارج، الذين يرون في العقارات وسيلة آمنة نسبياً لحماية أموالهم من تقلّبات العملة. في 2021، عادت تحويلات المغتربين إلى مستويات ما قبل الأزمة، مسجّلة ما يقارب 30 مليار دولار سنوياً، وهو ما يُعادل نحو 1.5 تريليون جنيه، وذهب جزء كبير من هذه الأموال إلى شراء وحدات سكنية. لكن هذا المصدر ليس مستداماً على المدى الطويل. في حال تراجع إقبال المصريين في الخارج على الاستثمار العقاري، أو ظهور خيارات بديلة أكثر جاذبية، فقد تتأثّر السوق بشكل كبير، مما يزيد من احتمالات تباطؤ الطلب وتفاقُم الفجوة بين الأسعار والقدرة الشرائية.

على الرغم من المؤشرات التي تُوحي بوجود أزمة محتملة، فإن السوق العقاري المصري لم يصل بعد إلى مرحلة الانهيار الكامل، مدعوماً بعدد من العوامل التي تمنحه قدراً من الاستقرار المؤقت.

تظلّ العقارات في مصر أحد أكثر الأصول موثوقية لحفظ القيمة، ليس فقط باعتبارها استثماراً، بل كوسيلة لحماية الثروة من تقلّبات العملة. في بيئة اقتصادية تتّسم بضعف الثقة في الجنيه وارتفاع التضخم، يبحث المستثمرون والأفراد على حد سواء عن أصول ملموسة تحافظ على أموالهم. العقارات، التي لا تتأثّر بالتقلّبات اللحظية كالعملات والأسهم، تبقى الخيار الأول بالنسبة للكثيرين، وهو ما يساعد على إبقاء الطلب مرتفعاً إلى حدّ ما، رغم التحدّيات الاقتصادية.

إلى جانب ذلك، لجأ المطوّرون العقاريون إلى آلية التوريق المالي، التي تقوم على بيع حقوق تحصيل الأقساط المستحقّة إلى مستثمرين مقابل سيولة نقدية فورية. هذه الآلية توفّر للشركات العقارية تدفّقات نقدية تساعدها في الاستمرار، لكنها تنطوي على مخاطر طويلة الأمد. إذا بدأ المشترون بالتخلّف عن سداد الأقساط، فقد ينعكس ذلك على المستثمرين الذين اشتروا هذه الحقوق، مما قد يخلق موجة من الضغوط المالية في السوق. في الوقت الحالي، يوفّر التوريق دعماً للمطوّرين، لكنه ليس حلاً دائماً، بل هو إجراء يُساهم في تأجيل المشكلات من دون معالجتها بشكل جذري.

كيف يمكن تجنّب الأزمة؟

السوق العقاري المصري يواجه تحدّيات تتجاوز مجرد العرض والطلب، إذ إن بنيته القائمة على أسعار الأراضي المرتفعة، وتركّز الاستثمار في المشروعات الفاخرة، والاعتماد المفرط على العقارات كأداة اقتصادية، تجعل الحاجة إلى إعادة الهيكلة أكثر إلحاحاً.

تعتمد معظم مشروعات التطوير العقاري على أراضٍ مملوكة للدولة تُباع بأسعار مرتفعة، ما يؤدّي إلى تضخم تكلفة المشروعات قبل حتى أن تبدأ عمليات البناء. هذه السياسة التسعيرية ترفع الأسعار النهائية للوحدات السكنية، مما يجعلها بعيدة عن متناول شريحة واسعة من المواطنين. التدخّل الحكومي لضبط أسعار الأراضي، وفرض رقابة أكثر صرامة على آليات التسعير، قد يكون خطوة ضرورية لتحقيق استقرار في السوق، بحيث لا يصبح العقار مجرّد سلعة تخضع بالكامل لمعادلات العرض والطلب غير المنظّمة.

إلى جانب ذلك، يكشف التوزيع غير المتوازن لمشروعات الإسكان عن اتجاه الدولة إلى دور استثماري بدلًا من كونها جهة منظمة للسوق. في 2022-2023، ذهبت 58% من المشروعات الحكومية إلى الإسكان الاستثماري، بينما كان يُفترض أن تركّز الدولة على مشاريع تدعم الفئات المتوسطة والأقل دخلاً. استمرار هذا النهج يعزّز عدم التوازن في السوق، ويجعل العقارات وسيلة للاستثمار على حساب توفير حلول سكنية حقيقية. إذا لم يُعَد النظر في هذه المعادلة، فقد تتفاقم الفجوة بين الإسكان الفاخر والسكن الموجّه للطبقة المتوسطة، مما يؤدّي إلى مزيد من الاختلالات في السوق.

لكن المشكلة لا تقتصر على العقارات وحدها، بل تمتدّ إلى طبيعة الاقتصاد المصري، الذي يعتمد بشكل كبير على هذا القطاع كمحرّك رئيسي للنموّ. طالما ظلّ الاستثمار مركّزاً في العقارات، ولم يتمّ تحفيز قطاعات أخرى مثل الصناعة، والتكنولوجيا، والخدمات، فسيظلّ السوق العقاري يواجه خطر الفقاعات السعرية. التنويع الاقتصادي هو الحلّ الوحيد لضمان ألا يكون العقار هو الملاذ الوحيد لرأس المال، وبالتالي تقليل المخاطر المرتبطة بارتفاع الأسعار غير المستدام.

ما السيناريوهات المحتملة؟

المستقبل القريب للسوق العقاري المصري يظلّ غير محسوم، لكنه يدور حول ثلاثة سيناريوهات رئيسية قد تتبلور خلال السنوات المقبلة، وفقًا للاتجاهات الحالية وتفاعُل الحكومة والمستثمرين مع المتغيرات الاقتصادية.

السيناريو الأول هو استمرار حالة الركود مع استقرار الأسعار، حيث سيظلّ السوق بطيئاً في المبيعات، لكن من دون حدوث انهيار حادّ. السبب الرئيسي وراء ذلك هو بقاء الطلب الاستثماري، إذ لا تزال العقارات تُعامَل على أنها وسيلة لحفظ القيمة في ظلّ تذبذب العملة المحلّية وغياب بدائل استثمارية أكثر استقراراً. في هذا السيناريو، قد لا تنخفض الأسعار بشكل كبير، لكنها ستظلّ بعيدة عن متناول الكثيرين، مما يعني استمرار الأزمة السكنية من دون حلول حقيقية.

السيناريو الثاني يتمثّل في تدخّل حكومي لضبط السوق، وهو خيار قد يصبح ضرورياً إذا استمر الخلل بين العرض والطلب. قد تلجأ الحكومة إلى فرض ضرائب على العقارات غير المستخدمة لتشجيع استخدامها الفعلي، أو وضع آليات تسعير تفرض سقفاً لهوامش الربح، أو حتى تقديم دعم للفئات المتوسطة لتمكينها من دخول السوق. مثل هذه السياسات قد تساعد في إعادة التوازن، لكنها تتطلّب تنفيذاً دقيقاً حتى لا تؤدّي إلى مزيد من التشوّهات في القطاع.

أما السيناريو الأكثر خطورة، فهو حدوث انفجار جزئي للفُقاعة العقارية. إذا استمر النمو غير المنظّم، وواصلت الأسعار ارتفاعها من دون أن يقابلها طلب حقيقي، ومع استمرار ضعف القدرة الشرائية، فقد تبدأ بعض المشروعات، خصوصاً تلك الموجّهة للاستثمار وليس للسكن، في فقدان قيمتها بشكل ملحوظ. هذا لا يعني انهياراً شاملاً، لكنه قد يؤدّي إلى تخفيضات كبيرة في بعض المناطق، مما يضع المطوّرين في أزمة سيولة حادّة ويؤثّر على استقرار القطاع بكامله.

بين هذه الاحتمالات، يبقى السؤال الأكبر: إلى أي مدى ستتدخّل الدولة لضبط الإيقاع؟ وهل السوق قادر على إعادة تصحيح نفسه من دون الحاجة إلى تدخّلات جذرية؟

إلى أين يتّجه السوق العقاري في مصر؟

السوق العقاري المصري يمرّ بمرحلة حرجة، حيث تتقاطع عوامل متضادّة بين الضغوط الاقتصادية والرغبة المستمرة في الاستثمار العقاري كملاذ آمن. وبينما يستبعد كثيرون حدوث انهيار مفاجئ، فإن المؤشّرات الحالية تُشير إلى أن الاستمرار بالنمط نفسه من دون إصلاحات جوهرية، قد يؤدّي إلى اختلالات أكبر على المدى الطويل.

المسألة لم تعد تتعلّق فقط بارتفاع الأسعار أو انخفاضها، بل بما إذا كان السوق قادراً على تصحيح مساره قبل أن يصبح التصحيح القسري أمراً لا مفرّ منه. الاعتماد المفرط على العقارات كوسيلة لحفظ القيمة، في ظلّ غياب استثمارات حقيقية في قطاعات أخرى، يخلق بيئة غير متوازنة يصعب استمرارها إلى الأبد.

بدلاً من البحث عن حلول مؤقتة كتسهيلات السداد الممتدّة أو العروض التسويقية المبالغ فيها، فإن السوق بحاجة إلى رؤية أكثر استدامة. إعادة هيكلة آليات التسعير، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وتوفير خيارات سكنية متوازنة لا تعتمد فقط على الطلب الاستثماري، كلها خطوات قد تمنع السوق من التحوّل إلى فُقاعة حقيقية. فالأمر لا يتعلّق فقط بـ”هل ترتفع الأسعار أم تنخفض؟”، بل بـ”هل يستطيع السوق أن يحافظ على تماسكه من دون أن يتحوّل إلى عبء اقتصادي جديد؟”.

20.03.2025
زمن القراءة: 9 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية