زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت، تمشّى في منطقة الجميزة، ووقف تحديداً عند مطعم “لو شيف” الشعبي العتيق. تناول الفطائر وحصل على قبلة دافئة من صاحب المطعم؛ شجاعة منك يا سيادة الرئيس!
مرّ أيضاً بمقهى وصيدلية، تحدث مع أهل الجميزة، غمز البعض وابتسم لآخرين، وحرص على أن يُحيي النساء قبل الرجال، الذين تدافعوا لالتقاط جزء من شهرته؛ سيلفي، فيديو، فاستعان بحرّاسه كي يتفاداهم بشكل استراتيجي.
لا تزال مقاطع الفيديو التي توثق نزهة ماكرون البيروتية تُتداول على مجموعات “الواتساب”، بعضها خضع للمونتاج بشكل ساخر، وآخرون أضافوا إليها شعار: Vive la France. الحيوية التي أضافتها زيارة ماكرون مازالت “تشعّ” فوق شارع الجميزة الممتلئ بالغبار، مثل الأضواء الخافتة في نهاية مسرحية ما، حين تبدأ الستارة بالنزول نحو الركح، لكنك تتمسك بالقصة حتى آخر لحظة، مخافة أن تعود إلى ملل الواقع.
انتهت الزيارة بسرعة، وعادت بيروت إلى يومياتها المملة، وكما يغني مغني الراب كانييه ويست أحد أهم مشاهير ثقافة الـ”بوب”، في تعليقه على المعنى الكامن بعد نزول الستار: “حتى لو لم تكن جاهزاً للصباح، فلا يمكن لليل أن يدوم”.
عاش شارع الجميزة؛ واحد من أكثر شوارع المدينة حيوية، يوماً من الشهرة والفرح، لكن هذا التأثير البراق، ليس عادة من عمل السياسيين، بل المشاهير، لكن يبدو أن السياسيين أصبحوا “المشاهير الجدد”، فقبل فترة ليست ببعيدة، زار بيروت نجم آخر، دبلوماسي أميركي، أكثر بروداً من الفرنسيين، وأكثر حذراً ومحافظة. ففيما تحمّل ماكرون القبلة الرطبة من صاحب “لو شيف”؛ مرة أخرى، شجاعة منك يا سيادة الرئيس، زار المبعوث الأميركي آموس هوكستين مقهى ستاربكس في فردان، والتُقطت له صور وهو يحمل فنجان قهوة مبتسماً، كعارضة أزياء off-duty في لوس أنجلوس.
بالإضافة إلى ماكرون وهوكستين وسلسلة صور السياسيين في الأماكن العامة، وكأنهم “من العامة”، يمكننا أن نضيف الشخصية الأكثر استعرضاً بينهم جميعاً، التي هي دونالد ج. ترامب، إذ زار في سياق حملته الانتخابية قبيل فوزه بالرئاسة الأميركية، مطعم ماكدونالدز (في مشهد منظم بعناية، من دون قبل رطبة) وأمضى بعض الوقت في إعداد البطاطا المقلية، وتقليب البرغر، وتوزيع الطلبات على زبائن “مبتسمين” (أيضاً مشهدية محضرة بعناية).
كما حصل مع فيديوهات ماكرون، البعض أُعجب بمشهد ترامب يطهو البرغر والبطاطا وآخرون سخروا منه. كانت لحظة ساهمت في إنتاج الكثير من “الميمز” أو التعليقات الساخرة، التي تحذّر من مستقبل “فاشل” في ماكدونالدز، ما لم يعمل المرء جاهداً في حياته.
بالإضافة إلى ماكرون وهوكستين وسلسلة صور السياسيين في الأماكن العامة، وكأنهم “من العامة”، يمكننا أن نضيف الشخصية الأكثر استعرضاً بينهم جميعاً، التي هي دونالد ج. ترامب
هذه الاستعراضات في الأماكن العامة من قبل السياسيين، لها تاريخ طويل يفوق المئة عام. فبعد الإطاحة بنيكولاي الثاني آخر قياصرة روسيا وإعدامه مع زوجته وأطفاله في القبو على يد الثوار، أدرك جورج الخامس ملك المملكة المتحدة، وابن عم القيصر الذي رفض إيواءه خشية قدوم الثوار إلى بلده، أنه سيكون التالي. لم تكن المؤسسة الملكية قادرة على الاستمرار من دون الناس، فلجأت العائلة الحاكمة إلى القيام بتغييرات سريعة لحفظ شرعيتها.
بدلوا كنيتهم الألمانية الأصل “سكس- كوبرج- جوتا” (saxe- coburg -gotha) إلى “ويندسور” ليبدو إنجليزياً أكثر، وفتحوا البوابات- المجازية والحقيقية- بين العائلة والشعب.
حتى الملك جورج نفسه وبعد أن كان معزولاً عن الناس بدأ بمصافحة “العامة”، من إستراتيجية الإقصاء والانفراد في الحكم، إلى فلسفة الانفتاح والمشاركة، لإيصال رسالة تفيد بأن الملكية بحاجة إلى الناس، وإلى المزيد من توازن القوى بين الشعب والعائلة الحاكمة.
أما الملوك الآخرون، فقد أدركوا أنهم في حاجة إلى أكثر من ذلك للحفاظ على سلطتهم. هكذا عمم الرؤساء الأميركيون استراتيجيات أكثر شعبوية كتقبيل الأطفال. أول حالة مسجلة لسياسي يقبّل طفلاً تعود إلى العام 1833، عندما جال الرئيس أندرو جاكسون في نيوجيرسي. بينما كان جاكسون يتوقف لتحية أم وطفلها، دفعت الأم بصغيرها بين ذراعيه. قال الرئيس: “آه! هذا نموذج رائع لطفولة أميركية!”، ثم مرّر الرضيع ذو الوجه المتسخ إلى وزير الحرب جون إيتون ليقبّله.
عند مقارنة صور الرؤساء الأميركيين بتماثيل القادة القدامى، لاحظ ميلان كونديرا أن معظم رؤساء أميركا يبتسمون بشكل واسع في صورهم، بينما لم يفعل تماثيل القادة القدماء، مثل قيصر. الابتسامة هي “رد فعل عالمي”، لا حركة شخصية.
لا نبتسم أو نضحك لأن شيئاً ما مضحك، بل هي مجرد ردة فعل طبيعية تأتي فقط بعد أن نفهم الدعابة. الضحكة لا تحمل أي موقف أو فكر ولكنها شائعة جداً، هي التعبير “الديمقراطي” الأمثل. قيصر لم يكن في حاجة إلى الضحك بعد فهم النكتة، لم يكن مضطراً ليثبت لأحد أنه فهم النكتة، أو أنه جزء من الناس.
في عصر الإنترنت، على عكس قيصر، يحتاج السياسيون إلى أن يكونوا محبوبين، ويحتاجون إلى أن يتم قبولهم، لذا يضحكون، ليكونوا ديمقراطيين. ولكن عليهم أيضاً أن يفهموا جمهورهم ودورهم. يشير عدد من الدراسات إلى أن الناس يتوقعون المزيد من التعاطف والتفاعل، ليس من السياسيين فحسب، بل من الصحافيين أيضاً.
خلال حملته الانتخابية، ظهر باراك أوباما على منصة Reddit وحاول التحدث مع المستخدمين. Reddit منصة مستخدموها مجهولو الهوية، يخوضون نقاشات طويلة حول مواضيع مختلفة. مستخدموها أغلبهم من الذكور ويميل قليل منهم نحو الليبرالية، مما ساعد أوباما حينها. أما المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، فقد اختارت جمهور TikTok من أجل حملتها الانتخابية، كانت حينها كمن يلعب بالنار. جمهور صغير السن، راديكالي، ومراهق، والمراهقون إجمالاً لن يحبوك مهما فعلت!
وضعت كامالا رهانها على منصة خاسرة، حاولت لعب دور ال”brat”، أو “الفتاة المتمردة”، التي كانت micotrend على TikTok خلال صيف 2024. حاولت كامالا دمج هذه ال microtrend؛ قصيرة الأجل بطبيعتها، في حملتها، التي كانت اتجاهاً وصفه بعض نقاد بثقافة ال”بوب”، بأنه رفض للمثالية وللأدوار النمطية للنساء.
لكن كامالا ليست متمردة؛ هي تحمل مظهراً محافظاً و”مثاليا” للغاية، خاصةً بشعرها المسرح وقلادة اللؤلؤ التي تضعها حول عنقها؛ رمز المرأة التقليدية في الولايات المتحدة، وخطاباتها المدروسة بشدة.
بعض الأدوار تناسبك، وبعضها لا. يعتمد ذلك على الممثل، لكن أيضاً على فلسفته. الفرنسيون يؤدون أدوارهم بشكل مكثف ويتقبلون القبلات الرطبة، الأميركيون يشترون المسرح والجريدة والتقييمات، والبعض الآخر يبدو وكأنه أُعطي له الدور بدلاً من أن يستحقه، مثل فنجان القهوة الذي حمله هوكستين.
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي جعلت السياسيين أكثر استعراضية مما كانوا عليه من قبل، خاصة عند مخاطبة الجيل الشاب الذي يظهر إحصائياً أنه أكثر اهتماماً بالسياسة من الأجيال السابقة. ماكرون نشط جداً على “إنستاغرام”، ترامب على “X”.
كان الرؤساء والسياسيون دائماً وراء الأبواب المغلقة، ولكن الإنترنت الآن يفتح “بوابات القصر”، مما يقربهم من الشعب أكثر من أي وقت مضى، ولو على نحو شكلي فقط. عليهم الآن أن يرتدوا قبعات الاستعراض، ويصافحوا العامة، ويتحمّلوا قبلاتهم التي ترنّ على الخدّ.
إقرأوا أيضاً: