fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

السياسة في مصر… مُشاهدة لا ممارسة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إن المنظومات القمعية والنيوليبرالية، تمارس شتّى أنواع السُلطويات العنفية والناعمة، من أجل سواد الصمت، وعدم الحديث والتدخل في سياستها، التي هي سياساتنا نحن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مصر وتحديداً يوم 3 تموز/ يوليو 2013، كان بيان وزير الدفاع المصري حينها الفريق عبد الفتاح السيسي، ليس بمثابة انقلاب عسكري أطاح بالإخوان المسلمين من سُدة الحُكم، وحسب، بل كان إطاحة بالحياة السياسية وما حولها، من حرية تعبير ومشاركة حزبية وسط أجواء تنافسية وتشاركية نزيهة وعادلة وغير ذلك مِمَّا تعنيه الأنظمة الديموقراطية. بدوره، أي النظام العسكري الجديد، توغل أكثر في الحياة المدنية، ما أدى إلى تجميد الحياة السياسية والحزبية. لكن، قابل هذا الجمود، صعود متابعة ومعرفة سياسية كبيرة لدى شرائح وفئات اجتماعية متباينة، وهذا بفضل وجود مواقع التواصل الاجتماعي. 

بعيداً من القمع

ظن بعض من القوى السياسية المدنية، ومعهم أكاديميون وباحثون وإعلاميون وصحافيون ونشطاء وسياسيون، خصوصاً المؤيدين لانقلاب الجيش، أن القمع الذي حدث تحديداً، من يوم 3 تموز/ يوليو إلى يوم فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، هو قمع خاص في حق الإخوان والقوى الإسلامية التي اعترضت على الانقلاب، وأن يد القوة الأمنية لن تقمعهم، بل ستُسلمهم الأروقة المدنية كي يُكملوا نشاطهم وعملهم السياسي والحزبي بعيدا من الإسلاميين والإخوان في قلبهم. لكن، ما حدث كان عكس ذلك تماماً. 

على مرّ السنوات التسع الماضية، كان هذا القمع عشوائياً أحياناً ومُنظماً في أحيان أخرى، إذ استهدفت الاعتقالات كوادر مهنية وسياسية وحقوقية وعسكرية وأكاديمية من مختلف التوجّهات الفكرية والتنظيمية، وعَمِل النظام الجديد على تعديل وإصدار تشريعاتٍ جديدة، تُقيد الحريات وتقوّضها، في فضاءات مُتعددة، جامعية وقضائية وصحَافية وإعلامية وبرلمانية وشارعيّة ودستورية، فضلاً عن آلة القمع، المُتمثلة في الاعتقال والاختفاء القسري والقتل بمُختلف أشكاله. كل هذا وأكثر، جعل كثيرون من روّاد السياسة يعتزلونها ويبتعدون منها، حفاظاً على الأمن الحياتي والجسدي، أو يأساً واستسلاماً للواقع، بل وجعل، أي القمع، الجماهير العريضة التي تتفرج على السياسة كُل يوم، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تتفرج وحسب، من دون أن يعنيها حتى التدخل من أجل الإصلاح أو التغيير.

ثقافة الاستهلاك

قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كانت متابعة الحدث السياسي اليومي محصورة بالقنوات الإخبارية أو الجرائد والصحف الورقية، ويهتم بها غالباً فئة معينة ترتبط بالحياة السياسية في مكان ما. أما الآن فعدد المصريين الذين يمتلكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة “فيسبوك”، يصل إلى 44 مليون مصري، بحسب موقع Data Reportal، المختص بجمع البيانات الرقمية. ربما يكون العدد الحقيقي أكبر من ذلك، بما أن التقرير ذاته، رصد أكثر من 75 مليون مصري، يستخدمون الإنترنت في مصر. 

يتابع ملايين المصريين الأحداث السياسية اليومية، من قراراتٍ حكومية، وتشريعات برلمانية، وخطابات رئاسية، وتصريحات مُعارضة من الداخل أو الخارج، وغير ذلك من كواليس جمّة حول ممارسات تخُص الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في مصر. 

هذه المُشاهدة يقابلها بعض من التعقيبات والتعليقات وفقط، حيث ينتنهي اليوم، فينتهي الحدث، ويبدأ يوم جديد، وتعليق على حدثٍ جديد، ومهما كان حجم الحدث، يكون حجم التعقيب واحداً، فقضية أمن قومي مثل سدِّ النهضة، هي ذاتها توازي قضية تشريعية بالبرلمان، ومساواة الأحداث هُنا ترجع إلى مساواة في ردّ الفعل، الذي لا يزيد ولا ينقص ولا يخرج عن مُحددات خيارات “فيسبوك”، أي إطار شاشة الحاسوب أو الهاتف. 

هذا ما جعل الجميع، يرى السياسة قريبة جداً من حيث مشاهدتها، بعيدة جداً من حيث ممارستها. ويُفسَّر هذا فيأسباب متداخلة ومُتشابكة، منها وأهمّها، آلة القمع التي عملت على مرِّ السنوات الماضية على انزواء الممارسة السياسية، وابتعاد الناس منها خوفاً من إلحاق  الضرر بهم، الذي يبدأ من التهديد وينتهي عند الموت. أيضاً، وَلَّد هذا القمع، عجز جَمعي مُكتسب (learned helpessness)، وهذا ما فسّره، عالم النفس الأميركي مارتن سيلغمان، فيما عرّفه بحالة إحباط جَمعانية، تأتي لفئة ما، نتيجة لقوة السُلطة التي حاصرتهم، وأكسَبَتُهم عجزاً، شلَّ أي نية أو دافع للمحاولة في تغيير الواقع السياسي الراهن، وهذا ما أدى إلى التفرّج فقط، وفي أحايين أُخرى، اعتزال التفرّج ذاته. 

إقرأوا أيضاً:

هذا القمع السُلطوي مع العجز في مُقاومته، جعل فئات صاعدة ومتنوعة، هي الأُخرى تخاف من السياسة، ولا تهتم بها من الأساس، بل وتحصر جُل اهتماماتها في العيش تحت منظومة الاستهلاك والتسلّع، مُحاطة بكمٍّ هائلٍ من السلع الشرائية التي يحتاجها أو لا يحتاجها الإنسان. هذا التسلّع، يُروَّج له عبر النظام النيوليبرالي، الذي لا يهمّه سوى الربح. نظام ينظُر إلى الإنسان بوصفه مُستهلكاً، بل وسلعة يستفيد منها أو يُهمّشها، إذ يعمل هذا النظام على تسخير قيمة الإنسان وفقاً لمُحددات مادّية، حيث في هذا العصر، القيمة الإنسانية تُكتسب وتُقدَّر بمَاذا وأين يأكل ويلبس ويعيش الإنسان، ولو كانت الإجابة لا تتضمّن ما ترعاه أو تُسوّق له النيوليبرالية، فلا قيمة للإنسان. 

عكس ما مضى، أو حتى في وقتنا الحالي، لكن في أنظمة غير استبدادية، أنظمة تكفل حرية الإنسان في اختياراته كافة، إذ يحصل الإنسان على قيمته، بما يُقدّمه من فكرٍ وثقافةٍ وعلمٍ وفنٍ يُفيد المجتمع والبشرية جمعاء في كل المجالات والتخصصات، إنسان يُثور ويُصلح كل فسادٍ من حوله، وليس إنسانا يُسلَّع عن طريق الصورة والبراند وتقديم حياته الشخصية، في سبيل نيل الرضا من اجتماعاتٍ مُشوّهةٍ من حوله. 

تُدار الآن في مصر، جلسات ما يُعرف بالحوار السياسي، الذي انطلق منذ أكثر من شهرين، ولم يحقق أي نتائج ملموسة وحقيقية إلى وقتنا هذا، ومع ذلك ينتظر البعض منه، تحقيق إجراءاتٍ تشريعية، تزيد من فرصة الممارسة والمشاركة الثقافية والسياسية في الفضاءات المصرية المُختلفة، على أمل أن تصدق السُلطة السياسية في ما قالته، وهذا غير مُتوقَّع طبقاً لبنية السُلطة ورؤيتها ومُمارستها منذ البداية. 

في المحصلة، إن المنظومات القمعية والنيوليبرالية، تمارس شتّى أنواع السُلطويات العنفية والناعمة، من أجل سواد الصمت، وعدم الحديث والتدخل في سياستها، التي هي سياساتنا نحن. مُقاومتها ليست شيئاً هيناً، ثمنه باهظ، لكنه سبيل مُمكن، لعدم محونا كذواتٍ، بل وإعادة تعريف ذواتنا النفسية والاجتماعية والسياسية. 

إقرأوا أيضاً:

08.07.2022
زمن القراءة: 4 minutes

إن المنظومات القمعية والنيوليبرالية، تمارس شتّى أنواع السُلطويات العنفية والناعمة، من أجل سواد الصمت، وعدم الحديث والتدخل في سياستها، التي هي سياساتنا نحن.

في مصر وتحديداً يوم 3 تموز/ يوليو 2013، كان بيان وزير الدفاع المصري حينها الفريق عبد الفتاح السيسي، ليس بمثابة انقلاب عسكري أطاح بالإخوان المسلمين من سُدة الحُكم، وحسب، بل كان إطاحة بالحياة السياسية وما حولها، من حرية تعبير ومشاركة حزبية وسط أجواء تنافسية وتشاركية نزيهة وعادلة وغير ذلك مِمَّا تعنيه الأنظمة الديموقراطية. بدوره، أي النظام العسكري الجديد، توغل أكثر في الحياة المدنية، ما أدى إلى تجميد الحياة السياسية والحزبية. لكن، قابل هذا الجمود، صعود متابعة ومعرفة سياسية كبيرة لدى شرائح وفئات اجتماعية متباينة، وهذا بفضل وجود مواقع التواصل الاجتماعي. 

بعيداً من القمع

ظن بعض من القوى السياسية المدنية، ومعهم أكاديميون وباحثون وإعلاميون وصحافيون ونشطاء وسياسيون، خصوصاً المؤيدين لانقلاب الجيش، أن القمع الذي حدث تحديداً، من يوم 3 تموز/ يوليو إلى يوم فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، هو قمع خاص في حق الإخوان والقوى الإسلامية التي اعترضت على الانقلاب، وأن يد القوة الأمنية لن تقمعهم، بل ستُسلمهم الأروقة المدنية كي يُكملوا نشاطهم وعملهم السياسي والحزبي بعيدا من الإسلاميين والإخوان في قلبهم. لكن، ما حدث كان عكس ذلك تماماً. 

على مرّ السنوات التسع الماضية، كان هذا القمع عشوائياً أحياناً ومُنظماً في أحيان أخرى، إذ استهدفت الاعتقالات كوادر مهنية وسياسية وحقوقية وعسكرية وأكاديمية من مختلف التوجّهات الفكرية والتنظيمية، وعَمِل النظام الجديد على تعديل وإصدار تشريعاتٍ جديدة، تُقيد الحريات وتقوّضها، في فضاءات مُتعددة، جامعية وقضائية وصحَافية وإعلامية وبرلمانية وشارعيّة ودستورية، فضلاً عن آلة القمع، المُتمثلة في الاعتقال والاختفاء القسري والقتل بمُختلف أشكاله. كل هذا وأكثر، جعل كثيرون من روّاد السياسة يعتزلونها ويبتعدون منها، حفاظاً على الأمن الحياتي والجسدي، أو يأساً واستسلاماً للواقع، بل وجعل، أي القمع، الجماهير العريضة التي تتفرج على السياسة كُل يوم، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تتفرج وحسب، من دون أن يعنيها حتى التدخل من أجل الإصلاح أو التغيير.

ثقافة الاستهلاك

قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كانت متابعة الحدث السياسي اليومي محصورة بالقنوات الإخبارية أو الجرائد والصحف الورقية، ويهتم بها غالباً فئة معينة ترتبط بالحياة السياسية في مكان ما. أما الآن فعدد المصريين الذين يمتلكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة “فيسبوك”، يصل إلى 44 مليون مصري، بحسب موقع Data Reportal، المختص بجمع البيانات الرقمية. ربما يكون العدد الحقيقي أكبر من ذلك، بما أن التقرير ذاته، رصد أكثر من 75 مليون مصري، يستخدمون الإنترنت في مصر. 

يتابع ملايين المصريين الأحداث السياسية اليومية، من قراراتٍ حكومية، وتشريعات برلمانية، وخطابات رئاسية، وتصريحات مُعارضة من الداخل أو الخارج، وغير ذلك من كواليس جمّة حول ممارسات تخُص الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في مصر. 

هذه المُشاهدة يقابلها بعض من التعقيبات والتعليقات وفقط، حيث ينتنهي اليوم، فينتهي الحدث، ويبدأ يوم جديد، وتعليق على حدثٍ جديد، ومهما كان حجم الحدث، يكون حجم التعقيب واحداً، فقضية أمن قومي مثل سدِّ النهضة، هي ذاتها توازي قضية تشريعية بالبرلمان، ومساواة الأحداث هُنا ترجع إلى مساواة في ردّ الفعل، الذي لا يزيد ولا ينقص ولا يخرج عن مُحددات خيارات “فيسبوك”، أي إطار شاشة الحاسوب أو الهاتف. 

هذا ما جعل الجميع، يرى السياسة قريبة جداً من حيث مشاهدتها، بعيدة جداً من حيث ممارستها. ويُفسَّر هذا فيأسباب متداخلة ومُتشابكة، منها وأهمّها، آلة القمع التي عملت على مرِّ السنوات الماضية على انزواء الممارسة السياسية، وابتعاد الناس منها خوفاً من إلحاق  الضرر بهم، الذي يبدأ من التهديد وينتهي عند الموت. أيضاً، وَلَّد هذا القمع، عجز جَمعي مُكتسب (learned helpessness)، وهذا ما فسّره، عالم النفس الأميركي مارتن سيلغمان، فيما عرّفه بحالة إحباط جَمعانية، تأتي لفئة ما، نتيجة لقوة السُلطة التي حاصرتهم، وأكسَبَتُهم عجزاً، شلَّ أي نية أو دافع للمحاولة في تغيير الواقع السياسي الراهن، وهذا ما أدى إلى التفرّج فقط، وفي أحايين أُخرى، اعتزال التفرّج ذاته. 

إقرأوا أيضاً:

هذا القمع السُلطوي مع العجز في مُقاومته، جعل فئات صاعدة ومتنوعة، هي الأُخرى تخاف من السياسة، ولا تهتم بها من الأساس، بل وتحصر جُل اهتماماتها في العيش تحت منظومة الاستهلاك والتسلّع، مُحاطة بكمٍّ هائلٍ من السلع الشرائية التي يحتاجها أو لا يحتاجها الإنسان. هذا التسلّع، يُروَّج له عبر النظام النيوليبرالي، الذي لا يهمّه سوى الربح. نظام ينظُر إلى الإنسان بوصفه مُستهلكاً، بل وسلعة يستفيد منها أو يُهمّشها، إذ يعمل هذا النظام على تسخير قيمة الإنسان وفقاً لمُحددات مادّية، حيث في هذا العصر، القيمة الإنسانية تُكتسب وتُقدَّر بمَاذا وأين يأكل ويلبس ويعيش الإنسان، ولو كانت الإجابة لا تتضمّن ما ترعاه أو تُسوّق له النيوليبرالية، فلا قيمة للإنسان. 

عكس ما مضى، أو حتى في وقتنا الحالي، لكن في أنظمة غير استبدادية، أنظمة تكفل حرية الإنسان في اختياراته كافة، إذ يحصل الإنسان على قيمته، بما يُقدّمه من فكرٍ وثقافةٍ وعلمٍ وفنٍ يُفيد المجتمع والبشرية جمعاء في كل المجالات والتخصصات، إنسان يُثور ويُصلح كل فسادٍ من حوله، وليس إنسانا يُسلَّع عن طريق الصورة والبراند وتقديم حياته الشخصية، في سبيل نيل الرضا من اجتماعاتٍ مُشوّهةٍ من حوله. 

تُدار الآن في مصر، جلسات ما يُعرف بالحوار السياسي، الذي انطلق منذ أكثر من شهرين، ولم يحقق أي نتائج ملموسة وحقيقية إلى وقتنا هذا، ومع ذلك ينتظر البعض منه، تحقيق إجراءاتٍ تشريعية، تزيد من فرصة الممارسة والمشاركة الثقافية والسياسية في الفضاءات المصرية المُختلفة، على أمل أن تصدق السُلطة السياسية في ما قالته، وهذا غير مُتوقَّع طبقاً لبنية السُلطة ورؤيتها ومُمارستها منذ البداية. 

في المحصلة، إن المنظومات القمعية والنيوليبرالية، تمارس شتّى أنواع السُلطويات العنفية والناعمة، من أجل سواد الصمت، وعدم الحديث والتدخل في سياستها، التي هي سياساتنا نحن. مُقاومتها ليست شيئاً هيناً، ثمنه باهظ، لكنه سبيل مُمكن، لعدم محونا كذواتٍ، بل وإعادة تعريف ذواتنا النفسية والاجتماعية والسياسية. 

إقرأوا أيضاً: