وجدت نفسي نافراً في هذه الموقعة التي امتد غبارها في كل أرجاء البلاد العربية وفي ساحات التواصل الاجتماعي، ولم أسمع سوى ضجيج وصراخ وشتائم وتخوين أخلاقي واتهامات بالتسلق والوصولية وحب الشهرة والمؤامرات الكونية على القضية الفلسطينية ورموزها وإشارات عنصرية، إضافة إلى استنفار قبلي وعشائري مقيت في بعض وجوهه.
عندما قرأت مقالة الشاعر السوري الكوردي سليم بركات عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش، رحت من ساعتي وشاركت المقالة على صفحتي في “فايسبوك” وطرزتها بعنوان “نشيد الأناشيد في الحب بين شاعرين”. هذا ما وصلني من مقالة بركات، وصف حميم لحبه الشاعر الفلسطيني الذي بادله الحب وأحب شعره ونثره، وإن كان أحب نثره أكثر من شعره.
ألم يلتفت محمود درويش يوماً وهو الشاعر والناثر المسكون باللغة إلى لغة سليم بركات التي تعرضت في هذين اليومين إلى حملات شرسة من الشتائم والأوصاف البشعة لوعورتها ورعويتها وتكلفها وتحجرها وصخريتها ومخاتلتها واحتيالاتها على المعنى واستعبادها في خدمة ما سمّي الغيرة والكراهية والرغبة المضمرة في قتل الأب محمود درويش.
نفور وامتعاض من لغة سليم بركات غير المفهومة، عن قصد، برأي البعض، مع أن هذه هي اللغة التي كتب بها بركات منذ بداياته في الكتابة ومذ عرفه الشاعر الفلسطيني. صحيح أن لغة سليم بركات ليست مألوفة في الأدب العربي الحديث، إلاّ ما ندر وذلك لانشغال بركات العميق والدؤوب بأسرارها الدفينة وبمغامراته لتطويعها وجعلها تنفض عن كاهلها غبار الضجر والتكرار والرتابة السائدة. وقد تذكرنا تجربة انشغال سليم بركات باللغة إلى حد ما بتجربة الانشغال باللغة لدى الكاتبين اللبنانيين وضّاح شرارة وأحمد بيضون والكاتبة رشا الأمير والكاتب التونسي محمود المسعدي، في استنادهم إلى ما جاء في تراث اللغة العربية القديم ومحاولة تقديمه بصورة حديثة قريبة من اللغة المكتوبة اليوم، في حين أن بركات ثابر منذ بداياته عكس تجربة هؤلاء، ونجح في نحت حديث في استخدامات العربية وجعلها تتخلص من شوائب الإطالة والعطف والمداورة، كما على اللغة أن تكون حيّة وحيوية وقابلة للتطور والتجدد.
قبل الدخول إلى أسرار الهجومات على مقالة بركات في الفزعة القبلية العشائرية الأخلاقية الصادمة في كتابات شعراء ونقاد وروائيين ووطنيين فلسطينيين وقوميين عروبيين وقراء شعر ورواد وسائل التواصل الاجتماعي من محبي محمود درويش ومريديه، من المثير أن نسأل لم كل هذا الهجوم والتبرم والتقزز من لغة بركات العربية التي لا تختلف عن كتاباته الشعرية والنثرية منذ نحو خمسين عاماً.
لماذا بدأت مقالات النقد التي تناولت مقالة بركات بالإشارة إلى لغته وغموضها؟ ليس الآن الوقت للدخول في استعراض نقدي سوسيولجي وسيكولوجي وثقافي، لماذا من بين كتاب العربية تبرز لغة سليم بركات نافرة وواضحة في صعوبتها وعمقها وهي اللغة نفسها التي يتداول مفرداتها الناس في حياتهم العادية. لقد شهد تاريخ الأدب الحديث هذا النوع من الكتاب الذين أوغلوا في نحت لغة كتابتهم حين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم. لقد تناول المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد هذه المسألة في أطروحته المهمة عن جوزيف كونراد الكاتب البولندي الأصل الذي كتب بالفرنسية أولاً ثم كتب رواياته بالإنكليزية. لقد أحب ادوارد سعيد كونراد التشابه في مصيريهما فالكاتبان تركا وطنيهما وصارا كاتبين في المنفى وكرسا حياتيهما في تفسير، لنفسيهما وللقراء، معنى أن تكون منتزعاً من جذورك ومنفصلاً عن ماضيك وأنت تشهد تقلص هويتك والخدوش التي تصيبها في كل لحظة. كتب كونراد بالإنكليزية وكتب سعيد بالإنكليزية بأسلوب وتركيب لغوي لم يكن سهلاً بل حفرا في منعرجات اللغة لأنهما تعلما من التجربة المعاشة في المنفى وبسرعة هائلة أن الإحساس بالهوية مرتبط باللغة.
عندما نشر الكاتب البريطاني من أصول هندية سلمان رشدي في نهايات الثمانينات روايته “آيات شيطانية” صاحبت نشر الرواية ضجة غير تلك التي أثارتها فتوى آية الله الخميني، بهدر دم رشدي لتجديفه ضد الدين الإسلامي وأعني الضجة التي قادها كتاب بريطانيون معروفون ضد رشدي بسبب لغته الإنكليزية، “المقعرة والصخرية الباردة والوعرة والمتكلفة في أرستقراطيتها”. يحيلنا ذلك إلى ما جاء في الأوصاف التي شهدناها حيال لغة سليم بركات. ونتذكر أيضاً تلك الكتابات الإسرائيلية حول رواية “أرابيسك” للكاتب العربي الفلسطيني أنطون شماس المكتوبة بلغة عبرية متينة فاقت في تركيباتها اللغوية وكشوفاتها البنيوية للغة العبرية ما كتبه أهم الكتاب العبريين الحديثين.
يمكن القول إن بركات الكاتب السوري الكوردي منفيّ داخل اللغة العربية، اللغة الوحيدة التي استطاع أن يعبر بها عما يريد وصفه من تشظي الهوية واختناق المكان مثلما فعل إدوارد سعيد وجوزيف كونراد وسلمان رشدي وأنطون شماس. فالتجربة الخاصة جعلتهم يعترفون بالرابط بين الثقافة والعنف واللغة والسلطة والسردية والهيمنة ويصفونه بكل تعقيداته وتأثيراته.
كل ما قيل من أوصاف حيال لغة هذه المقالة البوحية للكاتب والشاعر سليم بركات لم يكن غير وصف لحالة العجز في متابعة اللغة ورفض القراء الدخول في مغامرة بركات في غابات اللغة الغنية القادرة على منحه القدرة على مواجهة تشظي الهوية منطلقاً من أصول هوياتية مختلفة عن تلك التي اعتمد عليها صديقه درويش الذي فهم بعمق تجربة بركات، فكتب له في قصيدته “ليس لكردي إلاّ الريح”:
هُوِيَّتي لُغتي. أنا… وأنا.
أنا لغتي. أنا المنفيّ في لغتي.
الرفض والقسوة في التعاطي مع بركات ومقالته التي صدرت في كتاب، تمحورا حول قضايا أخلاقية قابلة للنقاش ولتعدد وجهات النظر التي قد تكون محقة جميعها. هل من المسموح للصديق بأن يكشف سرّ صديقه بعد موته؟ وهنا المسألة تتعلق بالأخلاق والتركيب السيكولوجي للفرد، والأخلاق والتراكيب السيكولوجية كما نعرف تختلف مقاييسها باختلاف الثقافة وباختلاف الأفراد، وليس أحرص على حفظ الأسرار من الثقافة العربية وليس أكثر من الثقافة العربية انفلاشاً في كشف الأسرار. لو حاكمنا كشف سرّ محمود درويش في مقالة بركات بمقياس بسيط وتبسيطي قد نقول إن بركات ارتكب خطأ في كشف سر صديقه الذي عندما أباح له به لم يكن يكترث للسر كما جاء في مقالة بركات الذي لا أعتقد أنه يكذب، وخصوصاً في أمر يتعلق بمحمود درويش. بحسب ما جاء في وصف بركات هذه الحكاية لم يكن حتى محمود درويش يعتبرها سرّاً تجب المحافظة عليه أو حكاية كان يمكن أن يحكيها علناً قبل رحيله. نحن لا نعرف ظروف علاقة درويش بهذه المرأة ومدى صدق المرأة نفسها في أن محمود هو أب لابنتها حقاً. في العالم الكثير من الحكايات حول أبناء وبنات “لا شرعيين” لمشاهير ثبتت صحتها كما ثبت عدم صحتها في بعض الأحوال.
لا أشك أولاً بصدق سليم بركات وبأن درويش أخبره بالحكاية ولن أطرح هذا السؤال الذي أعتبره بصراحة سؤالاً بوليسياً ساذجاً ولا معنى له: لماذا كشف بركات السرّ الآن وهو الذي يعرفه من عام 1990، أي أن الطفلة صارت اليوم امرأة في بداية الثلاثين من عمرها. عندما هبّ المعلقون وطرحوا السؤال لماذا الآن كانوا يضمرون من وراء السؤال مؤامرة كونية عقلها المدبر والمنفذ سليم بركات وربما حلفها الإمبريالية العالمية والصهيونية كما جاء في تعليق لكاتبة.
تكتظ مكتبة علم النفس الإكلينيكي بالأبحاث والكتب والدراسات الميدانية حول سيكولوجية الأسرار الشخصية وحملها وإفشائها للآخرين. أسرار نقلها لنا أصحابها أحياءً وأمواتاً وأفشيناها لدائرة ضيقة أو للعلن عبر الميديا. تحلل هذه الدراسات ثقل السرّ على صاحبه وحين يخبر به أحداً، بحسب التحليل النفسي، تكون لديه رغبة لا واعية في إزاحة الثقل عن قلبه وعقله بمشاركته مع الآخر. ويذهب التحليل النفسي إلى مدى أبعد من ذلك في أن صاحب السر يرمي من وراء بوحه إلى رغبة لا واعية أيضاً في أن يكشف الشخص المودع السر عنده ليريحه من وجع أحياناً في الضمير. هذا التحليل ليس نموذجاً في كل الحالات ولكن علم النفس لا يغفله أبداً. قد يقول كثيرون، لماذا أودع محمود سره لدى سليم بركات وليس غيره ممن كان يعتقد الناس أنهم أصدقاؤه المقربون أو ممن ادعوا أنهم أصدقاء الشاعر؟ هنا تكمن مسألة أخرى جديرة بالتفكر والتحليل. لأن سليم بركات صديقه الأقرب على ما أعتقد وليس، بحسب بركات نفسه، لأن الشاعر اعتبره ابناً له، وهذا تفسير سيكولوجي آخر. هو أحب بركات باختلافه عنه وبإبداعه الأدبي الساطع وبإعجابه بلغة بركات وكيفية قبضه على دواخلها وربما هذا ما أراده محمود درويش، كشف السرّ الثقيل على روحه على هودج الشعر أو على السارية العالية للكلمات التي تستطيع أن تقدم سرّه واضحاً كما الحقيقة، فيراه القريب والبعيد وليس من طريق لغة النميمة التالفة في دواوين القبيلة وهو يستحق ذلك. يستحق الشاعر أن يكشف سرّه شاعر يوازيه شاعريةً أو ارتباطاً باللغة، هوية للروح.
الذين تعاملوا مع هذه “الفضيحة” اعتبروا بركات خائناً للأمانة ومتسلقاً على أكتاف الشاعر، واعتبروا أن يكون لمحمود ابنة عاراً وإهانة لصورته وذبحاً للشاعر كما قال أحدهم أو إعداماً علنياً له كما كتب آخر، وكأن الشاعر لا يرتكب سقطة “أخلاقية”. أين المشكلة في أن يكون لمحمود درويش ابنة من عشيقة متزوجة من رجل آخر أو غير متزوجة. لم ينتبه أحد من الناطقين باسم القبيلة إلى المرأة والى السقطة “الأخلاقية” التي ارتكبتها أو إلى المأساة التي أصابتها وأصابت ابنتها وزوجها في هذه الحكاية التي تلفها درامية بائسة، أو إلى زوجها المخدوع إذا كان لا يعلم بأن البنت ليست ابنته وإلى شهامته وكرمه إذا كان يعلم بالحكاية. ثم لم يتحدث أحد عن مصير البنت، المرأة التي صارت في الثلاثينات الآن، وهل تعرف أن أباها البيولوجي هو درويش أم لا تعلم. هناك فروع كثيرة للحكاية لكن الفزعة القبلية لم تر غير صورة محمود درويش وخيانة صديقه والمؤامرة ضد القضية الفلسطينية والنقاء الذي لا يضاهيه نقاء للشاعر الفلسطيني الكبير.
ليس من المأساة أن يرتكب شاعر ما، محمود درويش أو غيره خطأً لا يمكن إرجاعه إلا لخلل في التعامل الإنساني الذي يكتنف العلاقات العاطفية بين البشر بين رجل وامرأة أو أب وأطفاله أو أم وزوجها، ومهما كانت الظروف المحيطة بالحكاية أي أن لا تكون الأم زوجته وتكون متزوجة من رجل آخر وأن يكون كشاعر وكمحمود درويش لا يكترث لأن يكون أباً وهو دورٌ ذكر أكثر من مرة أنه لا يصلح له أو لا يريده أصلاً وهو حق إنساني له أيضاً. إن ما كان لمحمود درويش وما بقي له ومنه هو إرثه الشعري وقيمته الأدبية ورمزيته كمبدع فلسطيني أخذ بلاده وهويته على أجنحة الشعر إلى الكون.
عندما فكّر أحد السينمائيين الفلسطينيين مرة قبل نحو عشر سنوات أن يقدّم فيلماً روائياً عن محمود درويش واتصلت بي من فلسطين باحثة فلسطينية تعمل معه على الحصول على معلومات، بهدف كتابة السيناريو قلت لها إنني لست مع أي فيلم روائي عن محمود درويش. وهذا كان رأيي أيضاً عندما اتصل بي عام 2009 المنتج والممثل السوري فراس ابراهيم يعرض عليّ إخراج مسلسله التافه عن محمود درويش والتقيته مع كاتب السيناريو حسن م.يوسف، لأنني كنت بالمصادفة في دمشق مع صديقي الراحل محمد شمس الدين، وقلت إنني ضد أي عمل روائي أو درامي عن الشاعر.
وجهة نظري هي ماذا ستكتب عن محمود درويش وكيف تقدمه في عمل روائي غير وثائقي؟ هل ستكذب وتضيف من خيالك أم سوف تكون صادقاً؟ وليس محمود درويش منزهاً عن الأخطاء والمثالب فلنترك محموداً يرقد بسلام ويكفينا منه ما قدمه لنا، فلسطينيين وعرباً من الشعر وهذا يكفي من الشاعر.
ربما يكون هذا السر واحداً من أسرار كثيرة في حياة درويش الذي عرف عنه علاقاته النسائية المتعددة في البلاد التي عاش فيها أو زارها، منها ما هو معروف لأصدقائه القريبين ومنها ما هو غير معروف. ولكن ليس كل من قال إنه يعرف أسراراً كثيرة عن محمود درويش صادقاً وليس كل من عرف سرّاً وأذاعه بالضرورة كاذباً.