“أنا بشكركم جداً انكم موجودين معانا… اسمحولي أقولكم اننا لازم ناخد قرار مصيري”… نبرة الصوت ذاتها، العبارات التي يكررها في خطاباته، حركات وجهه ويديه.
إنه أحد مقاطع مسلسل “الاختيار 3” الرمضاني، حيث أدى الممثل المصري ياسر جلال شخصية الرئيس عبدالفتاح السيسي، التي اجتاحت “تيك توك” و”انستاغرام”.
في الأيام الأولى للسباق الرمضاني، حاز مسلسل “الاختيار 3” نصيب الأسد من اهتمام المتابعين، إذ تصدر وسم #الاختيار3 “تويتر”، ما فتح نقاشاً حول أحداث المسلسل لا سيما أنه يجسّد شخصية السيسي، وهي طبعاً المرة الأولى منذ توليه الحكم في 4 حزيران/ يونيو 2014.
تدور أحداث المسلسل خلال فترة حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، والذي يؤدي دوره الفنان صبري فواز، قبل أن يطيح الجيش بحكمه عقب تظاهرات حاشدة، خرجت في ما يُعرف بثورة 30 يونيو 2012، حتى وصول السيسي إلى سدة الحكم.
أثار الطرح جدلاً واسعاً حول صحة أحداث المسلسل، وطريقة سرد التاريخ في الأعمال الدرامية أو السينمائية، بخاصة أننا لا نتحدّث عن حقبة قديمة، بل عن حقبة نعيش فيها.
أولويات الدولة… الفن والثقافة في المقام الأول
في مداخلة هاتفية سابقة للرئيس السيسي مع برنامج “صالة التحرير” على قناة “صدى البلد” قال: “الدولة لديها أولويات تجاه قضاياها، والإعلام والثقافة والفنون لها أولوية متقدمة، لفت نظري الحوار والحديث حول تجديد الخطاب الديني وضرورة تقديم أعمال تتناول التاريخ ودمجه بالأحداث، وأنا أدعم ذلك، أتحدث عن ضرورة اختيار القضايا التي يتم تناولها في الأعمال الدرامية منذ ترشحي للرئاسة، ووقتها ظن بعض الفنانين أنني أتحدث عن تحجيم الإبداع، دعمي للإبداع ضخم، والدولة مستعدة لذلك”.
يسهب السيسي في الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني والفني، وعن رؤية الدولة لأهمية الفنون، ولكنه يتحدث أيضاً عن وصاية الدولة على هذه الفنون، وحقها في اختيار القضايا المناسبة لتناولها في الأعمال الدرامية والسينما. وهو ما يوضح النهج الرقابي الذي يفرضه النظام على الأعمال الفنية، وقد زاد الأمر سوءاً مع الاحتكار الذي تمارسه شركة Synergy على المسلسلات، كما عانت صناعة السينما والتلفزيون إلى حد كبير من تخفيضات الميزانية والصعوبات الاقتصادية خلال العامين الماضيين، لا سيما مع ارتفاع التضخم بعد تعويم العملة المحلية في 2016.
حققت الدولة رغبتها في السيطرة على الإنتاج الفني، إذ تبنت إنتاج أعمال سينمائية وتلفزيونية لتمجيد بطولات الجيش والشرطة مثل مسلسل “الاختيار” في جزءيه الأولين.
يقول علي مراد، الرئيس التنفيذي لشركة “الشروق للإنتاج الإعلامي”، “إن تحديد الموضوعات التي ستتم مناقشتها والتي لن تتم مناقشتها ليست رقابة، لا أعتقد أننا سمعنا عن هذا المستوى من الرقابة منذ عهد الرئيس السابق جمال عبدالناصر. يبدو الأمر كما لو أننا نعود 60 عاماً إلى الوراء، الأمور صعبة للغاية بالنسبة للمنتجين في الوقت الحالي، وقد جعلت مؤسسات (الدولة) الأمور أكثر صعوبة. ليس من السهل الحصول على موافقات التصوير، وتمرير السيناريو من خلال الرقابة أصبح اليوم أكثر صرامة من أي وقت مضى”.
يقول صبري السماك، المنتج الفني البارز “إن كثراً ممن عملوا سابقاً في صناعة الدراما يجلسون في منازلهم بلا عمل، نظراً لانخفاض حجم الفرص في الصناعة بسبب هذه القيود”، موضحاً كيف يتناقص الإنتاج بسبب هذا التقييد، “لقد أثر التحجيم في الموظفين في جميع المجالات، سواء كانوا فنيين أو مصورين سينمائيين أو طاقم عمل… ما أخشاه هو أن هذه المجموعة من المواهب العاطلة من العمل حالياً ستغير وظائفها، الأمر الذي سيأتي على حساب الصناعة. لا أعتقد أن الجيش يرى هذا؛ لديهم ببساطة هدف واحد واضح: السيطرة على الصناعة. نفذت الحكومة بشكل فعال، من خلال المؤسسات التي تديرها، أول عملية احتكار في تاريخ الجمهورية الجديدة”.
تثير هذه القيود الجديدة نسبياً على إنتاج الدراما مخاوف ليس فقط بشأن ما هو الأفضل للمواهب الفنية، ولكن أيضاً بشأن حرية التعبير، حيث تملك الحكومة الآن سيطرة كاملة تقريباً على ما يتم بثه وما لا يبث على التلفزيون. هذه الخطوة مقلقة أيضاً لأنها جزء من حملة أكبر على الفنون من قبل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
في نيسان/ أبريل 2017 ، تم تشكيل 3 كيانات حكومية جديدة بموجب مرسوم رئاسي لـ”إصلاح” صناعة الإعلام، على رغم أن كثيرين يرون أنها طبقة إضافية من الرقابة. قد يؤدي نشر أو بث المواد التي تعتبر “ضارة بالأمن القومي” إلى فرض غرامات شديدة، وحظر السفر، أو حتى السجن، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى إجراءات المراقبة الأوسع من قبل كيانات مثل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذي تم تشكيله حديثاً.
تم إلقاء القبض على مخاض الشعراء والكتاب والكتاب الساخرين وصناع الأفلام وحتى أصحاب المكتبات أو تغريمهم أو منعهم من السفر في ظل حملة السيسي على الحرية الفنية منذ توليه منصبه. تصف “هيومن رايتس ووتش” هذه الخطوة بأنها “لإسكات انتقادات الحكومة في التلفزيون وفي الأفلام والمسارح والكتب”.
إقرأوا أيضاً:
“الاختيار” بديلاً لـ”الإرهاب والكباب”
على رغم كل تلك القيود التي يفرضها السيسي على الحرية الفنية، إلا أنه يدرك تماماً أهمية السينما والدراما في التأثير في المجتمع، ففي حديث سابق له، تحدث عن فيلم (الإرهاب والكباب)، وكيف أنه جعل من الدولة خصماً للمواطن، وكانت ثورة يناير 2011 نتاج تلك الخصومة، وهو ما يوضح لنا وجهة نظر الرجل في السينما، والموضوعات التي يجب أن تتناولها، فأعمال على شاكلة “الاختيار”، هي النموذج المحبذ من الدولة، بل ربما يكون النموذج الوحيد الذي يصور الدولة ورجالها على هيئة أبطال خارقين، لا يهتمون سوى بتخليص الشعب من الإرهاب والأشرار، لكن الجديد هذه المرة هو تجسيد شخصية الرئيس وهو لا يزال على رأس الحكم في البلاد، فالسيسي قرر إلى السينما والفنون، أن يكتب هو التاريخ.
وفقاً للباحثة في مجال الإعلام والصحافة إليزابيث أ. سكويز، فإن سلوك الرؤساء لا يتعلق حصراً بتطبيق الدستور والقانون، بل أيضاً بالصورة التي تُنقل لعموم الشعب، فغالباً ما تتحدث الصور الرئاسية التي يجدها الجمهور في الأفلام والدراما عن الثقافة السياسية والاجتماعية، أكثر مما تنقله أفعال الرئيس المباشرة.
يمكن أيضاً أن تكون التمثيلات السينمائية للرؤساء وسيلة لتهدئة بعض مخاوفنا. توضح إليزابيث، أنه إذا كنا على سبيل المثال، نعيش في عالم يخيم علينا فيه خطر الحرب النووية، فقد يظهر رؤساء وهميون في السينما وهم يتعاملون مع هذا التهديد.
تشير إليزابيث، إلى أن تجسيد الرؤساء لأنفسهم في السينما، قد يكون رغبةً منهم في تحقيق شيء غير موجود في الواقع، باختصار، إذا كان هناك عدم يقين بشأن الشيء الحقيقي، فيمكننا دائماً اللجوء إلى السينما والدراما لإعادة تأكيد إيماننا بالنظام.
لم يسبق لرئيس مصري أن تُجسدت شخصيته بهذا الوضوح في السينما والدراما، فمنذ قيام ثورة يوليو 1952، وتحول مصر إلى جمهورية، لم يتم تجسيد شخصية رئيس وهو في سدة الحكم، ربما تناولت بعض الأفلام شخصية رئيس الجمهورية في زمن أحداثها، مثل فيلم ” الله معنا” الذي تناول بشكل غير صريح شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكذلك الحال بالنسبة إلى الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي تم تجسيده في المسلسل الإذاعي “سيرة ومسيرة“، بطولة الفنان نور الشريف، لكنه لم يلقَ أي اهتمام من الجمهور حينها.
عربياً، كانت أكبر المحاولات التي جسدت رئيساً عربياً وهو لا يزال في الحكم، فيلم “الأيام الطويلة“، التي جسد قصة حياة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، فبعد صعوده إلى السلطة قرر صدّام تحويل رواية “الأيام الطويلة” إلى فيلم سينمائي يخلد مسيرته النضالية، وقد وقع الاختيار على المخرج المصري توفيق صالح لإخراج الفيلم، وهو مخرج معروف بانتمائه إلى تيار اليسار الماركسي وكانت في رصيده أفلام سياسية مثيرة للجدل مثل “المتمردون” عام 1968.
وقد تمثلت المهمة الأصعب للمخرج في اختيار الممثل الذي سيقوم بدور صدّام، وقد وضعت شروط صارمة كان من الضروري توفرها في الممثل الذي سيجسد الدور، إذ كان على الممثل ألا يملك أي تاريخ شخصي مشين يلوث سمعته وألا يكون قد مثل أدواراً لا تليق بأن يمثل بعدها دور الرئيس القائد، وأن يكون متمكناً من التمثيل ليؤدي شخصية مركّبة.
أين ذهب سيناريو وحيد حامد؟
لم يكن الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار” هو المرة الأولى التي يتم فيها تجسيد الرئيس السيسي في السينما والدراما، إذ كانت هناك محاولة سابقة في السينما من سيناريو الراحل وحيد حامد، وإخراج محمد سامي، تحت عنوان “سري للغاية”.
وعلى رغم وصف الصحف التابعة للدولة لإنتاج الفيلم بالـ”الضخم”، إلا أن الفيلم لم يرَ النور حتى الآن، وكان يلعب دور السيسي، الفنان أحمد السقا، وتتناول أحداث الفيلم كما ذُكر، الفترة من 2011 إلى 2013 حيث أطاح السيسي بالإخوان المسلمين من الحكم.
ومع طرح مسلسل “الاختيار” الجزء الثالث، والذي يؤرخ للفترة الزمنية ذاتها التي كان من المرجح أن يتناولها فيلم “سري للغاية”، ساد لغط حول أسباب منع الفيلم وعدم رضا الرئيس عنه.
تحدث الكاتب بلال فضل قبل عرض المسلسل بأيام عن سبب منع الفيلم، موضحاً أن السيسي لم يعجبه الممثل أحمد السقا بسبب قصر قامته وأنه طلب ممثلاً ضخم الهيئة وطويلاً لتجسيده، وقال إن ياسر جلال يلعب دور السيسي في الاختيار لهذا السبب تحديداً.
فيما نفى صحافيو الدولة هذا الاتهام، وقال محمد الباز رئيس مجلس تحرير “جريدة الدستور” على صفحته الشخصية في “فيسبوك“:
“رواية بلال فضل عن فيلم ملف سري الذي كتبه أستاذنا وحيد حامد، رواية ملفقة، وبلال فضل يكذب كما يتنفس، ويستخدم خياله المريض فى نسج حكاية خيالية تتناسب مع من يكفله”، ووعد الباز بنشر الرواية الصحيحة قريباً.
في جميع الأحوال، لم يكن ليأتي الفيلم بغير ما أتى به المسلسل فتجسيد شخصية رئيس ما وهو حي في السياق المصري الحالي، لا يعني سوى أننا أمام وجهة نظر واحدة، فكيف سيجرؤ كاتب ما أو مخرج على نقد الرئيس؟
هوليوود… صورة الرئيس بين البطل الخارق والأحمق
في تاريخ أفلام هوليوود، كان للرئيس الأميركي الكثير من الصور، زعيم شجاع، وأحمق غير كفء، وبطل محبوب. هناك شيء واحد مؤكد بغض النظر عن الحقبة، إلا أن الرؤساء سواء كانوا خياليين داخل القصة أو مجسدين بشخصياتهم، فإنهم يبقون مادة دسمة ومتكررة لصانعي الأفلام.
كان تجسيد الرؤساء موضوعاً مألوفاً في هوليوود، منذ إنتاج أولى الصور المتحركة في منتصف تسعينات القرن التاسع عشر. لم يتم تصوير جميع الرؤساء في الأفلام بالطريقة نفسها، ظهرت أكبر مجموعة من الرؤساء المختلفين في السينما على مدار المئة عام الماضية. على سبيل المثال تم تصوير الرؤساء الأوائل بكثير من الاحترام والرهبة، ظهر القادة اللاحقون على الشاشة مع الكثير من العيوب أو حتى ببساطة كأشرار. يمكن العثور على اختلافات لا حصر لها عند وصف الرؤساء في السينما. ومع ذلك، فإن الاختلافات الأكثر إثارة للاهتمام هي التي يمكن اكتشافها مع مرور الوقت، إذ يمكن اعتبارها انعكاسات لمزاج الجمهور وتصوراته حول الرئاسة في ذلك الوقت.
أول الأفلام الرئاسية كان عبارة عن سجلات وثائقية للأحداث العامة التي صورتها كاميرات الأفلام. في وقت مبكر من عام 1896 تم تصوير الرئيس المنتخب ويليام ماكينلي على شرفة منزله في أوهايو. ومع ذلك، ومع ظهور نظام الاستوديو عام 1910، ظهرت فئتان جديدتان من الأفلام تمثلان الرؤساء. إحداها كانت الدراما التاريخية، حيث تم تصوير حياة أو جزء من حياة رئيس حقيقي. الآخر يكمن في عالم الخيال، إذ تم إنشاء رؤساء وهميين لغرض الكوميديا والغموض والمغامرة والميلودراما والرومانسية. يكشف تطور هذه الفئات السينمائية عن مواقف مثيرة للاهتمام حول السياسة بشكل عام والرؤساء بشكل خاص، إذ تميل الأفلام غالباً إلى عكس الحالة المزاجية للجمهور في وقت إصدارها. من الواضح أن الدراما التاريخية والسيرة الذاتية كانت أكثر الأنواع شيوعاً لنقل الرؤساء في ذلك الوقت. كان معظم الرؤساء الذين تم تصويرهم قادة مرموقين مثل لينكولن وواشنطن.
بمرو الوقت تناولت الأفلام حياة الرؤساء سواء بالنقد أو المدح، كما تناولت طموحاتها في شكل وشخصية الرئيس، وهو عكس ما يحدث في الإختيار ذو النظرة الأحادية للتاريخ من جهة، ولصورة الرئيس من جهة أخرى. مثلاً، تبنت السينما الأميركية لعقود طموح السود في أن يحكم البلاد رئيس ذو بشرة سوداء، لقد رأينا الكثير من الرؤساء السود بالفعل، ليس في البيت الأبيض الحقيقي ولكن في أميركا الافتراضية في السينما والتلفزيون. ساعد ذلك على تخيل اختراق السيد أوباما لجنبات البيت الأبيض قبل حدوثه. وبطريقة متواضعة، سارعوا أيضاً بوصوله.
كما أصبحنا في الفرة الأخيرة، نرى اتجاهاً ساخراً للرئاسة في السينما الأميركية، ففي فيلم “W” ينتقد المخرج أوليفر ستون، الرئيس السابق جورج بوش الأبن، عن طريقه تصويره كأحمق لا يجيد التصرف، ويفتقد الحنكة السياسية، ويصفه أيضاً بالسطحية، مستنكراً كيفية وصوله إلى الحكم.
وفي أحدث الإنتاجات السينمائية في أميركا، وجه المخرج آدم ماكاي في فيلم
Don’t Look up، نقداً مباشراً للسياسة الأميركية تحت حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، بسبب سخريته الدائمة من قضايا المناخ، والأمور العلمية، استخدم ماكاي الرمزية، حيث جسدت شخصية الرئيسة أورلين في الفيلم دونالد ترامب في الحقيقة، والتي لعب دورها الممثلة ميريل استريب. وهي اتجاهات تجعلنا نتسائل متى سنرى السينما والدراما في مصر تنتقد الرئيس، بدلاً من أن تُفرد ثلاثون حلقة لتمجيده؟
إقرأوا أيضاً: