ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الصحة النفسية والمدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العمل في مجال حقوق الإنسان في اليمن هو أشبه بالمشي في حقل من الألغام، لكن هذا الوضع اليوم في 2024 لم يعد حكراً على اليمن، بل ينطبق أيضاً على الوضع العام في المنطقة العربية، لا سيما في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان وسوريا وليبيا والسودان وغيرها من البلدان. وبالتالي، جملة من العوامل المتقاطعة مع بعضها التي يجب على الحقوقيات والحقوقيين التعامل معها للاعتناء بصحتهن وصحتهم النفسية. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في البداية علينا أن نتذكر أن العاملات والعاملين في مجال حقوق الإنسان، إلى جانب طبيعة عملهن وعملهم الضاغطة، كباقي البشر يواجهون الأزمات والمتاعب الأخرى من أجل الحصول على الخدمات الأساسية وتبعات تدهور الوضع الاقتصادي في بلدانهن وبلدانهم. علاوة على ذلك، قد تكون بعض الحوادث المؤلمة كفقدان قريب أو التعرض لكوارث من صنع البشر كالحروب أو طبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير من العوامل التي قد تؤثر سلباً على الصحة النفسية عموماً.

لست مختصاً نفسياً، ولكن في هذه المادة سأحاول أن أُبرز بعض الأبعاد التي قد تؤثر على الصحة النفسية للعاملات والعاملين في المجتمع المدني، لا سيما في مجال حقوق الإنسان، بناءً على تجربتي الشخصية والمهنية. وفي تناول مثال حقيقي، سأتطرق في أجزاء من هذه المادة إلى ما تعرضت له منظمة العفو الدولية من أزمة داخلية في 2018 وكيف تجاوزت تلك الأزمة. 

في أيار/ مايو 2018، أنهى غايتان موتو (65 سنة) حياته في مكتب منظمة العفو الدولية في باريس، التي عمل فيها لما يزيد عن 30 سنة، ولاحقاً في العام نفسه أنهت متدربة مدفوعة الأجر في مكتب المنظمة في جنيف حياتها وهي في منزل عائلتها في بريطانيا. دفعت هاتان الواقعتان العفو الدولية إلى إجراء تحقيق داخلي قام به المحامي جيمس لادي (تقرير لادي) ومختصون نفسيون من مجموعة كونتيرا (تقرير كونتيرا) بشكل تعاوني ولكن كلاً منهما كان مستقلاً عن الآخر. كانت خلفية معاناة موتو متعلقة بالتغييرات الداخلية التي خضعت لها المنظمة Global Transition Program (GTP) والتي انتهت بأن يبقى موتو يعمل وحيداً في مكتب باريس، كما ورد في الصفحة 22 من تقرير لادي. وعند قراءة تفاصيل التقرير، يتبين عدم استجابة المنظمة حينها لمطالب موتو، الذي عبّر في أكثر من مناسبة عن حاجته للمساعدة الإدارية، كما أشار في إحدى مراسلته لإدارة المنظمة (سليل شيتي الأمين العام الأسبق للمنظمة) عن شعوره بأنه “معزول ومقوّض”. ولنا أن نتخيل كمية المعاناة الذي قد يتعرض لها شخص لتدفعه إلى الانتحار، والسؤال، هل يجب أن تصل الأمور إلى هذا المستوى؟. 

عودة إلى منطقتنا العربية، تُعد مواجهة الحقوقيات والحقوقيين للسلطات وتهديداتها بالاعتقال أو الاغتيال مثلاً (للأسف) من إحدى المسلمات، وذلك يشمل أولئك العاملات والعاملين في منظمات محلية ووطنية غير حكومية. وقد تخلق هذه المواجهة حالة من الشعور بالتوتر الدائم والقلق الذي قد يتحول إلى مشكلة مزمنة تتطلب رعاية صحية متخصصة. ومن هذا المنظور، لا يُعد الاهتمام بالصحة النفسية ترفاً بل ضرورة عند الاحتياج، لا تقل في أهميتها عن الصحة الجسدية. وهناك جوانب عديدة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كبيئات العمل السامة في منظمات المجتمع المدني ومن بينها تلك العاملة في مجال حقوق الإنسان، وقد تتقاطع مثل هذه البيئات مع عوامل أخرى لتتسبب في تدهور الصحة النفسية للعاملات والعاملين فيها. 

هناك عناصر عدة في السياق الأوسع الذي نعيشه كالتحديات المتعلقة بتمويل برامج حقوق الإنسان لا سيما في السنوات الأخيرة، والتضييق الذي يشهده الفضاء العام في كثير من بلداننا، وأيضاً تأثيرات السياسات الإقليمية التي تعمل على خنق العمل في مجال حقوق الإنسان عموماً. كل هذه العناصر تتعلق بصورة مباشرة وغير مباشرة بالصحة النفسية لتُحدث نوعاً من عدم الاستقرار الوظيفي للعاملات والعاملين في هذا المجال. ومن العوامل الأخرى التي قد تؤثر سلباً على الصحة النفسية هي حالة التخبط الإداري داخل مؤسسات المجتمع المدني في اتخاذ القرارات نتيجة قلة (وفي حالات انعدام) فهم أسس الإدارة الرشيدة، ليصبح الوضع أكثر كارثية، خصوصاً عندما تكون تلك القرارات مبنية على المزاجية وقائمة على الانطباعات الشخصية، بدلاً من الكفاءات العلمية والمهنية. 

ما أثار اهتمامي هو مستوى التشابه في نتائج التحقيقات الداخلية التي أجرتها منظمة العفو الدولية، لا سيما تقرير كونتيرا من جهة، وما قد يختبره العاملون والعاملات في منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية، بما في ذلك المنظمات والمجموعات الحقوقية، من جهة أخرى. ولكن برأيي الفارق المهم والأبرز أن منظمة العفو الدولية اتخذت موقفاً شجاعاً لتتمهل قليلاً وتلقي نظرة على وضعها الداخلي لتقوم بمعالجات. كان من بين هذه المعالجات قبول نتائج التحقيقات، وقبول استقالة معظم كبار موظفيها الدوليين الذين اعترفوا بخطئهم في خلق “مناخ من التوتر وعدم الثقة” داخلياً، مما أدى إلى جعل بيئة العمل سامة، بحسب بعض التفاصيل التي ستُسرد لاحقاً. هذا الموقف الحكيم في تقديري ساهم في الحفاظ على سمعة المنظمة الدولية ونزاهتها، ولم تتورط المنظمة في عنتريات رافضة لنتائج التحقيقات.  

في صفحة 16 من تقرير كونتيرا (المكون من 56 صفحة) أشار أحد العاملين في المنظمة عن الثقافة الداخلية للمنظمة، بأنها “ثقافة سامة من السرية وعدم الثقة – مكان تعقد فيه الصفقات خلف الكواليس”، كما قال آخر “في رأيي، تحاول منظمة العفو الدولية جاهدة ضمان واجبنا في الرعاية، ولكن في كثير من الأحيان لا يكون الأمر أكثر من مجرد وضع علامة في مربع، بدلاً من ضمان عمل الموظفين في ظروف جيدة حقاً”. بالتأمل في منطقتنا العربية، قد لا تتعامل قيادات المنظمات بجدية مع هذا الأمر، بمعنى أنه ليس ذا أولوية، وقد يرقى إلى “تدليل” مبالغ فيه وغير مستحق أو ضروري للعاملات والعاملين. ومن زاوية أخرى، قد تعمد بعض الجهات في منظمات المجتمع المدني إلى تطوير سياسات مثالية متعلقة بالإدارة والصحة النفسية والرفاه للعاملات والعاملين لتكون جذابة لجهات مانحة، لكنها مفرغة من محتواها في التطبيق العملي، وتتكشف حقيقتها عند اختبارها في أول أزمة، وهنا تكون مهمة ملقاة على الجهات المانحة، حيث تركز اهتمامها بطرق صرف المنح المالية، لكنها تتجاهل أو تضع علامة في مربع بشأن الجوانب الأخرى ذات الأهمية القصوى، ومن بينها مسألة الصحة النفسية. 

في الصفحة 17 من تقرير كونتيرا في إجابة عن السؤال ما إذا كانت الصحة النفسية والرفاه أولوية لقيادة المنظمة، لم يجب سوى 4% بأنهم يوافقون بشدة (من أصل 475 موظف وموظفة) في حين تنوعت باقي الإجابات: أوافق 22%، لا أوافق 38%، لا أوافق بشدة 26%، ولا أعلم 10%. وفي الصفحة ذاتها، يقول أحد العاملين: “لقد اعتدت على التعامل مع موضوعات صعبة للغاية سواء في الميدان أو في المكتب، لكن الشعور بعدم التقدير، والأسوأ من ذلك، أن يُنظر إليّ باعتباري شخصاً أمضى وقتاً طويلاً هنا، أمر يصعب التعامل معه للغاية”. وفي الصفحة ذاتها أيضاً يتناول التقرير مسألة “النزاع مع المديرين، وسوء التعامل والتنمر”، وهنا نقطة مهمة، حيث يعتقد بعض قادة منظمات المجتمع المدني من أن تدهور الصحة النفسية والرفاه للموظفات والموظفين هو نتيجة حصرية لطبيعة العمل الصعبة، في حين يجهلون أو يقللون من شأن الوضع الداخلي المؤسسي، الذي قد يشكل عاملاً سلبياً إضافياً، وقد ينتج بسبب النزاع مع المديرين تنامي سياسات الإقصاء في عمليات اتخاذ القرارات المتعلقة بالمؤسسة. 

أما في صفحة 21، فقد وصف التقرير جهود المنظمة في مجال تعزيز الصحة النفسية والرفاه للموظفات والموظفين، بأنها “مرتجلة ومجرد ردود فعل، ومجزأة”. ومن خلال خبرتي قد يحصل لبس في فهم الصحة النفسية والتفريق بينه وبين “الترفيه”، قد يعتقد البعض بأن الترفيه هو ذاته الدعم النفسي، وهذا غير دقيق، من الممكن أن يكون الترفيه أحد الوسائل التي قد تساعد على تحسين الصحة النفسية، لكن لا يمكن بكل حال من الأحوال اعتماد الترفيه كدعم أو علاج نفسي بحد ذاته. الدعم النفسي والعلاج النفسي مجال في غاية التخصص ويجب أن يتم على أيدي متخصصات ومتخصصين في هذا المجال، وبالأهمية نفسها إلقاء نظرة فاحصة على بيئة العمل الداخلية للتأكد من أنها لا تشكل عناصر ضاغطة إضافية على العاملات والعاملين.   

كما أورد التقرير في أجزاء مختلفة يصعب حصرها في هذه المادة، جوانب من الاختلالات الداخلية في المنظمة، التي قد تتطابق مع وضع مؤسسات المجتمع المدني في منطقتنا العربية، يمكن تلخيصها بذكر العناوين الفرعية للتقرير “مديرون لا يفهمون الإدارة” في صفحة 29، و”إساءة استخدام السلطة المزعومة وغيرها من سوء السلوك من قبل المديرين”، و”التنمر والإذلال العلني كأداة إدارية” في صفحة 30، و”مزاعم حول وجود مخالفات في التوظيف والفصل وغيرها من الإجراءات” في صفحة 32. كما قدم التقرير في جزئه الأخير توصيات وخارطة طريق للتغيير. 

في الختام، هي إذاً دعوة لقيادات منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية لا سيما الحقوقية، إلى إجراء مراجعة داخلية حقيقية وصادقة، يجب أن تشمل هذه المراجعة ربط الأبعاد ببعضها بعضاً من أجل دعم الفرق العاملة في هذا المجال الصعب، ويشمل ذلك التعلّم من الدروس المستفادة في تجربة منظمة العفو الدولية، وطريقة تعاطيها مع نتائج التحقيقات، كما يجب أن تكون السياسات الداخلية حقيقية في جوهرها وداعمة لمبادئ الإدارة الرشيدة والحوكمة. كل هذا العمل الضروري الداخلي مهم من أجل ضمان رفاهية الفرق العاملة في المجتمع المدني، لا سيما الحقوقية، لتقوم بدروها في مناصرة حقوق الإنسان في السياق العام، لأن جوهر العمل الحقوقي قائم على المساءلة الذاتية أولاً، قبل مساءلة الجهات والأطراف المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان. كما هي دعوة أيضاً للجهات المانحة إلى أن تركز في تقييماتها ومراجعاتها للسياسات المتعلقة بالإدارة الرشيدة، والصحة النفسية والرفاه، وسياسات الأمن والسلامة للجهات الممنوحة. وعلينا أن نتذكر أن فاقد الشيء لا يعطيه. 

15.10.2024
زمن القراءة: 6 minutes

العمل في مجال حقوق الإنسان في اليمن هو أشبه بالمشي في حقل من الألغام، لكن هذا الوضع اليوم في 2024 لم يعد حكراً على اليمن، بل ينطبق أيضاً على الوضع العام في المنطقة العربية، لا سيما في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان وسوريا وليبيا والسودان وغيرها من البلدان. وبالتالي، جملة من العوامل المتقاطعة مع بعضها التي يجب على الحقوقيات والحقوقيين التعامل معها للاعتناء بصحتهن وصحتهم النفسية. 

في البداية علينا أن نتذكر أن العاملات والعاملين في مجال حقوق الإنسان، إلى جانب طبيعة عملهن وعملهم الضاغطة، كباقي البشر يواجهون الأزمات والمتاعب الأخرى من أجل الحصول على الخدمات الأساسية وتبعات تدهور الوضع الاقتصادي في بلدانهن وبلدانهم. علاوة على ذلك، قد تكون بعض الحوادث المؤلمة كفقدان قريب أو التعرض لكوارث من صنع البشر كالحروب أو طبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير من العوامل التي قد تؤثر سلباً على الصحة النفسية عموماً.

لست مختصاً نفسياً، ولكن في هذه المادة سأحاول أن أُبرز بعض الأبعاد التي قد تؤثر على الصحة النفسية للعاملات والعاملين في المجتمع المدني، لا سيما في مجال حقوق الإنسان، بناءً على تجربتي الشخصية والمهنية. وفي تناول مثال حقيقي، سأتطرق في أجزاء من هذه المادة إلى ما تعرضت له منظمة العفو الدولية من أزمة داخلية في 2018 وكيف تجاوزت تلك الأزمة. 

في أيار/ مايو 2018، أنهى غايتان موتو (65 سنة) حياته في مكتب منظمة العفو الدولية في باريس، التي عمل فيها لما يزيد عن 30 سنة، ولاحقاً في العام نفسه أنهت متدربة مدفوعة الأجر في مكتب المنظمة في جنيف حياتها وهي في منزل عائلتها في بريطانيا. دفعت هاتان الواقعتان العفو الدولية إلى إجراء تحقيق داخلي قام به المحامي جيمس لادي (تقرير لادي) ومختصون نفسيون من مجموعة كونتيرا (تقرير كونتيرا) بشكل تعاوني ولكن كلاً منهما كان مستقلاً عن الآخر. كانت خلفية معاناة موتو متعلقة بالتغييرات الداخلية التي خضعت لها المنظمة Global Transition Program (GTP) والتي انتهت بأن يبقى موتو يعمل وحيداً في مكتب باريس، كما ورد في الصفحة 22 من تقرير لادي. وعند قراءة تفاصيل التقرير، يتبين عدم استجابة المنظمة حينها لمطالب موتو، الذي عبّر في أكثر من مناسبة عن حاجته للمساعدة الإدارية، كما أشار في إحدى مراسلته لإدارة المنظمة (سليل شيتي الأمين العام الأسبق للمنظمة) عن شعوره بأنه “معزول ومقوّض”. ولنا أن نتخيل كمية المعاناة الذي قد يتعرض لها شخص لتدفعه إلى الانتحار، والسؤال، هل يجب أن تصل الأمور إلى هذا المستوى؟. 

عودة إلى منطقتنا العربية، تُعد مواجهة الحقوقيات والحقوقيين للسلطات وتهديداتها بالاعتقال أو الاغتيال مثلاً (للأسف) من إحدى المسلمات، وذلك يشمل أولئك العاملات والعاملين في منظمات محلية ووطنية غير حكومية. وقد تخلق هذه المواجهة حالة من الشعور بالتوتر الدائم والقلق الذي قد يتحول إلى مشكلة مزمنة تتطلب رعاية صحية متخصصة. ومن هذا المنظور، لا يُعد الاهتمام بالصحة النفسية ترفاً بل ضرورة عند الاحتياج، لا تقل في أهميتها عن الصحة الجسدية. وهناك جوانب عديدة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كبيئات العمل السامة في منظمات المجتمع المدني ومن بينها تلك العاملة في مجال حقوق الإنسان، وقد تتقاطع مثل هذه البيئات مع عوامل أخرى لتتسبب في تدهور الصحة النفسية للعاملات والعاملين فيها. 

هناك عناصر عدة في السياق الأوسع الذي نعيشه كالتحديات المتعلقة بتمويل برامج حقوق الإنسان لا سيما في السنوات الأخيرة، والتضييق الذي يشهده الفضاء العام في كثير من بلداننا، وأيضاً تأثيرات السياسات الإقليمية التي تعمل على خنق العمل في مجال حقوق الإنسان عموماً. كل هذه العناصر تتعلق بصورة مباشرة وغير مباشرة بالصحة النفسية لتُحدث نوعاً من عدم الاستقرار الوظيفي للعاملات والعاملين في هذا المجال. ومن العوامل الأخرى التي قد تؤثر سلباً على الصحة النفسية هي حالة التخبط الإداري داخل مؤسسات المجتمع المدني في اتخاذ القرارات نتيجة قلة (وفي حالات انعدام) فهم أسس الإدارة الرشيدة، ليصبح الوضع أكثر كارثية، خصوصاً عندما تكون تلك القرارات مبنية على المزاجية وقائمة على الانطباعات الشخصية، بدلاً من الكفاءات العلمية والمهنية. 

ما أثار اهتمامي هو مستوى التشابه في نتائج التحقيقات الداخلية التي أجرتها منظمة العفو الدولية، لا سيما تقرير كونتيرا من جهة، وما قد يختبره العاملون والعاملات في منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية، بما في ذلك المنظمات والمجموعات الحقوقية، من جهة أخرى. ولكن برأيي الفارق المهم والأبرز أن منظمة العفو الدولية اتخذت موقفاً شجاعاً لتتمهل قليلاً وتلقي نظرة على وضعها الداخلي لتقوم بمعالجات. كان من بين هذه المعالجات قبول نتائج التحقيقات، وقبول استقالة معظم كبار موظفيها الدوليين الذين اعترفوا بخطئهم في خلق “مناخ من التوتر وعدم الثقة” داخلياً، مما أدى إلى جعل بيئة العمل سامة، بحسب بعض التفاصيل التي ستُسرد لاحقاً. هذا الموقف الحكيم في تقديري ساهم في الحفاظ على سمعة المنظمة الدولية ونزاهتها، ولم تتورط المنظمة في عنتريات رافضة لنتائج التحقيقات.  

في صفحة 16 من تقرير كونتيرا (المكون من 56 صفحة) أشار أحد العاملين في المنظمة عن الثقافة الداخلية للمنظمة، بأنها “ثقافة سامة من السرية وعدم الثقة – مكان تعقد فيه الصفقات خلف الكواليس”، كما قال آخر “في رأيي، تحاول منظمة العفو الدولية جاهدة ضمان واجبنا في الرعاية، ولكن في كثير من الأحيان لا يكون الأمر أكثر من مجرد وضع علامة في مربع، بدلاً من ضمان عمل الموظفين في ظروف جيدة حقاً”. بالتأمل في منطقتنا العربية، قد لا تتعامل قيادات المنظمات بجدية مع هذا الأمر، بمعنى أنه ليس ذا أولوية، وقد يرقى إلى “تدليل” مبالغ فيه وغير مستحق أو ضروري للعاملات والعاملين. ومن زاوية أخرى، قد تعمد بعض الجهات في منظمات المجتمع المدني إلى تطوير سياسات مثالية متعلقة بالإدارة والصحة النفسية والرفاه للعاملات والعاملين لتكون جذابة لجهات مانحة، لكنها مفرغة من محتواها في التطبيق العملي، وتتكشف حقيقتها عند اختبارها في أول أزمة، وهنا تكون مهمة ملقاة على الجهات المانحة، حيث تركز اهتمامها بطرق صرف المنح المالية، لكنها تتجاهل أو تضع علامة في مربع بشأن الجوانب الأخرى ذات الأهمية القصوى، ومن بينها مسألة الصحة النفسية. 

في الصفحة 17 من تقرير كونتيرا في إجابة عن السؤال ما إذا كانت الصحة النفسية والرفاه أولوية لقيادة المنظمة، لم يجب سوى 4% بأنهم يوافقون بشدة (من أصل 475 موظف وموظفة) في حين تنوعت باقي الإجابات: أوافق 22%، لا أوافق 38%، لا أوافق بشدة 26%، ولا أعلم 10%. وفي الصفحة ذاتها، يقول أحد العاملين: “لقد اعتدت على التعامل مع موضوعات صعبة للغاية سواء في الميدان أو في المكتب، لكن الشعور بعدم التقدير، والأسوأ من ذلك، أن يُنظر إليّ باعتباري شخصاً أمضى وقتاً طويلاً هنا، أمر يصعب التعامل معه للغاية”. وفي الصفحة ذاتها أيضاً يتناول التقرير مسألة “النزاع مع المديرين، وسوء التعامل والتنمر”، وهنا نقطة مهمة، حيث يعتقد بعض قادة منظمات المجتمع المدني من أن تدهور الصحة النفسية والرفاه للموظفات والموظفين هو نتيجة حصرية لطبيعة العمل الصعبة، في حين يجهلون أو يقللون من شأن الوضع الداخلي المؤسسي، الذي قد يشكل عاملاً سلبياً إضافياً، وقد ينتج بسبب النزاع مع المديرين تنامي سياسات الإقصاء في عمليات اتخاذ القرارات المتعلقة بالمؤسسة. 

أما في صفحة 21، فقد وصف التقرير جهود المنظمة في مجال تعزيز الصحة النفسية والرفاه للموظفات والموظفين، بأنها “مرتجلة ومجرد ردود فعل، ومجزأة”. ومن خلال خبرتي قد يحصل لبس في فهم الصحة النفسية والتفريق بينه وبين “الترفيه”، قد يعتقد البعض بأن الترفيه هو ذاته الدعم النفسي، وهذا غير دقيق، من الممكن أن يكون الترفيه أحد الوسائل التي قد تساعد على تحسين الصحة النفسية، لكن لا يمكن بكل حال من الأحوال اعتماد الترفيه كدعم أو علاج نفسي بحد ذاته. الدعم النفسي والعلاج النفسي مجال في غاية التخصص ويجب أن يتم على أيدي متخصصات ومتخصصين في هذا المجال، وبالأهمية نفسها إلقاء نظرة فاحصة على بيئة العمل الداخلية للتأكد من أنها لا تشكل عناصر ضاغطة إضافية على العاملات والعاملين.   

كما أورد التقرير في أجزاء مختلفة يصعب حصرها في هذه المادة، جوانب من الاختلالات الداخلية في المنظمة، التي قد تتطابق مع وضع مؤسسات المجتمع المدني في منطقتنا العربية، يمكن تلخيصها بذكر العناوين الفرعية للتقرير “مديرون لا يفهمون الإدارة” في صفحة 29، و”إساءة استخدام السلطة المزعومة وغيرها من سوء السلوك من قبل المديرين”، و”التنمر والإذلال العلني كأداة إدارية” في صفحة 30، و”مزاعم حول وجود مخالفات في التوظيف والفصل وغيرها من الإجراءات” في صفحة 32. كما قدم التقرير في جزئه الأخير توصيات وخارطة طريق للتغيير. 

في الختام، هي إذاً دعوة لقيادات منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية لا سيما الحقوقية، إلى إجراء مراجعة داخلية حقيقية وصادقة، يجب أن تشمل هذه المراجعة ربط الأبعاد ببعضها بعضاً من أجل دعم الفرق العاملة في هذا المجال الصعب، ويشمل ذلك التعلّم من الدروس المستفادة في تجربة منظمة العفو الدولية، وطريقة تعاطيها مع نتائج التحقيقات، كما يجب أن تكون السياسات الداخلية حقيقية في جوهرها وداعمة لمبادئ الإدارة الرشيدة والحوكمة. كل هذا العمل الضروري الداخلي مهم من أجل ضمان رفاهية الفرق العاملة في المجتمع المدني، لا سيما الحقوقية، لتقوم بدروها في مناصرة حقوق الإنسان في السياق العام، لأن جوهر العمل الحقوقي قائم على المساءلة الذاتية أولاً، قبل مساءلة الجهات والأطراف المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان. كما هي دعوة أيضاً للجهات المانحة إلى أن تركز في تقييماتها ومراجعاتها للسياسات المتعلقة بالإدارة الرشيدة، والصحة النفسية والرفاه، وسياسات الأمن والسلامة للجهات الممنوحة. وعلينا أن نتذكر أن فاقد الشيء لا يعطيه.