الشعارات السياسية الحالية المرفوعة في السويداء جنوب سوريا ضد نظام بشار الأسد، تستطيع أن تستلقيَ إلى جوار بعضها البعض مطمئنةً بعد عبورها الآمن من منبتها البعيد، محمولةً من محطة انطلاقها الأولى عام 2011 حين اندلعت الثورة السورية ضد بشار الأسد.
كأن تلك الشعارت غَفَتْ طيلة تلك السنوات، لتعود طليقةً، وقد أفرجت عنها حناجر المتظاهرين منذ مطلع الأسبوع الماضي، حينما كانوا يلتقون معها صباحاً في ساحة الكرامة، وينشدونها كلاماً حفظه السوريون، ثم غاب عنهم، ثم عاد وصحا ملدوغاً من فجاجة اللحظة السياسية الراهنة حين أشعلت فتيلهُ مجدداً، ومنها التي تقول: “عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد” و “سوريا لينا وما هيْ لبيت الأسد” و”الشعب يريد إسقاط النظام” و”يالله ارحل يا بشار” و”أبو حافظ… ما مِن ريدك” و”بشار ولاك… ما بدنا إياك”.
لكن شعاراتٍ أخرى أطلقتها الانتفاضة الحالية في السويداء، ستكون إضافةً دلاليّةً مهمّةَ إلى سجل الشعارات التقليدية الذي تزخر به الثورة السورية، إذ هي وفي آن تجديدٌ طقسيٌّ بارعٌ طاول معالم جسد الشعارات الكلاسيكية المحفوظة بعناية داخل أدراج ذاكرة السوريين، ليحملَ مذاق السخرية حيناً، وإحساس الفكاهةِ المُرّةِ حيناً آخر.
كأن تلك الشعارت غَفَتْ طيلة تلك السنوات، لتعود طليقةً، وقد أفرجت عنها حناجر المتظاهرين منذ مطلع الأسبوع الماضي.
شعارات مبتكرة طريفة
بعض تلك الشعارات المبتكرة استهواهُ الهواء الريفيّ البعيد عن الاعتصام اليومي لساحة مركز المدينة، فجاء مصاحباً لوقفاتٍ احتجاجية مسائية لم يهدأ تكوينها بعد، كالتي واظبت قرية أمتان (40 كيلومتراً جنوب السويداء) على تدبيج محتواها بصورة يومية، فاخترع سكانها أهزوجةً طريفة، رشيقةَ الكلام واللحن، سرعان ما صارت ذات تداول واسع على منصات التواصل الاجتماعي، وفي مطلعها كلام ٌ يكنسُ أيَّ أهميةٍ محتملة، قد تحظى بها زوجة رئيس النظام السوري: “يا أسماء ما منعوزك… ضبي غراضك مع زوجك”. ثم ألحقوها بأهزوجةٍ ثانية، بكلامٍ رشيق أيضاً، وإن بلحنٍ مختلف عن سابقه، وفيها تحقيرٌ إضافي لشراهة بشار الأسد للسلطة، والتصاقهِ بها رغمَ الجحيم الذي أورثه للسوريين نتيجة تمسّكه بحكم البلاد، وفيها يقولون: “يا بشار كنّك واعي وعندك أخلاق… وأنتَ بسوريا كلها ما عاد تنطاق”.
تلك الأهزوجتان يمكن ترديدهما الآن مرّات كثيرة من دون ملل يُذكر، نسمعهما بأصوات من المقاعد الخلفية لوسائل النقل العامة، أو من شباب يقصدون باكراً ملعباً صغيراً لكرة القدم، أو من طلاب وقد خرجوا للتو من أحد المعاهد التي تقدّم دوراتِ تقوية صيفيّة، ومثلهما في ذلك مثلُ ترديد محتوى العشرات من الشعارات المكتوبة على عجالة، والمخطوطةِ فوق ألواحٍ من الكارتون بلونيه الشائعين، الأبيض والأصفر، والتي تتطرق مضامينها إلى معانٍ ساخرة، تسرقُ ضحكاتٍ مستعجِلة من أفواه يابسة أوجعتها صلافةُ الحياة وقسوتها في الداخل السوري، كذاك الشعار الذي يقول ساخراً “ارحل يا نسر العروبة”، وهو اسمٌ تعجيزيٌّ بطبيعته، لكنه راق لصانعي الدعاية السياسية لبشار الأسد.
خطّ المحتجون الشعار على الجدران كالحة اللون للمباني الحكومية، وخطّوهُ بعجالةٍ ملحوظةٍ أمام مقرّات الفرق العسكرية، وداخل أسوار المدارس والجامعات، فنسرُ العروبة هو أحدُ أسماءِ بشار الأسد الأكثر تواضعاً وبصيرة، أو ذاك الشعار الذي يقول “يسقط ابن صلاح جديد على ذمتي” في تدليل ساخر من مبتكريه إلى الشبه الكبير الذي يجمع بين بشار الأسد وصلاح جديد الذي كان صديق والده ورفيق دربه، والرجل الأقوى في سوريا وحاكمها الفعلي بين العامين 1966 و1970.
إقرأوا أيضاً:
شعارات من رحم المعاناة
كان يمكن تلك الشعارات المتدفقة من ضفاف السخرية والتندّر أن تواصل النيل من شخص رئيس النظام، وكأنها تُجيز اللجوء إلى سردٍ موازٍ لسرديّة النظام عن انتفاضة السويداء، ووصفها بأنها بذرة انفصال تم زرعها هناك، وتتم مراقبة نموّها اليومي. فأحد تلك الشعارات كان يشير إلى ضرورة القطع مع هذه الأسرة التي سرقت السلطة في سوريا حين يقول بمحتواه “لن يحكم ابني جحش الرياضيات”، في إشارة إلى المراكز المتدنية التي كان يحتلها “حافظ جونير” خلال مشاركاته في منافسات أولمبياد الرياضيات.
تتّسع مساحة السخرية في شعارات مختلفة الدلالة والإيحاء، مثل شعار “يسقط حزب عمكن أبو مرهف” وهو حزب البعث، وأبو مرهف هو اسم الشخصية التي جسّدت دور القياديّ البعثيّ في مسلسل “الخربة”، أو شعار “الثورة مناوبة يوم الجمعة، صباحاً ساحة الكرامة، القريّا… السويداءـ تاميكو للثورات”، وتاميكو هو اسمٌ لشركة حكومية تصنّع الدواء، وكأن الثورة في هذا الشعار أشبه ما تكون بالصيدليّة التي لن تقفل أبوابها أبداً بوجه من يريد التداوي من الذل والمهانة.
استعاد المحتجون أيضاً، شعار “لا دراسة ولا تدريس حتى إسقاط الرئيس”، بالإضافة إلى شعارات دلّلت من خلال سخريتها اللاذعة على مقدار المحصلة المفزعة للخراب الاجتماعي الذي خلّفه وراءه هذا النظام، ومنها شعار “من حقي أعيش مع بابا” دلالةً على النسبة المرتفعة للمغتربين من السويداء الباحثين عن لقمة العيش خارج حدود الوطن. أو شعار “ما بديّ اتعلم وسافر على العراق” في إشارة إلى ذاك القدر الذي يحكم مصائر معظم الشباب حين يحدد لهم العراق كقدرٍ شبه وحيد لإيجاد فرصة حياة جديدة. أو فرصة عمل فيه، أو ذاك الشعار الذي رفعته سيدة في أحد أيام الاعتصام الطويلة “لم أنجب ابني ليسافر”، وظهرت له ترجمة إنكليزية في أسفله. أو ذاك الشعار الطريف الذي رفعه طفل “ليش غلّيتوا الشيبس” في أحد احتجاجات القرى المحيطة بالسويداء.
غير أن الشعارات الساخرة المبتكرة وذات المضمون السياسي تظلُّ هي الأكثر انتشاراً ومقدرةً على انتزاع حماسة الإعجاب بها، من بينها “طوَّل حصارك، ملّت جنودك، حلّك تفهمها حلّك، ارحل ارحل بعارك” و”ثوار أحرار لنقضي على بشار” و”لا مخدرات لا مخابرات… يكفي قتل الحريات”، ثم الشعارات الساخرة المستوحاة من الأمثال الشعبية مثل “الثلم الأعوج من الثور الكبير… يا كبير” الذي رُفع مرات كثيرة في تظاهرات بلدة القريّا، وشعار “الشجرة اللي ما بتفيي على شعبها قطعها حلال” والذي رفعه متظاهرون في قرية تعارة أكثر من مرّة.
تتبُّع تلك الشعارات يقودنا دوماً إلى حقيقة أنها مرثياتٌ ساخرة تُعيد ترتيب مكوّنات الواقع على طريقتها، وربما نقله إلى مكانٍ أقلّ شقاء من تلك النسخة الحقيقية التي تطبع عليها، إذ بمقدور طفل جميل الوجه، أن يبتسم وهو جالسٌ على أكتاف والده حاملاً شعار”ارحل يا عم… خلّي عندك دم”، والده يبتسم للمتظاهرين حين يسمع ابنه يعقّب بحذاقة على الشعار، وبصوت أملس بالكاد يُسمع “بس ما عنده دم يا بابا”.